لاهوت النشيد المسائي

لاهوت النشيد المسائي

يا نوراً بهياً

الأرشمندريت كاسيانوس عيناتي


“لقد حسُنَ لدى آبائنا القديسين أن يرفعوا تسبيحاً شكرياً عند غروب الشمس ويُضيئوا مصابيح المساء يومياً”، يقول القديس باسيليوس الكبير. هذا التسبيح يعود الى ما قبل القرون المسيحية. فعند اليونانيين كانت عادةٌ أن يستقبلوا نور المساء بالتهليل، ومن هنا أتت التسميّة: “النّورُ البهيّ”. أما عند اليهود، من حيث أخذت صلوات الكنيسة منشأها، كانت العادة أيضاً كما جاء في سفر الخروج (۸:۳٠) “فيوقد عليه (على المذبح) هرون بخوراً عطراً في كلّ غداة حين يُصلح السرج يوقده. وحين يرفعُ السرج بين الغروبين يوقده بخوراً دائماً بين يديّ الرب مدى أجيالكم”. هذا التقليد حُفظ لدى اليهود حتى بعد هدم هيكل أورشليم. أما التلمود فأيضاً يذكر ذلك ويقول: المقصود بهذا التسبيح هو الله نفسه. وقد توارثت كنيسة أورشليم أيضاً هذا التقليد، فكان بعد تشييد كنيسة القيامة العظمى، سنة ۳۲٥م، أن يكون سراجٌ موقدٌ دائماً على قبر السيّد، ومنه في المساء، تُضاء كافة المصابيح عندما يُنشدون تسبيح المساء. أما ترتليان (١٦٠م – ۲۲٥م) وهو يتكلّم عن إحدى الموائد (العشاء) المسيحية، فيذكُر: أنه بعد أن يؤتى بمصباح المساء يقفُ كلّ مسيحي ويرفع آيات التسبيح والشكر لله، إمّا آية من الكتاب المقدّس أو صلاة قلبية خاصة. أما في كتاب التقليد الرسولي العائد الى إبوليط الروماني (۲١٥م) فقد جاء أنه خلال صلاة المساء يجلب الشماس المصباح فيرفع حينئذٍ الأسقف صلاة الشكر، على إضاءة المصابيح، لله الأب الذي أعطانا النور غير المادي بإبنه الوحيد يسوع المسيح.
أمّا القديس غريغوريوس النيصي وهو يُحدِّث عن رقاد أخته القديسة مكرينا فيقول: “كنتُ أودُّ لو يطول النهار لكي لا تصمُت مكرينا عن تحديثنا بكلماتها الحلوة، ولكن لمّا علا صوت المرتّلين أشارت إلينا أن ندخل الكنيسة لتلاوة تسابيح الشكر لحلول نور المساء. وأمّا هي، فمن على سريرها، أدارت ظهرها وابتدأت بالصلاة فيما هي تنظر الى المصباح الذي جلبتهُ إحدى الأخوات الى قلايتها”. فبهذا المفهوم التقليدي القديم جداً، وُضع النشيد الكنسيّ المسائيّ في صلوات الغروب البيزنطية (با نوراً بهياً) عند إضاءة المصابيح في غروب الشمس اليوميّ.
أمّا كاتب هذه القطعة التي ما تزال تُعتبر قلب صلاة الغروب في التقليد البيزنطي حتى اليوم، فهو غير معروف بالرغم من أنّ الإشارة تعود بحسب السواعي السلافيّ إلى صفرونيوس بطريرك أورشليم (٥٥٠م – ٦۳۸م)، المُصلح الليتورجيّ الكبير بعد غزوات الفرس والعرب في النصف الأول من القرن السابع. لكن هذه القطعة وُجدت، قبل أن يجدها صفرونيوس، في السهرانيات السينائية، في قانون ألكسندرونيوس في القرن الخامس الميلادي. وأما بحسب الإشارة الى هذا التسبيح على لسان القديس باسيليوس الكبير في دفاعه عن ألوهيّة الروح القدس، في عشية المجمع القسطنطيني في السنة ۳۸١م، مُستشهداً بمقطع من مقاطع النشيد الكنسيّ القديم القائل: نُسبّح الإله “الأبَ والإبنَ والروحَ القدسَ”. فنفهم أنّ هذا التسبيح الذي تكلّمنا عن غايته ومنشئه لم يُعرَف مَن هو مؤلّفه، لكنَّ المعروف أن الكنيسة منذ العصور الأولى كانت تُنشدهُ، ويُعتَبَر من أقدم الأناشيد الكنسيّة البيزنطيّة.
إنّ تقدمة الشكر للنّور المسائي في المفهوم المسيحي لا يُمكن إلاّ أن تكون تعظيماً للمسيح: “النور الحقيقيّ”. (يو ۹:١). هذا ما يُؤكده القديس كبريانوس أسقف قرطاجة (۲٥۲م)، في كتابه بخصوص الصلاة في أيام الآحاد، بقوله إنّه ينبغي أن نبتدئ الصلاة عند غروب الشمس، في نهاية النهار، لأنّ المسيحَ هو الشمس الحقيقيّة والنهار الحقيقيّ. من هنا أخذ منشأهُ هذا النشيد المسائي، فيتوجّه بكلماته الى إستدعاء المسيح النّور البهيّ، شُعاع مجد الآب: “أيّها النّورُ البهيُّ لِقدس مجد الآب الذي لا يموت، السماويّ، القدّوس، المغبوط، يا