ملاحظات إكليسيولوجية

 

ملاحظات إكليسيولوجية

المتقدّم في الكهنة ألكسندر شميمن


نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

 

 

1. أحدى أكبر الصعوبات المسكونية التي تواجه الكنيسة الأرثوذكسية هي أن أشكال تفكيرها ومعاييرها مختلفة عن تلك التي للغرب. وبما أن الحركة المسكونية قد تشكّلت بشكل أساسي من افتراضات وحالات لاهوتية غربية، فقد اضطر المشاركون فيها من الأرثوذكس، منذ البداية، إلى التعبير عن مواقفهم ووجهات نظرهم ضمن إطار لاهوتي غريب، أو أقلّه مختلف، عن التقليد الأرثوذكسي. هذا يصحّ بشكل خاص في الإكليسيولوجيا. لم يواجه الشرق الأرثوذكسي لا المجادلات السياسية-الإكليسيولوجية التي كانت نموذجية في الغرب في القرون الوسطى ولا الإصلاح. بالتالي، لقد بقي الشرق حرّاً من الإكليسيولوجيا الدفاعية والتعريفية التي تشكّل أساس الإكليسيولوجيا الغربية، في شكليها الكاثوليكي أو البروتستانتي، والتي تكيّف إلى حدّ كبير الجدل المسكوني حول الكنيسة. في “مصادرنا” (الآباء والمجامع والليتورجيا) لا نجد أيّ تحديد رسمي للكنيسة. هذا لا يعود لأي نقص في الاهتمام أو الوعي الإكليسيولوجيين، بل لأن الكنيسة (في المقاربة الأرثوذكسية) لا توجد وبالتالي لا يمكن تحديدها بمعزل عن محتوى حياتها. بتعبير آخر، ليست الكنيسة جوهراً أو كائناً متميّزاً عن الله والإنسان والعالم، بل هي حقيقة أننا في المسيح والمسيح فينا، هي صيغة جديدة لوجوده وعمله في خليقته، هي حياة الخليقة في الله. إنّها عطيّة الله وجواب الإنسان وتقبّله لهذه العطيّة. إنّها الاتّحاد والوحدة، المعرفة، الشركة، والتجلّي. وبما أنّ “الشكل” لا معنى له بمعزل عن “المحتوى” فإن الإكليسيولوجيا الأرثوذكسية، بدل أن تكون تحديدات وأشكال محددة وشروط ومشروطيات، هي محاولة لتقديم أيقونة تظهِر أنّ الكنيسة هي الحياة في المسيح، أيقونة، لكي تكون صحيحة ووافية، تقوم على كلّ أوجه الكنيسة وليس فقط على وجهها المؤسساتي. فالكنيسة هي مؤسسة، لكنها أيضاً سرّ، وهو سرّ يعطي معنى وحياة للمؤسسة، وبالتالي، هو موضوع الإكليسيولوجيا.

