الكنيسة والسجن

الكنيسة والسجن

نيوفيتوس، مطران مورفو (قبرص)


نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

قانون هذا العالم منسوج إلى حدّ بعيد بمفاهيم القصاص والعقوبة. السجن، إذاً، هو أحد النتائج الطبيعية لهذا القانون، الذي يصف تجريدَ الإنسان من حريته بأنّه قصاص للذين يخالفون شروطَ هذا القانون. الكنيسة، بالرغم من أنّها تتعامل بشكل مختلف كليّاً مع الساقطين، أي الذين يخالفون قانون الله، لا بقصاصات بل بالغفران وحلّ الخطايا، إلا أنّها مع ذلك مؤهّلة فعلاً للكلام عن السجن.

سبب هذا أنّها تألف الحبس، من الخارج كما من الداخل، على الرغم من أن هذا الأمر يبدو غريباً. قبل كلّ شيء، المسيح نفسه، كما أغلبيّة قديسي الكنيسة، اختبر شخصياً الحبس، وحتّى التعذيب. القديس ماما، شفيع أبرشيتنا، وُلِد في السجن. قبل أيام قسطنطين الكبير، كلّ الكنيسة عاشت في حرمان من الحرية، في سجن. هذا استمرّ، على درجات متفاوتة، خلال العصور اللاحقة، وحتّى إلى أيامنا. لنتذكّرْ كم من آلافِ المسيحيين كانوا حتّى عهد قريب في سجون الأنظمة الملحِدة، بسبب إيمانهم ليس إلاّ.
من ناحية ثانية، فوق كلّ هذا، المسيح نفسُه جعل السجنَ والمسجونين جزءاً من إنجيله، في إشارة خاصّة: “كنتُ غريباً فآويتموني، عرياناً فكسوتموني، مريضاً فعدتموني، مسجوناً فزرتموني…” (متى 36:25). السجناء، إذاً، بغضّ النظر عن سبب سجنهم، هم بحسب كلمات المسيح نفسه في وضعٍ صعبٍ ويتطلّب زيارتَنا واهتمامَنا ودعمَنا. بالحقيقة، يعطي المسيحُ الكثيرَ من الأهميّة لهذا الأمر، حتّى أنّه يقول أنّ مَن يزور سجيناً يزور المسيحَ نفسه.
السجن إذاً هو وضع هامشي يثير اهتمامَنا من عدّة أوجه. لهذا السبب، … السجون موجودة في برامجنا الرعائية. إذاً، ما سوف أقوله هو كلام خبرة في المقام الأول، خاصةً أني بعد هذه السنوات الكثيرة من زيارات السجون صرت مطّلعاً على المساجين، ويمكنني القول بأنّي قد كوّنتُ صورة أوّليّة عن عالم السجن.
ما أثّر فيّ إذاً منذ اللحظة الأولى هو التالي: ما مِن سجينٍ واحدٍ قابَلَ زيارةَ أسقف سلبياً أو باستخفاف، كما تكون الحالة أحياناً في محيطاتِ خارج السجن. بغضِّ النظر عمّا إذا كانوا يقبلون الاعتراف أو لا، كلّ السجناء ينظرون إلى حضوري بطريقة إيجابية. بالواقع، إنهم يحسّون بأنّهم يُعطَون امتيازاً خاصاً عند زيارة الأسقف الذي يشيرون إليه عادة بعبارة “كاهننا”. الأمر الجدير بالملاحظة على قدر مساوٍ هو الشعور بالخديعة الذي يسيطر على المساجين. ليس لأنهم يعتقدون ببراءتهم، بل شعورهم بأن آخرين قد ارتكبوا مخالفاتٍ تفوق ما ارتكبوه هم بمراحل من دون أن يُعاقَبوا، بينما في النهاية هم وحدهم يدفعون ثمنًا عن الجميع.
بشكلٍ طبيعي، الأمر الذي يشغل الحيّز الأكبر من اهتمام كلّ سجين من دون استثناء، هو أنّه مسجون، أي حرمانه من حريته، وهذا أمر يحسّ به بقوة لا يمكن استيعابها إلا لمَن عاش في السجن. هدفهم جميعاً هو الخروج بأسرع ما يمكن، أو أقلّه تحسين وضعهم بنقلهم من سجن مغلَق إلى ما يعرَف بالسجن “المفتوح”؛ بتعبير آخر، أن يجدوا أنفسهم أكثر قرباً من الحرية المشتهاة. لهذا السبب، كثيرون منهم، بربطهم بين الرتبة الأسقفية وبعض الاتصالات المدنية، يطلبون تدخل الأسقف إما لمنحهم العفو أو لتأمين بعض الشروط المحسّنة لاحتجازهم.
