الوحدة المسيحية

الوحدة المسيحية

الأب أنطوان ملكي

أصل هذا النصّ مساهمة في ندوة نظمتها أسرة العاملين في مركز طرابلس لحركة الشبيبة الأرثوذكسية، ألقيَت في بشمزين في 11 شباط 2007. أضيفت بعض التعليقات والملاحظات على النص الأصلي.


الكنيسة: حدودها ووحدتها

يُطرَح اليوم سؤال حدود الكنيسة أعضائها، كونها جسد المسيح ومكان تجلّي الروح، وحول ما إذا كانت منحصرة في “الكنائس الأرثوذكسية” أم هي تمتد لتشمل كنائس أخرى، كالمنضمّة إلى مجلس الكنائس مثلاً.

هذا سؤال لا مكان له في التفليد الأرثوذكسي ومع هذا، فإن الوفود الأرثوذكسية إلى الحوارات المسكونية قد أجابت عليه أكثر من مرة. وأكثر هذه الأجوبة وضوحاً هو ما يُعرَف اليوم ببيان أوبرلين، الذي أصدره وفد أرثوذكسي في أميركا الشمالية في العام 1957 وكان يرأسه الأسقف أثيناغوراس كوكيناكيس وبين أعضائه الأب جورج فلوروفسكي، أول لاهوتيي الأرثوذكسية في القرن العشرين بامتياز.

