المَعبَرُ إلى القيامة

المَعبَرُ إلى القيامة

الأب نقولا مالك

ضرورة الآلام:

عندما كانَ الرَّبُّ يَسُوعُ يُظهِرُ لِتَلاميذِهِ أنَّهُ ينبغي أن يذهبَ إلى أورشليم ويتألّم وَيُقتَل، ويقومَ في اليوم الثّالث، إنتهَرَهُ بطرُسُ قائلاً: “حاشاكَ يا رَبُّ! لا يَكُونُ لَكَ هذا!”. فَقالَ لَهُ الرَّبُّ: “اذهَبْ عنِّي يا شَيطان” (مت 21:8- 23)، مُرِيدًا أنْ يُعَلِّمَهُ أنَّ طريقَ الآلامِ ضروريَّةٌ لِلوُصُولِ إلى القيامة.

وَلَمْ يَقصُدِ الرَّبُّ ذلكَ بالنّسبةِ إليهِ فقط، بَلْ بالنِّسبةِ لِبُطْرُسَ أيضًا، وَلِجَميعِ المؤمنينَ به. لذلك، وعلى أَثَرِ هذِهِ الحادِثَةِ قالَ: “مَن أرادَ أن يتبعَني فَلْيَكْفُرْ بِنَفسِه، وَيَحمِلْ صليبَهُ وَيتبَعْني؛ لأَنَّ مَن أرادَ أن يُخَلِّصَ نفسَهُ يُهلِكُها، وَمَنْ أَهْلَكَ نفسَهُ مِن أجلي وَمِن أجلِ الإنجيلِ يُخَلِّصُها” (مر 34:8-35).
وفي المقطعِ الموازي من إنجيل يوحنّا، يقول: “إنْ لَم تَقَعْ حَبَّةُ الحِنطةِ في الأرضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبقى وَحدَها. ولكنْ إنْ ماتَتْ تأتي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ” (يو 24:12).

ضرورةٌ لا إلْزام:

يقولُ الرَّبُّ: “مَن أَرادَ”، مُشِيرًا إلى عَدَمِ الإلزام. فالسَّيرُ في طريقِ الصَّليبِ لَيسَ إلْزامِيًّا، بِمَعنى أنْ لا أَحَدَ يُجْبِرُكَ عليه، ولا الرَّبُّ نفسُه يُرِيدُ أن يُرغِمَكَ على السَّيرِ فيه. ولكنْ، هذا شيءٌ، وأنَّهُ ضرورِيٌّ لِلخلاصِ شَيْءٌ آخَر.

تَستطيعُ أنتَ أن تَختارَهُ، فتسيرَ نحوَ الحياةِ الأَبَدِيّة؛ وتستطيعُ أن تتجاهَلَهُ، فتُهمِلَ خلاصَك.
القدّيس يوحنّا الذَّهبيُّ الفَم، يُعَلِّقُ على هذا الكلام قائلاً: “الّذي يستخدمُ القُوَّةَ يُنَفِّرُ الآخَرَ في كثيرٍ مِنَ الأحيان، بينما الّذي يتركُ السّامِعَ حتّى يقتنعَ ليتصرَّفَ مِن تِلقاءِ ذاتِهِ، فجاذِبِيَّتُهُ أكبَر. الاعتناءُ بالآخَرِ يَفعلُ فيه أكثرَ مِنَ القُوّة… إنْ كانَتْ طبيعةُ الأمرِ غيرَ قادرةٍ على جَذْبِكَ فَلَنْ تستحقَّ العطيّة، وَإِنْ أُعطِِيْتَها فَلَن تعرفَ جَيّدًا ماذا أَخَذْتَ”.
يقولُ الرَّبُّ هذا الكلامَ مِن بعدِ اعترافِ بطرسَ به أنَّهُ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ. وكأنَّهُ يُريدُ أن يُفْهِمَهُ أَنَّهُ لَن يَنالَ الأكاليلَ بِمُجَرَّدِ اعتِرافِهِ العظيمِ هذا، لذلك عليهِ ألاّ يستريحَ ويَظُنَّ أنَّهُ فَعَلُ كُلَّ ما يتوجَّبُ عليه. عليه أن يُشارِكَ في الآلام لكي يستحقَّ التّكريمَ الأكبر.