كما أشرتُ سابقاً، المساجين هم في وضعية هامشية، موسومون بشعور أن المجتمع يرفضهم. لهذا السبب هم قبل كلّ شيء بحاجةٍ لحضورٍ ودّي. أحدُ السجناء اعتاد أن يقول لي بصيغة فلسفية: “في كلّ مرة تأتي اجلبْ معك بطرشيلاً، ابتسامةً، كلمةً لطيفة و… علبةَ سجائر…” إذاً، قبل كلّ شيء، حضورُ الكاهن أو الأسقف في السجن أمرٌ واجب، وينبغي أن يكون بشكل أو بآخر عنصراً مندمجاً في عالم السَجن، حاملاً بحضوره بعض الإمكانيات الإيحابية.
لكن بمعزل عن هذا، للكنيسة دور هائل آخر لتلعبه، خاصةً في ما يتعلّق بتحضير السجين لخروجه. عند تلك اللحظة الحاسمة، عندما يكون السجين على وشك الانضمام مجدداً إلى المجتمع، الجانب المقابل من الأرض الذي ينتظر عودته ويستعجل إلى استقباله على أنه شخص مختبِر متخرّج في الجريمة. بيئته القديمة تكون بانتظاره فاتحة ذراعيها لتدفعه إلى عمق التمرد على القانون. لهذا، ينبغي أن يكون عملنا متعددَ الأوجه: لكي تُتفادى هذه العودة إلى السابق ولكي يفصل الشخص نفسه كليّاً عن محيط الخطيئة، في السجن كما بعد خروجه.
خلال احتجازهم، على الكنيسة أن تسعى إلى جعل هؤلاء الأشخاص حسّاسين لكي يتمكّنوا من مواجهة واقع وضعهم؛ لذا، عمل الأب الروحي الأساسي هو محاولة استخراج الاستعداد للانتقام من دواخلهم، إذ بالإجمال، يجد السجناء الذين ارتكبوا جرائم خطيرة أنفسهم عالقين بين اهتمامات إجرامية متضاربة وقد يكون لديهم اتصالات بزمر وعصابات ما يجعلهم يشعرون بأنّ بعد إطلاق سراحهم سوف تكون حياتهم في خطر وبالتالي عليهم “تسديد حسابات” أو على الأقل الانتقام من الذين يعتقدون بأنهم مسئولون بشكل رئيسي عن احتجازهم. عمل الأب الروحي هو محاولة دفن الماضي من جهة، من دون الدخول في تفاصيل تتعلّق بالجريمة أو بحياة السجين السابقة، ومن جهة أخرى محاولة وضع الأسس لحياة مستقبلية طبيعية، بعيداً عن عالم الجريمة، ومن دون الرغبة في الثأر. باختصار، على الكاهن أن يساعد ذلك الكائن المكسور على الاستفادة من سَجنِه روحياً وعلى إضفاء معنى جديد على حياته من خلال التوبة. بتعبير آخر، على أن لا يرى سَجنَه نهاية بل فرصة للمباشرة على أساس مختلف.
بالطبع، هذا لا يمكن تحقيقه بالمحادثة والاحتكاك الشخصي وحسب. مطلوب من الكنيسة القيام بأعمال أخرى وأكثر تحديداً. من الأمثلة مساعدة ذلك الإنسان على استعادة موقعه في المجتمع بعد إطلاق سراحه من السجن، أو على إيجاد وظيفة. لهذا السبب، على الكنيسة أن تحافظ على اتصالاتها بالخدمات أو المؤسسات التي يمكن أن تساعد.
الفترة الأولى بعد إطلاق السراح تكون عصيبة، لأنها المرحلة التي سوف تحدد كيف تميل كفّة الميزان. إذا كان الشعور القوي بالرفض الذي نما في الشخص خلال اعتقاله قد تضخّم حتى صار يرى نفسه عاجزًا عن إعادة الاندماج طبيعياً في المجتمع وعن إيجاد وظيفة أو بيت أو بعض الاتصالات الاجتماعية أو غيرها، فمن المرجَّح أنّه سوف يعود إلى عالم الجريمة بشكل أكثر عنفًا. ونحن جميعاً نعرف أنّه يُستَقبَل هناك بأذرع ممدودة. على الكنيسة أن ترتّب أيضاً (حيث تدعو الحاجة) لدعم عائلات السجناء ماديًا، إذ، بمعزل عن حاجة العائلة الفعلية، فلهذا الدعم تأثير نافع على السجين. من المساعِد جداً أن يزور الكهنة والأساقفة أبناء رعاياهم عند وجودهم في السجن. هذا يساعد على الحفاظ على رباط مهمّ جداً، الشعور بالانتماء للكنيسة المحليّة، ما يعطي لهذا الرباط وزنًا يعاكس كل التأثيرات السلبية التي قد يكتسبها السجين خلال اعتقاله وسوف يساعد على حصر شعوره بالرفض من المجتمع في حده الأدنى.
