صومنا هذا

صومنا هذا

سامر عوض

الصيام لغة هو الامتناع، فمن صام عن الشيء امتنع عنه، فهو تجنب نوعية معينة من الأطعمة والأشربة في أوقات معينة من السنة ولذلك إذا أخذنا هذا المفهوم كتعريف دقيق للصيام نكون قد ظلمناه، ولم نعطه حقه فهو مرآة ينظر إليها المؤمن ليرى حقيقة نفسه ويتعرف عليها بأن يكشف ذاته فيكتشفها ويعرفها من خلال اختلائه بنفسه.

عندما خلقنا الله في الفردوس أوجدنا بقربه لكننا بإرادتنا سقطنا في آدم وحواء، لكن صورة الله فينا قد بقيت وإن كنا قد شوهناها وصوته بداخلنا يهدينا ويرشدنا إليه لذلك فنحن نسعى دائماً لكي نكون مع الله فسعينا هذا هو جوهر سبيل عودتنا إلى الله الذي تركناه لا بل عصيناه. ومن لآلئ هذه العودة العديد من الأدوات التي يعرفها القديس نيقولاوس كاباسيلاس بالقنوات كالصوم والصلاة. فالصوم هو امتناع للامتلاء من الروح الذي نفخ في التلاميذ فحولهم من صيادي سمك إلى مبشرين كما تقول الترنيمة (طروبارية العنصرة) فكذلك الصوم هو وسيلة كي نتمكن من البشرى التي من أجلها جاء المسيح إلينا. وذلك ليس بالأقوال فحسب بل بممارستها من خلال الأفعال كما يقول المطران جورج خضر: “فهناك فارق بين الإيمان وممارسة الإيمان” فالصوم كفترة متقطعة من السنة هو ركيزة إذا اعتبرت بداية ليكون المؤمن من خلالها معزوفة تنضح بالروح.لذلك فالصوم كما التوبة فترة قداسة
فالبطن يفرغ من الطعام وذلك أن البطن في وسط الجسم كما أن شجرة معرفة الخير والشر التي تذكر بوجود الله كانت في وسط الفردوس، فالإنسان في فترة الصيام يتحول إلى فردوس أرضي يلهج بالله ليلاً نهاراً، ليتحول الرب من معبود سماوي إلى معشوق أرضي أيضاً لأن الصيام هو فترة اجتهاد تجعلنا نشعر بالله وكأنه معنا وفيما بيننا ليس فيما كان وحسب بل فيما هو كائن وسيكون.
كما أن اجتهاد الإنسان هذا ما هو إلا انعكاس لرغبة حقيقية في أن يكون مسيحاً آخر فعلى كل مسيحي أن يكون مسيحاً ثانياً فكما صام الرب أربعين يوماً معلماً إيانا أهمية السعي والعبادة لله وكما الأم تتجرع الدواء لتعلم ابنها ما عليه أن يفعل
فالمسيحية كما في كل الأديان تعتمد فترات متعددة من السنة كفترة صوم و أول صوم في السنة الطقسية التي تبدأ في الأول من شهر أيلول من كل عام هو الصوم الصغير أو صوم عيد الميلاد (15 تشرين الثاني-25 كانون الأول) أما الصيام الثاني فهو الصوم الكبير الذي يمتد أيضاً على مدى أربعين يوماً يسبقها آحاد التهيئة ويتبعها الأسبوع العظيم كتهيئة للفصح. ويدعى الفصح بالعيد الكبير لذلك يسمى الصيام الذي يسبقه بالصيام الكبير وأما الميلاد فعيد صغير فيسبقه الصوم الصغير. أما الصوم الثالث فهو صوم الرسل الذي يمتد من الاثنين الذي يلي أحد جميع القديسين حتى عيد القديسين بطرس وبولس في 29 حزيران، والصوم الأخير هو الصوم الذي يمتد على مدى الأيام الخمسة عشر السابقة لعيد رقاد السيدة العذراء في 15 آب ويضاف إليها صوم يومي الأربعاء (ذكرى تسليم السيد المسيح) والجمعة (ذكرى موت السيد) وكل الأصوام هي تهيئة للصوم الكبير.
الصوم الكبير هو فسحة للمشتاق لكي ينعتق من أهوائه ويهذب هواه فيلتقي بالله بمن أراد أن يلتقيه ولذلك فقد وضعت الكنيسة في هذه الفترة من السنة مجموعة متكاملة من الطقوس فتتحول صلاة النوم الصغرى إلى صلاة النوم الكبرى (يا رب القوات) من يوم الأحد إلى يوم الخميس مساءً
يقام عشية الأربعاء وصبيحة يوم الجمعة خدمة القدسات السابق تقديسها التي رتبها القديس غريغوريوس الذيالوغوس بابا رومية أما يوم الأحد فيقام قداس القديس باسيليوس الكبير على مدار آحاد الصوم فتكون الكنيسة مكان اجتماع المؤمن بمن يؤمن فيكون بمأمن فطقوس الصوم الكبير قد عرضها المتقدم في الكهنة الأب ألكسندر شميمن بأنها ذات طابع حزن بهي فالحزن للتوبة والعودة فالغفران أما البهاء فبهاء القيامة غاية الصيام بأن يقوم المسيح في داخلنا فيحيينا بأن ينتشلنا من براثن الخطيئة.
الصوم يتألف من أربعين يوماً وخمسة أسابيع، في الأحد الأول نعيد للأرثوذكسية لاستقامة الرأي، وفي الأحد الثاني نعيد للقديس غريغوريوس بالاماس ولنظرياته العقائدية، وفي الأحد الثالث نعيد للسجود للصليب الكريم، ومن بعده الأحد الرابع نعيد للقديس يوحنا كاتب سلم الفضائل وفي الأحد الخامس نعيد للقديسة مريم المصرية رمز التوبة والعودة والغفران. فالأحدين الأول والثاني نعيد لذكرى العقيدة من استقامة وحقيقة إيمان وفي الأحدين الرابع والخامس نقيم تذكاراً لحياة النسك والتوبة والغفران وهنا يبرز الأحد الثالث كصلة وصل بين العقيدة الإلهية والحياة النسكية فإسقاط العقيدة على أرض الواقع هي صليب المؤمن وجهاده لأن رسالته الحقيقية تنبع من إيمانه وتصب في حياته. وهذا غيض من فيض جهد الآباء القديسين من أجل تنظيم وتنسيق عودتنا إلى الله بالأصوام وخصوصاً الكبير منها.
فصيامنا هذا لا هو فترة زمنية معينة ولا امتناع عن تناول أطعمة محددة ولا حتى مجرد طقوس بل هو مرحلة على المؤمن فيها أن ينطلق من جديد نحو الله الذي فيه قبل أن يكون على عرشه في السماوات ولذلك فالصيام كالومضة التي يرفع أثنائها المؤمن رأسه بعد غطسه في هموم الحياة والمعيشة فإن عرف استغلالها يقوم المسيح فينا نحن أبناء القيامة، قيامة النفوس والأجساد، قيامة الروح كي تعود إلى خالقها فتتحقق غايتها وتكون خليقة جديدة خليقة قيامة جديدة. آمين

Leave a comment