الجمعيات بين عمل الخير والبشارة

الجمعيات بين عمل الخير والبشارة

الخورية سميرة عوض ملكي

العالم مليء بالفقراء والمساكين ممن هم في أغلب الأحيان ضحايا لجشع البشر. لهذا كان لا بدّ لهؤلاء المظلومين والبائسين من أن يجدوا مساندين أكفاء لهم، يساهمون في تخفيف ألم العوز عنهم فيأتي هنا الدور الهامّ الذي تلعبه مؤسساتنا الخيرية واعدةً بالنصرة للمعوزين والمكروبين. ولكن مع أهمية هذا الدور البارز، إلا أنّ ثمة غصة في القلب لأن الكثير من هؤلاء القيّمين أو المساهمين في تلك المؤسسات هم بعيدون، في حياتهم، عن مصدر الخير أي الله. فالله هو الخير المطلق وعملهم يبقى ناقصاً مهما عَظُم لأنّ “كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق نازلة من عند الله أبي الأنوار” (يعقوب1: 17).

إنّ ما يدعو إلى هذا القول هو أنك ترى الكثير من المسيحيين يتهافتون على الانتساب للمؤسسات الخيرية فيما حضورهم في الكنيسة لا يتعدّى، في أغلب الأحيان، الواجبات الاجتماعية. إنّ الله وحده هو الذي يكشف عن كيفية الخدمة التي يريدها وذلك من خلال يسوع الذي بذل نفسه في سبيل خدمة إخوته. فالخدمة قادت المسيح إلى الصليب فولدت الكنيسة يوم الفصح عندما انتقل من هذا العالم إلى أبيه. لهذا، ينبغي أن تؤدّى كلَّ خدمة بقيادة الروح (1كو12: 7)، لأن يسوع بتضحيته بحياته وبالخيرات الأرضية وبإرساله لنا الروح القدس قد زوّدنا بـ”العطاء الحسن” الذي علينا أن نطلبه من الآب. فالخير المادي والخير الروحي كلاهما مرتبط بالله لأنه هو وحده الذي يسبِغ على الأشياء حسنها وصلاحها. وهنا نذكر على سبيل المثال النبي حزقيال الذي يقول عنه الكتاب المقدس بأنه صنع كل ما هو صالح ومستقيم وحق أمام الله لأنه كان يطلب الله من كل قلبه.
الخير في اللغة العربية يعني حصول الشيء على كمالاته، وما يعلمنا إياه الكتاب المقدس هو أنّ الكنيسة، كونها جسد المسيح هي وحدها التي تكوّن الإنسان الكامل الواحد. لأنه كما أنّ الإنسان لا يستطيع أن يحيا بدون رأس هكذا لا يمكن للكنيسة أن تحيا بدون المسيح رأسها الذي تستمد منه حياتها وتناسقها ونموّها (كو2: 19). وإذا كانت الصفة الأساسية لتلك المؤسسات أو الجمعيات هي “الخيرية”، فـ”الخيرية” لغة تعني الجودة والفضل. والفضل هو الإحسان أو الإبتداء به بلا علّة له. ومن المعروف أن الكتاب المقدّس يعتبر الإحسان عنصراً أساسياً من عناصر التقوى الحقيقية. وبالتالي لا يمكن له أن يكون مفصولاً عن الله وإلا كان الإحسان نوعاً من التديّن البشري المحض المصطبغ بالكبرياء والمجد الشخصي وبالتالي يكون رياءً برياء. فالمسيحي، كغيره من الناس عرضة لأن يسقط في المراءاة. والرسول بطرس يحذّر المؤمن من الرياء ويوصيه بأن يعيش بسيطاً كطفلٍ حديث الولادة، عالماً بأنّ الرياء واقف له بالمرصاد (1بطرس2: 1-2). فهو نفسه لم ينجُ من هذا الخطر، عندما وقع في خلاف مع بولس الرسول. فالعطية، إذاً تعترضها “الشهوة” التي يجب محاربتها وذلك عن طريق الإتحاد بعطية الله أي ذبيحة المسيح وأن يضع المسيحيون ذواتهم تحت تصرفه لخدمة الآخرين. وهم بتقبلهم العطية يصبحون أصلاً لسخاءٍ أصيل وخدمة أصيلة. فالسخاء الإنساني يضُلُ عندما ينكر دور النعمة ناسباً فعله لنفسه، وذلك لأن النعمة الإلهية هي ينبوع كل تصرفاته. وهو بالتالي عندما يعي هذا لا يتباهى بعمله ولا يقوم بواجبه لمصلحة نفعية. يجب أن يعرف أنه من خلال إخوته التعساء إنما يصل إلى يسوع المسيح شخصياً. “بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ ” (متى25-40). إذاً، إنّ خدمة الفقراء تصبح من ثمّ تعبيراً عن حبنا ليسوع، فهو الذي نسعفه من خلالهم، في انتظار مجيئه الثاني.
ثمة خطر آخر قد تقع فيه المؤسسات أو الجمعيات الخيرية وذلك عندما لا ترى في الفقر إلا الجانب المادي فقط. وهي بتركيزها على الجانب المادي للفقر تنسى أنّ هناك قيمة روحية كامنة في الفقر إذا ما وضع الفقير ثقته البنوية في الله. الكلّ بحاجة إلى هذه الثقة، أكان عضواً في الجمعية، أو قيّماً عليها، أو متبرعاً لها، أو مستفيداً منها. فهذه الثقة تحقق الشركة في المحبة، وتدفع الكلّ إلى رفع الشكر لله. فيكون شكر المعطي أو الخادم للخالق مساوياً لشكر المستفيد. من هنا أن دور الجمعيات مزدوج، فإلى جانب تقديم المادة عليهم أن يساعدوا الفقراء على معرفة الله كي يكون اتّكالهم عليه لا على الجمعيات. كلا الدورين على نفس الأهمية والحظوة أمام الله. وخطيئة الوثنيين الرئيسية، كما يقول الرسول بولس، تكمن في أنهم عرفوا الله ولم يمجدّوه ولا شكروه (رو1: 21). يكمن التعبير الكامل عن هذا الشكر المسيحي الحقيقي في الإفخارستيا السرية، أي في القداس الإلهي، الذي أعطاه الله للكنيسة وحدها كي تلِد الجميع في محبة لامتناهية.

Leave a comment