2. قد ينبغي أن تبدأ هذه المحاولة مع الكنيسة كخليقة جديدة. الإكليسيولوجيا الأرثوذكسية ترى تقليدياً بداية الكنيسة في الفردوس وحياتها كتجلٍّ لملكوت الله. “تاريخ الكنيسة يبدأ مع تاريخ العالم. يمكن النظَر إلى خلق العالم كتهيئة لخلق الكنيسة لأن هدف تأسيس الطبيعة هو في ملكوت النعمة” (فيلاريت ميتروبوليت موسكو). إذاً، الأبعاد الأساسية للإكليسيولوجيا الأرثوذكسية كونية وأخروية.
من جهة، لا تجد الخليقة الانعتاق والمصالحة مع الله وحسب، بل أيضاً تجد اكتمالها في المسيح، ابن الله المتجسد آدم الجديد. المسيح هو الكلمة (اللوغوس)، الحياة لكلّ حياة، وهذه الحياة التي فُقِدَت بسبب الخطيئة، تُستعاد وتُنقَل في المسيح، في تجسده وموته وتمجّده، إلى الإنسان وعبره إلى كلّ الخليقة. العنصرة، نزول الروح القدس المحيي، ليست مجرّد تأسيس لمؤسسة قد مُنِح لها قوى وسلطات خاصّة. إنّها تدشين العصر الجديد، بداية الحياة الأبدية، إعلان الملكوت الذي هو “الفرح والسلام في الروح القدس”. الكنيسة هي الحضور المستمرّ للعنصرة كطاقة لتقديس الحياة وتجلّيها، كنعمةٍ هي معرفة الله والشركة معه وفيه مع كل ما هو موجود. الكنيسة هي الخليقة متجددة بالمسيح في الروح القدس.
ولكن، من الجهة الأخرى، المملكة التي أسسها المسيح ويكمّلها الروح القدس ليست من هذا العالم. هذا العالم، برفضه وحكمه على المسيح، حكم على نفسه، وبالتالي ما من أحد يدخل الملكوت من دون موت حقيقي عن العالم، أي رفض العالم باكتفائه الذاتي، من دون وضع كل إيمانه ورجائه ومحبته في العالم الآتي، في النهار الذي لا يعروه مساء الذي سوف يبزغ عند نهاية الزمن. “لأَنَّكُمْ قَدْ مُتُّمْ وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ الْمَسِيحِ فِي اللهِ” (كولوسي 3:3). هذا يعني أنّه بالرغم من سكنى الكنيسة في العالم، إلا إنّ حياتها الحقيقية هي ترقّب ثابت وتوقّع للعالم الآتي، استعداد له، وممر إلى الحقيقة التي يمكن اختبارها في هذا العالم كمستقبل ليس إلا، كوعد وعلامة للأمور الآتية. ثمار الروح (الفرح، السلام، القداسة، الرؤية، المعرفة) حقيقية، لكن حقيقتها هي الفرح الذي يختبره المسافر، بعد رحلة طويلة، عند رؤيته المدينة التي يقصد، والتي ينبغي عليه دخولها. تكشف الكنيسة وتمنح الملكوت الآتي فعلياً، وتصير الخليقة جديدة عندما تموت لذاتها بصورة هذا العالم وتصبح عطشاً وجوعاً إلى تحقق كل الأشياء في الله.
3. إن سرّ الكنيسة كخليقة جديدة ذات بعدين (الكوني والإسخاتولوجي) هو ما يكشف لنا معنى الكنيسة وبنيتها كمؤسسة. يمكن تسمية طبيعة المؤسسة “سرية”، وهذا لا يعني مجرّد اعتماد داخلي بين المنظور وغير المنظور، بين الطبيعة والنعمة، بين المادي والروحي، وأيضاً وقبل كل شيء، جوهر الكنيسة الفعّال كمعبر من القديم إلى الجديد، من هذا العالم إلى العالم الآتي، من مملكة الطبيعة إلى مملكة النعمة. الكنيسة كمجتمع منظور ومنظمة، تنتمي إلى هذا العالم وهي فعلياً جزء منه. وهي ينبغي أن تنتمي إلى هذا العالم لأنّها “مُقامة” لتمثّل العالم وتدافع عنه ولتتّخذ كل الخليقة. إذاً، من صُلب تأسيس الكنيسة هي أن تكون