إنكارُ الذّات:

تبدأ دربُ الصَّليب بإنكارِ الذّات. وَلِكَي نَفهَمَ ما معنى إنكارِ المَرْءِ ذاتَهُ، لِنَنظُرْ أَوَّلاً ما معنى إنكارِهِ لِلآخَر: إذا قُلْتُ إنَّني أُنكِرُ فُلانًا، هذا يَعني أَنَّني غيرُ مُهتَمٍّ بِهِ، وَمَهما حَدَثَ لَهُ مِن خَيرٍ أو شَرٍّ فلَنْ أَتأثَّر ولن تضطربَ نفسي، حتّى إنَّني لَن أُتعِبَ نفسي في فِعلِ شيءٍ في سبيلِه. إنَّه غيرُ موجودٍ في حساباتي.

بِهذا المعنى، يُرِيدُ الرَّبُّ أن يُنكِرُ تابِعُهُ نفسَه، أي أن يُنكِرَ جَسَدَه، حتّى إذا تعرَّضَ لِلجَلدِ أو أيِّ نوعٍ مِن أنواعِ التَّعذِيب، لا يُشفِقُ عليه؛ وأن يُنكِرَ مشيئتَهُ الذّاتِيّة، لِكَي لا يفعلَ ما يَحلُو لَهُ بَل ما يُرِيدُهُ الرَّبُّ؛ وأن يُنكِرَ مَشاعِرَه، فَلا يستسلمَ لِعاطِفَةٍ بَشَرِيَّةٍ تَصرِفُهُ عَن مَحَبَّةِ الله والشَّوقِ إلى مَلَكُوتِه.

حَمْل الصّليب:

لِكَي لا يتوقَّفَ إنكارُ المَرْءِ ذاتَهُ عِندَ حُدُودِ الكلام، يَطلُبُ الرَّبُّ حَمْلَ الصَّلِيب. وفي النَّصِّ المُوازِي مِن بِشارة لُوقا، يقول: “إنْ أرادَ أحدٌ أن يأتي وَرائي، فَلْيُنكِرْ نفسَهُ وَيَحمِلْ صليبَهُ كُلَّ يَومٍ، وَيَتبَعْني” (لو 23:9)؛ لأَنَّ المطلُوبَ ليسَ أن نحملَ الصَّليبَ مَرَّةً واحدةً وَكَفى، بَل أن نقومَ بذلكَ في حياتِنا كُلِّها.

كَتَمرينٍ عَمَلِيّ، يُمكِنُكَ أن تَحفَظَ باستمرارٍ في ذهنِكَ ذِكرَ المَوت، وأن تستعدَّ كُلَّ يَومٍ لِمُواجَهَتِه. تَمرينٌ آخَر: علَيكَ أن تُواجِهَ موتًا مِن نوعٍ آخَر، ألا وَهُوَ الشَّكّ. إنَّهُ تجربةٌ قاتِلة. دَرِّبْ نفسَكَ على مُواجَهَتِهِ بِشَجاعةٍ وَفَرَح.

إتِّباع المسيح:

إذا أنكرتَ ذاتَكَ، وَحمَلْتَ الصَّلِيبَ، في سَبِيلِ أَيِّ شَيْءٍ آخَر غَيرِ اتِّباعِ المسيح، فَلَنْ تستفيدَ شيئًا. فاللُّصُوصُ، مَثَلاً، يُعانُونَ مِن آلامٍ كَثِيرة لِتَحقيقِ مُرادِهِم، إلاّ أنَّ أتعابَهُم ليستْ مُبارَكة، وَلا تُؤتِي ثِمارًا رُوحِيَّةً لِلخَلاص.

مُجَرَّدُ تَعَرُّضِكَ للشَّدائد ليسَ كافِيًا، لأنَّ المطلوبَ أَنْ تَقرِنَها بِالهَدَف. لأجلِ مَنْ تُواجِهُ الشَّدائد؟ أن تُواجِهُها مِن أجلِ المسيح. لِماذا تتحمَّلُ الصُّعُوبات؟ تتحمَّلُها في سبيلِ إحرازِ الفضائل. النّتيجة، أنَّ اتِّباعَ المسيح يَعني: أَن تَهتَمَّ بِكُلِّ أنواعِ الفضائل، وأنْ تتحمَّلَ كلَّ شيءٍ مِن أجلِه.

