صفحة من دستويفسكي

صفحة من دستويفسكي

في الصّلاة والمحبّة والعلاقة مع الغير


أعدّته عن مجلّة النور راهبات دير مار يعقوب المقطّع – دده، الكورة


لا تنس الصّلاة أيّها الفتى لأنّها إن خرجت من الصّميم فهي تعبّر عن شعور جديد وتولّد فكرة جديدة كنت تجهلها، وعندئذ تتقوّى وتدرك أن الصّلاة تربية وتهذيب.
تذكّر أنّ عليك أن تردّد سرّاً كلّ يوم وكلّ ما قدرت: “أيّها السّيّد أشفق على كلّ الذين يمتثلون الآن أمامك”. لأنّه في كلّ ساعة ينقطع ألوف من البشر عن الوجود الأرضي وتقف أرواحهم أمام الرّبّ. كم من تلك الألوف غادروا الأرض وهم بمعزل عن كلّ شيء يجهلهم الكلّ، حزانى، قلقين أمام عدم اكتراث النّاس لهم. فإذا صلّيت من أجل إنسان مثل أولئك ودون أن يكون لك سابق معرفة به فإنّ صلاتك ترتفع من أقاصي الأرض إلى الله. وعندما تكون روحه ترتعد خوفاً أمام جلالة الخالق تشعر حينئذ أن هناك كائناً على الأرض يحبّها. فيشملكما الله برحمة أوسع، لأنّه إن كنت أنت قد أشفقت على تلك الرّوح بهذا المقدار فكم بالحري هو الذي رحمته لا تُحصَر ومحبّته لا تحدّ. إنّ الله يغفر له بسببك.
لا تخافوا الخطيئة يا إخوتي. أحبّوا الإنسان ولو خاطئاً. ففي هذه المحبّة صورة المحبّة الإلهيّة، الصّورة التي ليس على الأرض أعظم منها. أحبّوا الخليقة كلّها بكلّيّتها وسائر عناصرها، أحبّوا كلّ ورقة، كلّ شعاع، أحبّوا الحيوانات والنباتات لأنّكم إن أحببتم كلّ شيء فإنّكم تفهمون السّرّ الإلهيّ في كلّ شيء. وإذا ما فهمتوه مرّة واحدة فإن الأيّام تزيد معرفتكم إيّاه نضوجاً، وتتوصّلون إلى حدّ تحبّون فيه العالم بكامله حبّاً جامعاً كلّيّاً.
أحبّوا الحيوانات لأنّ الله وهبها نواة الفكر وفرحاً هنيئاً. فلا تعكّروا هناءها هذا ولا تقلقوها بحرمانكم إيّاها ذلك الفرح… لا تعاكسوا خطط الله.
أيّها الإنسان لا تضع نفسك فوق الحيوان، إن الحيوانات بلا خطيئة بينما أنت بعظمتك تدنّس الأرض بمجرّد وجودك عليها مخلّفاً وراءك آثار الفساد. ذلك هو ويا للأسف حظ الكثرة السّاحقة منّا نحن بني الإنسان.
أحبّوا الأطفال خصوصاً لأنّهم هم أيضاً بدون خطيئة، الأطفال كالملائكة خُلقوا لكي يلمسوا بأصابعهم أوتار قلوبنا فتتنقّى بهم تلك القلوب، الأولاد لنا باعث شعور ووعي وإحساس…
ويل لمن يشكّك واحداً من هؤلاء الصّغار… لقد تعلّمتُ أن أحبّهم من إنسان لم يكن يقدر أن يمرّ بأحد منهم دون أن تهزه رعشة عاطفة…
يتساءل الإنسان أحياناً وخصوصاً في حضرة الخطيئة: “أإلى القوّة يجب أن ألجأ أم إلى المحبّة المتواضعة؟” لا تمارسوا أبداً، يا إخوتي، إلا هذه المحبّة، والحقّ أقول لكم إنّكم بها تُخضعون العالم بأسره. إنّ التّواضع المليء بالحبّة لقوّة منقطعة النّظير. في كلّ يوم وفي كلّ ساعة فليراقب كلّ منكم نفسه وليقف من كلّ شيء وعلى الدّوام موقفاً شريفاً رصيناً.
ربّما حدث لكم أن مررتم بقرب طفل وأنتم تتلفّظون بكلمات بذيئة تحت فعل الغضب ولم تنتبهوا للأمر، غير أنّ الطّفل رآكم واحتفظ في داخله النّقي بصورتكم المخزية وهكذا فإنّكم دون معرفة زرعتم في نفسه بذرة فاسدة ربّما نمت وكبرت وكان ذلك لأنّكم لم تستثمروا في أنفسكم المحبّة الفعّالة العاقلة…