شعباً، جماعة، عائلة، مؤسسة، أمّة، تراتبية، وأن تتخذ، بعبارة أخرى، كل الأشكال الطبيعية للوجود البشري في العالم، في الزمان والمكان. إنها استمرار عضوي لكل الحياة البشرية، مع مجمل التاريخ البشري. إنها جزء أساسي من كلّ الخليقة. وهي كلّ هذا لكي تكشف وتبيّن المعنى الحقيقي للخليقة كإنجاز في المسيح، لتعلِن للعالم نهايته وافتتاح الملكوت. المؤسسة هي إذاً سرّ الملكوت، الوسيلة التي بها تصير الكنيسة دوماً ما هي عليه، تكمّل نفسها كنيسة ًواحدةً مقدسة جامعة رسولية، كجسد للمسيح وهيكل للروح القدس، كحياة جديدة وخليقة جديدة. العمل الأساسي لهذا الإتمام، وبالتالي الشكل الحقيقي للكنيسة، هو الإفخارستيّا: السرّ الذي فيه تنجز الكنيسة العبور من هذا العالم إلى الملكوت، وتقدّم في المسيح كلَّ الخليقة إلى الله، ناظرة إليها كسماء وارض مملؤتين من مجده، وتشترك في حياة المسيح الخالدة على مائدته في ملكوته.
4. تكشف هذه الطبيعة الأسرارية للكنيسة المعنى الحقيقي للصفات الأساسيّة المقبولة عالمياً، التي بها نعترف بالكنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية. كل واحدة من هذه الصفات تنطبق على كلَي المؤسسة وإنجازها، الشكل والمحتوى، الوعد والتحقيق. الكنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية وينبغي بها أن تحقق ذاتها باستمرار كوحدة وتقديس وجامعية ورسولية. ينبغي تحقيق وحدتها المنظورة بأن تكون المحتوى الفعلي للحياة الجديدة (“ليكونوا واحداً كما أننا واحد”)، وكوحدة للجميع في الله ومعه. القداسة المدرَكَة لحياة الكنيسة (مواهب النعمة والتقديس التي تفيض من كل أعمالها) ينبغي أن تكتمل في القداسة الشخصية لكل أعضائها. الجامعيّة (الملء المطلَق للإنجيل الذي تعلنه والحياة التي تنقلها) هي في أن ينمو كلّ جماعة وكلّ مسيحي وكلّ الكنيسة إلى “كمال” الإيمان والحياة. رسوليّة الكنيسة (تحديد هويتها في الزمان والمكان على أنها مجموعة مواهب الكنيسة التي كُشِفَت في العنصرة) هي في الحفاظ عليها كاملة وغير ممزَّقة في كل جيل، دائماً وفي كل مكان. 5. في هذا العالم، تظهِر الكنيسة الواحدة المقدّسة الجامعة الرسوليّة نفسها كتعدد من الكنائس، كل منها هي في الوقت عينه جزء وكلّ. إنها جزء لأنها تكون الكنيسة فقط في وحدتها مع باقي الكنائس وامتثالها للحقيقة الكلّية، مع هذا هي كلّ لأن المسيح موجود والنعمة معطاة وجامعية الحياة الجديدة معلَنة في كل كنيسة بسبب وحدتها مع الكنيسة الواحدة المقدسة الجامعة الرسوليّة. يُعَبَّر عن الوحدة المنظورة لكلّ الكنائس وتُحفَظ في وحدة الإيمان، وحدة البنية الأسرارية، ووحدة الحياة. لوحدة الإيمان قاعدتها ومحتواها في التقليد الشامل. وحدة البنية الأسرارية محفوظة في التسلسل الرسولي الذي هو الاستمرار المنظور والموضوعي لحياة الكنيسة وترتيبها في الزمان والمكان. تظهِر وحدة الحياة نفسَها في اهتمام الكنائس الفعّال ببعضها البعض وكلّها مجتمعة برسالة الكنيسة في العالم.