ما الّذي يَجعَلُ الصَّليبَ ضروريًّا؟

الرَّبُّ لا يُوصِينا بِحَمْلِ الصَّلِيبِ لأنَّهُ يُحِبُّ أن يُعَذِّبَنا، بَل بِداعي اهتِمامِهِ الكَبيرِ بنا.

إسمَعوا ما يَقولُ سِفرُ الأمثال: “إنْ ضَرَبْتَ ابنَكَ بالعَصا لا يَمُوت. تَضرِبُهُ بالعَصا فَتُنقِذُ نفسَهُ مِنَ الجحيم” (أم 13:23-14).
والمسألةُ ليست مسألةَ ضَربٍ بالعَصا، أو تأديب، بَل مسألة مُواجَهة. كَما أنَّ الجيشَ، إنِ احتَدَمَتِ المعركة، ينبغي لَهُ أن يندفِعَ إلى ساحةِ المعركةِ لِيُواجِهَ العَدُوّ، إِذ لا يستفيدُ مِن البَقاءِ داخلَ الثُّكنةِ شيئًا، بل يُعَرِّضُ نفسَهُ للمَوتِ المُحَتَّم؛ كذلكَ نحنُ، والعالَمُ مِن حَولِنا مَليءٌ بالتَّجارِب، وَنُفُوسُنا تُخامِرُها الشُّرُور باستمرارٍ لِتُوقِعَ بِها، لا نستفيدُ شيئًا مِن بَقائِنا مَكتُوفِي الأَيدي مُستَرِيحين مُتَهاوِنِين، لا بَل نُعَرِّضُ نُفُوسَنا بِهذِهِ الطّريقةِ لِلهَلاكِ الأكيد.
بِهذا المَعنى يقولُ الرَّبُّ: “لأَنَّ مَن أرادَ أن يُخَلِّصَ نفسَهُ يُهلِكُها، وَمَن أَهْلَكَ نفسَهُ مِن أجلي وَمِن أجلِ الإنجيلِ يُخَلِّصُها” (مت 25:16).
إذًا، الرَّبُّ يَسُوعُ المسيح، بِسَبَبِ مَحَبَّتِهِ الكبيرةِ لَنا، وَرَغبَتِهِ في أن نَنجُوَ مِنَ الهَلاكِ الّذي ينتظرُنا وَسنَقَعُ فيه بِسُهُولة، يُنَبِّهُنا قَبلَ فَواتِ الأَوان، لكي نَبدأ بالمُواجَهَة؛ لأنَّنا بِهذِهِ الطّريقةِ نربَحُ إمكانَ الانتصار.
“ماذا يَنتَفِعُ الإنسانُ لَو رَبِحَ العالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نفسَه؟” (مت 26:16)، أي إذا اشتَهَيتَ كُلَّ ما في العالَمِ مِن مالٍ وَسُلطة وَشَهوةٍ جسديّة، تُعَرِّضُ نفسَكَ للعبوديّة، ولا يَسكُنُكَ الرّوحُ القُدُس؛ أَمّا إذا حرَّرْتَها مِن كُلِّ ما يَستَعبِدُها، فَتَحيا حَياةً جديدةً معَ المسيح، وَتَجعَلُهُ قاعدةً لِحَياتِكَ، فَتَكُونُ مَصلُوبًا مَعَهُ، وقائمًا معَهُ من بينِ الأموات.

ختام:

قالَ عالِمٌ غيرُ مسيحيٍّ مرَّةً للمطران جورج خضر، مُنتَقِدًا الدِّيانةَ المسيحيّة: “المسيحيّةُ ديانةُ مأساة”. فأجابَهُ المطران جورج: “إذا أردتَ بِها الكلمةَ اليونانيّةَ تراجيديا، أي حالةَ المأزِقِ الّذي لا خُرُوجَ مِنهُ، فهذا غيرُ صحيح؛ لأنّنا نحنُ نَخرجُ مِنَ الألَمِ بالقيامة”.

حديث في رعيّة كوسبا، مساء الأحد 11/3/2007

Leave a comment