يا إخواني، المحبّة سيّد، غير أنّه يجب أن نعرف كيف نكتسب ذلك السّيّد، لأنّه لا يُكتسَب بسهولة بل بجهد مستمرّ. يجب أن نحبّ لا لزمن ولكن دائماً. لا يهمنّا من محبوبنا، لأنّ الشّقيّ نفسه أهل لمحبّة وقتيّة… لقد طلب أخي مرّة الغفران من العصافير. يظنّ البعض أنّ هذا ضرب من الحمق ولكنّه الصّحيح بعينه، لأنّ كلّ شيء يشبه خضمّاً زاخراً تتلاصق أجزاؤه بعضها ببعض وتتّصل بحيث أنّكم إذا هززتموه في مكان انتقلت هزّتكم إلى الطّرف الثّاني من العالم.
هب أنّه من الحمق أن يستغفر الإنسان العصافير، ولكنها هي والولد وكلّ حيوان يحيط بكم يرتاح أكثر فأكثر إذا كنتم أكثر ترفّعاً ممّا أنتم عليه عن سفاسف الخطيئة، بالغاً ما بلغ ذلك التّرفّع.
فإذا امتلكت المحبّة للعصافير، أصبحت العصافير في نشوة داخليّة عميقة. فأحبّوا تلك النّشوة وعمقها مهما بلغت سخافتها في أعين البشر ولا تتورّعوا من التّوسّل إلى تلك الطّيور أن تغفر لكم ذنوبكم وخطاياكم. اطلبوا المسرّة من الله أيّها الأصدقاء وكونوا فرحين كالأطفال وكعصافير السّماء. لا تدعوا الخطيئة تعكّر رسالة كلّ منكم ولا تخافوا أن تقتّم عملكم وتمنعكم من القيام به.
ثم لا تقولوا إنّ الخطيئة والزندقة والقدوة السّيّئة قويّة متّحدة بينما نحن ضعفاء مفكَّكون وإنّ الشّرّ سيظفر ويخنق الخير لأنّ ذلك يثبّط من عزائمكم يا أولادي. ليس هنالك إلا سبيل واحد للخلاص وذلك أن تأخذ على عاتقك كلّ خطايا البشر وعندما تجيب بإخلاص عن الجميع وعلى كلّ شيء ترى أنّ هذا هو الحق بعينه وأنّك بالفعل مذنب بحقّ الجميع وبكلّ شيء. ولكنّك أن تنصّلت من خمولك وضعفك وخلعتهما على الآخرين انتهيت إلى كبرياء شيطانيّ وغضبت على الله.
هذا ما أظنّه في ذلك الكبرياء. إنّه ليصعب علينا أن نفهمه في هذه الدّنيا ولذا فإننّا نقع بسهولة في الخطأ ونرتمي بين أحضانه ظانّين أنّنا في ارتمائنا هذا نقوم بعمل نبيل عظيم.
بين شديد إحساساتنا وتحرّكات طبيعتنا كثير لا نقدر أن نفهمه ونحن على الأرض. فلا تغترّ ولا تظنّ أنّ هذا يمكن أن ينفعك في أيّ شيء لأنّ الحاكم الأسمى يحاسبك على ما كنت تقدر أن تفهمه فقط لا على الباقي. ستقنع نفسك بنفسك لأنّك ستميّز كلّ شيء بدقّة ولا تعترض أبداً.
… على الأرض نحن كالتّائهين… لو لم تكن عندنا صورة المسيح الثّمينة لكي ترشدنا لكنا سقطنا وشُتِّتنا كما سقط الجنس البشري وشتّ قبل الطّوفان… أشياء كثيرة مخبَّأة عنّا في هذا العالم. وبالمقابلة، عندنا الشّعور السّرّي بالرّابط الحيوي الذي يربطنا بالعالم السّماوي. إنّ أصول شعورنا وأفكارنا ليست هنا ولكن في الخارج. لهذا قال الفلاسفة: إنّه لمن المحال فهم جواهر الأشياء على الأرض. إن الله قد أخذ البذور من العوالم الثّانية ليزرعها هنا. لقد حرث الله جنّته وأخذ هذه البذور لزرعها فيها. وكلّ ما كان يمكنه أن ينمو فعل ذلك، ولكن المزروعات التي هي نحن تحيا لوحدها لشعورها بالاحتكاك مع تلك العوالم السّرّيّة. وعندما يضعف هذا الشّعور أو يفنى، يضعف ما نما فينا ويفنى فنصبح كمتفرّجين على الحياة لا بل ماقتينها… هذا ما أظنّ…

Leave a comment