6. أداة الوحدة في الكنيسة هو الأسقفية. “الكنيسة في الأسقف”. هذا يعني أن في كلّ كنيسة، خدمة الأسقف الشخصية هي في حفظ ملء الكنيسة، أي هويتها واستمرارها مع الكنيسة الواحدة المقدسة الجامعة الرسوليّة، في أن يكون معلّماً للتقليد الجامع، المقدّم في الإفخارستيّا التي هي سرّ الوحدة، الراعي لشعب الله في رحلة حجّه إلى الملكوت. بسيامته على يد أساقفة آخرين وانتمائه إلى الأسقفية العالمية، يمثّل الكنيسة الكنيسة كلّها لكنيسته، أي أنه يجعل كنيسته حاضرة لدى الكنائس الأخرى ويوحدها به، كما يمثّل كلَ الكنائس الأخرى لدى كنيسته. فيه تكون فعلياً كلّ كنيسة جزءاً من الكنيسة الجامعة وتكون الكنيسة الجامعة حاضرة فعلياً في كلّ كنيسة محليّة. في التقليد الأرثوذكسي، وحدة الأسقفيّة، وخاصةً عضو هذه الوحدة، مجمع أو مجلس من الأساقفة، هو التعبير الأسمى عن تعاليم الكنيسة ووظيفتها الرعائية، الفم الملهَم للكنيسة كلّها. لكن “الكنيسة في الأسقف” لا تعني أن أيّاً من الأساقفة أو الأساقفة مجتمعين هم فوق الكنيسة. على العكس، إن تماهي الأسقف الكامل مع اتفاق الرأي الكنسي والتزامه الكامل به وبتعليم الكنيسة وبقداستها، كما في اتحاده العضوي مع شعب الله، هو ما يجعل الأسقف معلماً وحارساً للحقيقة. ففي الكنيسة ما من أحد خالٍ من الروح القدس وكلّ الشعب في الكنيسة مؤتمن على حفظ الحقيقة. لذا الكنيسة هي في الوقت عينه تراتبية ومجمعية، والمبدآن ليسا غير متضاربين وحسب بل هما في توقفهما واحدهما على الآخر جوهريان للتعبير الكامل عن سر الكنيسة.
7. من الضروري أن توجَد الكنيسة الواحدة المقدسة الجامعة الرسولية في العالم ككنيسة عالمية ذات تنظيم ووحدة منظورين، ومن وظيفة الرئاسات وموهبتها أن تخدم كمراكز للشركة والوحدة والتنسيق. يوجَد رئاسات محليّة وإقليمية (ميتروبوليتية وبطاركة) كما يوجد أوليّة عالمية. الإكليسيولوجيا الأرثوذكسية لم تنكِر ابداً أن الأخيرة تقليدياً كانت لكنيسة روما. ولكن تفسير هذه الأوليّة بالعصمة الشخصية للحبر الروماني وسلطته الكونية هي ما قادت إلى رفض الشرق الأرثوذكسي لها.
8. تعلِن الكنيسة الأرثوذكسية أنّها حفظت من دون أيّ تغيير ملء الإيمان والتقليد اللذين أعطيَا للقديسين. في مواجهة الانقسامات المأساوية بين المسيحيين، تؤكّد الكنيسة الأرثوذكسية أنّ السبيل الوحيد لإستعادة الوحدة هي في استعادة وحدة الإيمان التي وحدها تؤهّل كلّ كنيسة للنظر إلى كلّ الكنائس الأخرى على أنّها الكنيسة الواحدة المقدسة الجامعة الرسولية نفسها.
الكنيسة هي في حالة من الاستقرار (statu patriae) وحالة من الترحال (statu viae) في الوقت عينه. حياة الكنيسة مفعَمة بفرح الروح القدس وسلامه لكون “المسيح فينا” ولكونها ظهور الملكوت وسر الدهر الآتي، وهذا الفرح الفصحي هو ما تعبِّر عنه وتتلقاه في العبادة وفي قداسة أعضائها وفي شركة القديسين. إن الكنيسة في حجّ وتوقّع، في توبة وجهاد لأنّ “المسيح فينا”. وفوق كلّ شيء الكنيسة إرسالية، إذ بسبب انتمائها إلى الدهر الآتي، يدخل الفرحُ الذي في المسيح العالم، ورؤية العالم المتجلّي تُمنَح لها حتى تشهد في هذا العالم للمسيح وفيه تخلّص وتعتِق كل الخليقة.

 

St. Vladimir’s Seminary Quarterly, Vol. 11, No. 1, 1967, pp. 35-39

Leave a comment