لهذه الأسباب المذكورة أعلاه ينبغي على الكنيسة أن تكثّف حضورها في السجون، على اعتبار أنً في هذه الأيام، هذا الحضور محدود بكاهن واحد يقيم القداس ويلبّي حاجات الاعترافات. بديهي أن المطلوب هو حضور أكثر قوة. من خبرتي حتّى الآن، أؤمن بأنه يمكن تحقيق المزيد من المساعدة في الاتجاه الذي سبق وصفه، من خلال المعالجة الخاصة للمساجين من الأحداث ومدمني المخدرات. الناشئون المسجونون لجنح ثانوية سوف يواجهون في السجن، بشكل لا يمكن تلافيه، عالماً من الخبرات الإجرامية المتراكمة. فإذا تأسسوا في ذلك العالم، غالبًا ما يتحوّلون إلى أشخاص أكثر سوءاً بدل أن يُصلَحوا (وهذا ما يُتوَقَّع من المؤسسات الإصلاحية). بتعبير آخر، سوف يصيرون قادرين على القيام بجرائم أكثر سوءاً ويصير احتمال عودتهم إلى الحياة الطبيعية أكثر بعداً بشكل متزايد. إنّ تبنّي هذه الحالات صعب، إذ حتّى مدمني المخدرات يزداد وضعهم سوءاً في السجن. فقد رأيت حالات خاصة من الإدمان الخفيف حيث انتقل الشخص من السيئ إلى الأسوأ وانتهى في آخر الأمر كمتعاطٍ للمخدرات القاسية. من ثمّ هناك آخرون اضطروا للجهاد بطريقة تفوق القدرة البشرية لكي لا يزداد تورطهم في المخدرات. لكل هذه الأسباب أؤمن بأنّ من الواجب وجود مقاربة مختلفة للأحداث الذين في السجن ولمدمني المخدرات ومتعاطي المواد المخدّرة.
أختم هذا الموجَز بأن أشير باختصار إلى كيفية نظر المجتمع إلى السجن والسجناء. للأسف، ابتداءً من نقطة ما في الزمن وحتّى الآن، صار مجتمعنا مجبولاً بعقلية أخلاقية مستورَدة؛ ولهذا، النظرة الأكثر قبولاً هي أن “الفتيان السيئين” هم السجناء أو الذين ينبغي سجنهم، أمّا الذين خارج السجن، أي “الفتيان الصالحون” والمواطنون محبو السلام، هم المؤهَّلون للتمتع بحياتهم من دون تشويش. لكنّ الأمور ليست كذلك. ليس من “فتيان صالحين” ولا من “فتيان سيئين”، بل بالأحرى، قد يكونوا موجودين، لكن فقط في الأفلام الرخيصة… مع ذلك، في الحقيقة، السجناء ليسوا مختلفين على المستوى الأخلاقي عن الباقين منّا، إذ الفرق ليس في ما قد فعله المرء في الماضي، بل ما يختار أن يفعل في حياته اليوم، وفوق هذا، كيف يقيّم نفسه أمام أعماله وبشكل عام.
في السجون، قد شهدت حالات من التوبة الغامرة، وأيضاً من الانهماك المذهِل. لقد رأيتُ الأشياء ذاتها خارج السجن أيضاً. لهذا، ما من أحد يُدان وما من أحد يستطيع أن يدين لأن الديّان الحقيقي لم يأتِ بعد. لهذا، يتوجّب علينا أن ننبذ هذه المركزيّة الذاتيّة التي صارت ساكنةً في ضميرنا. وفوق كلّ شيء، علينا ألاّ نعتبر أنّ هناك خطوط تفصل الذين في السجون عن مَن هم خارجها. السجناء هم جزء من جسد واحد، وكما يقول الرسول بولس، عندما يتألّم جزء يكون الجسد كلّه متألّماً.
هذه الحقائق العميقة حول السجن قد عبّر عنها، بطريقة مؤثّرة، سجين عظيم هو الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي. إن روايته “ذكريات من بيت الموتى” هي، إذا صحّ لي أن أصفها، خطبة لاذعة في موضوع السجن والسجناء. هذا الكتاب المميّز، الذي أزكّيه بدون تحفّظ لكونه في رأيي كتابًا لاهوتيًا، يبسط لنا أعماق النفس البشريّة التي لا تُقاس. في ذلك المجتمع الإجرامي في سيبيريا، نميّز مدى الأهواء البشرية الذي لا ينتهي، وقوّة إرادة الإنسان الهائلة في تحديد مصيره، وسقوط المفاهيم المصنّعة مثل “الفتيان الصالحين” و”الفتيان السيئين”. وفوق كلّ هذا، نرى الشر مقاربًا على أنه أمر مرتبط بالحرية. فعلى المدى الطويل هذا هو الأمر برمّتِه: الشرّ هو أحدُ إمكانيات الحرية البشرية. إنّ هذه الحرية نفسها يمكن أن تقود الإنسان إلى القداسة، ولهذه الحرية نقطة بداية يمكن أن تكون في أي مكان وأي زمان – حتى في السجن.

Leave a comment