يسوع المسيح”، كما أكّد ذلك الإنجيلي يوحنا (يو4:1،۷،۹؛۸،١۲؛۹،٥؛١۲،۳٥،٤٦). وليس فقط هو “النّور” بل وأيضاً “شُعاع مجد الآب” (يو ١:١٤). يؤكّدُ ذلك أيضاً الرسول بولس: “لأن الله الذي أمرَ أن يُشرقَ مِن ظلمةٍ نورٌ هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارةِ معرفةِ مجدِ الله في وجهِ المسيح يسوع” (۲ كور ٤: ٤-٦). أمّا خصائص الآب الواردة في هذا السطر فتعود الى خصائص الآب الواردة في الكتاب المقدّس نفسه: فالقدوس يستعملها الربّ يسوع نفسه في صلاته في (يو ١۷:١١) و”الآب السماويّ” واردة في متى (٥:٤۸؛٦:١٤،۲٦،۳۲؛١٥:١۳؛١۸:۳٥؛٢۳:۹). وفي رؤيا يوحنا اللاهوتيّ تردُ كلمة “السماوي” (رؤ ١١:١۳؛١٦:١١). أمّا صفة “الذي لا يموت”، فإن الله وحده يمتلك هذه الصفة بحسب لاهوت الكتاب المقدّس وتردُ فقط على لسان بولس الرسول مصحوبة بصفة “المغبوط” أيضاً: “…المغبوط، القدير وحده، ملك الملوك وربّ الأرباب الذي له وحده الخلود ومسكنه النور…” (١ تيمو ١٦:٦).
“إذ قد بلغنا الى غروب الشمس ونظرنا نوراً مسائياً، فنُسبّحُ الآبَ والإبنَ ولروحَ القدسَ، الإله”.
فهذه ذوكصولوجية ثالوثيّة في غروب المشمس عند إضاءة نور المساء. فهي جوهر وقلب النشيد المسائي: “الإلهُ المسبّح، كما ثبّتهُ المجمع النيقاوي ليُدحِض تعليم آريوس، لا يُمكن أن يكون سوى أقانيم ثلاثة متساوية في الجوهر الآبُ والإبنُ والروحُ القدس”.
وبما أنّ هذا النشيد يُظهر مساواة بين الآب والإبن والروح القدس، فهو أقدمُ بكثير من المجمع القسطنطيني (۳۸١م) وهذا يعكسه السطر الأخير في النشيد: “يا إبن الله المُعطي الحياة إنّك لمُستحقٌّ في سائرِ الأوقات أن تُسبّحَ بأصواتٍ بارّة، لذلك العالمُ لكَ يُمجّد”. فالمُعطي الحياة هو الآبُ الذي لهُ الحياة في ذاتهِ والذي أعطى الإبنَ أن تكون لهُ الحياة، كما للآبِ في ذاته” (يو ٥:٢٦).
وفي يوحنّا أيضاً، الحياة موجودة في كلمة الله الذي هو قوّة الله الخالقة. “فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس” (يو ١:٤). فالمقطع الأخير يترسّخ في إنجيل يوحنا وفي سائرِ تعليمه فلذلك يتوجّه الى المسيح، الكلمة (١ يو ١:١) إبن الله الوحيد، الذي هو الحياة (يو ٦:۳٥،٥۷) وهذه الحياة هي النور (يو ۸:١٢). وبالنسبة ليوحنا الإنجيلي، غاية تجسّد إبن الله هو “أن تكون لهم الحياة وتكون لهم أوفر (يو ١٠:١٠)، لذلك “كلُّ من لهُ الإبنُ لهُ الحياة” (١ يو ٥:١٢). ويظهر أيضاً إنشاء الرسول يوحنا في الكلمات الأخيرة في النشيد: “العالمُ إيّاك يُمجّد”. فكلمة “العالم” هي بالنسبة ليوحنا المكان الذي يعيش فيه الناس: المكان الذي جاء إليه المسيح (يو ١:۹؛۳:١۹؛١١:٢۷،١٢،٤٦)، الذي استقرّ فيه المسيح (يو ١:١٠؛۹:٥؛١۷:١١) والذي منه انتقلَ (يو ١:١۳). هو أيضاً خاصّة المسيح (يو١:١١). وأيضاً هو المكان الذي صار فيه الخلاص “هكذا أحبّ الله العالم حتى إنه بذل إبنهُ الوحيد” (يو ۳:١٦)، “الرافع خطيئة العالم” (يو ١:٢۹) “من أجل حياة العالم” (يو ٦:٥١) فهذا العالم الذي يرسمه يوحنا هو المكان أيضاً الذي فيه يُمجّد المسيح (يو ۷:۳۹؛١٢:١٦؛١٥:۸؛١٦:١٤،١۷،٤-٥؛٢١:۱۹). “فمجدُ ابن الله هو مجدُ وحيدٍ شارق من الآب (يو ١:۱٤). وهكذا في تمجيدنا لإبن الله نُمجّد اللهَ الآبَ نفسه في التدبير الخلاصيّ الظاهر والمكمّل بيسوع المسيح.
ففي الخلاصة، إننا عند غروب الشمس وإضاءة أنوار المساء، نُرسل التسبيح بالإبن المُتجسِّد للثلاثة الأقانيم التي للإله الواحد. فالثالوث المُسبَّح في هذه التسبحة المسائية لا يظهر إلا بواسطة التدبير الخلاصي الذي أتمّه يسوع المسيح شُعاع الآب بالروح القدس المساوي للآب والإبن في الجوهر حقيقة. لذلك، فتسبحة المساء هذه الموجهة الى يسوع المسيح تُمجِّد من جهةٍ الإله: الآبَ والإبنَ والروحَ القدسَ، وتُسبِّح من حهةٍ أخرى إبن الله الذي بهِ يظهرُ ويُتمّ كلّ التدبير الخلاصي.

Leave a comment