نحن نعترف في دستور الإيمان بأننا نؤمن “بكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية”. تظهر لنا هذه الكلمات مميزات الكنيسة بدقة. إذاً، الكنيسة واحدة وليس هناك كنائس عديدة. هذا لأنها جسد المسيح الإلهي-البشري. فالمسيح له جسد واحد ولا يمكن أن يكون له أجساد عديدة وبما أن الرأس واحد فالجسد واحد أيضاً. نستدلّ على هذا من قول المسيح للرسول بطرس الذي اعترف بألوهيته: “أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي” (متى 18:16). هنا كلمة ‘كنيسة‘ موجودة بصيغة المفرد وليست بصيغة الجمع. إلى هذه، هناك نقاط أخرى كثيرة تشير إلى هذه الحقيقة وتُظهر بوضوح أن كنيسة المسيح واحدة.
عبّر السيّد عن حقيقة أحدية الكنيسة بصورة القطيع والراعي. كون الراعي الذي يقود الخراف واحد، وكل الخراف تؤلّف قطيعاً واحداً، يعني أن وحدة الكنيسة قائمة بغضّ النظر عن عدد المؤمنين الكبير وعدد الكنائس المحلية المتحدة والمرتبطة معاً بإيمانها وحياتها. فالكنيسة المحلية ليست واحدة من كنائس عديدة، لكنها كنيسة المسيح كاملة. من جهة أخرى، الرعايا لا تفكّ وحدة الكنيسة، لأنّ كل رعية هي الكنيسةُ مصغرةً. والشيء نفسه ينطبق على القطيع، أي جسد المسيح. يعلن الكاهن قبل أن يدعو المؤمنين إلى المناولة أنّ المسيح “يُجزأ ولا ينقسم”، وبالتالي عندما نتناول الأسرار المقدسة، لا نأكل جزءً من المسيح بل المسيح كاملاً، لأن المسيح “موزع على كل الأجزاء بدون انفصال”. وهكذا، بالرغم من وجود كنائس محلية ورعايا عديدة، وحدة الكنيسة قائمة ولا تنفكّ هذه الوحدة إلاّ بالهرطقة. هذا يعني أنّ هناك كنيسة واحدة وهناك أعضاء أو جماعات ينفصلون عنها وينسحبون منها. أحدية الكنيسة لا تُفقد في هذه الحالة، بل الأعضاء المهرطقون ينفصلون عن هذه الأحدية، ولا يعودوا ينتمون إلى جسد المسيح الواحد.
وحدة الكنيسة داخلية وهي تنبعث أولاً وقبل كل شيء من صلتها بالمسيح، وثانياً من الإيمان المشترك الذي هو حياة، وثالثاً من العبادة المشتركة. وبهذا تكون الكنيسة المكان الوحيد للخلاص. نحن في الكنيسة نكون أكيدين أننا سوف نبلغ الشركة مع المسيح والوحدة معه ونصبح أعضاء حقيقيين له. بالطبع، إمكانية المشاركة في النعمة موجودة أيضاً خارج الكنيسة لأن الروح يهبّ حيث يشاء، إنما فقط في الكنيسة يستطيع المرء أن يكون عضواً في جسد المسيح، يأكل جسده ويشرب دمه.
وعليه، الذين يفصلون أنفسهم عن الكنيسة لا يكسرون وحدتها بل هم أنفسهم يُقطَعون منها ويخسرون إمكانية الاتحاد مع جسد المسيح الإلهي-البشري، وبالتالي يصيرون عاجزين عن ممارسة الفضائل الإنجيلية. ففي الكنيسة يستطيع المرء أن يحيا الفضائل الإنجيلية. لهذا السبب، بدون إيمان حقيقي صحيح لا يوجد محبة حقيقية ولا عدالة حقيقية ولا سلام حقيقي: كل هذه تبقى صفات بشرية، قد يكون فيها من الأخلاق أكثر مما فيها من النعمة وعمل الروح. من هنا، مهمة المسيحي الأولى هي البقاء على اتحاد بالكنيسة، من أجل حفظ الإيمان كاعتراف وحياة في المحبة والحق. ولا بدّ من التشديد هنا على تلازم المحبة والحق. فاليوم، بهدف دعم تقارب الأرثوذكس من غيرهم عِبر الحوارات اللاهوتية الثنائية أو الجماعية ضمن مختلف الأطر، ومنها مجالس الكنائس، تمّ اللجوء، حاضراً وفي الماضي، إلى حجتين أساسيتين: 1) إظهار المحبة لغير الأرثوذكس و2) الشهادة للإيمان الأرثوذكسي. وكون المحبة، في كل الأحوال، لا يمكن فصلها عن الحق، عندما لا يترافق حوار المحبة مع حوار الحق، أي أن الحوار لا يؤدّي بالأطراف الذين خارج الكنيسة إلى لقاء المسيح وكنيسته وقبولهم بالحقيقة الخلاصية التي هي المسيح وكنيسته، يصبح حوار المحبة شركاً خطراً يقود إلى لامبالاة (indifference) توفيقية وانفصالية عن وحدة الإيمان وشركة الروح القدس، أي أنّه يفصل الإنسان عن الخلاص. يتساءل كثيرون: أيمكن للمحبة أن تكون ضد الحق؟ الجواب هو نعم، فقد تكون المحبة هوى وخديعة.
الهرطقة هي غياب الحقيقة، هي الخديعة، هي تسلّط الشيطان، وهي تمزيق حقيقة الكنيسة. في العلاقات المسكونية، تُستَعمَل كلمة محبة بغزارة فيما الحقيقة مغيّبة. الجو السائد هو أنّ الحقيقة موضوع للبحث، أي أن أياً من الكنائس لا تحمل الحقيقة وحدها بل ينبغي أن تشارك في البحث عنها. لكن الحق هو غير ذلك، فالكنيسة المسيحية الأرثوذكسية الجامعة ليست في حالة بحث عن الحقيقة لأنها تمتلكها، وينبغي عليها إعطاؤها بمحبة إلى غير الأرثوذكس المحرومين منها أو الذين شوهوها. إن شهادة الإيمان المنشودة لم تتحقق. لا يمكن للإنسان أن يفترض أنّه سوف يشهد للإيمان الأرثوذكسي ويبشّر به، إذا كانت بداية عمله مساومة على الإيمان وإنكار لفرادة الكنيسة الواحدة المقدسة الجامعة الرسولية ووضعها في الخانة نفسها مع الهرطقات والانشقاقات.
يوجد اليوم كلام كثير عن وحدة الكنيسة، وحدة الكنائس، الكنيسة الجامعة، الكنيسة العالمية. هذه تعابير عديمة القيمة لاهوتياً إذ لا نستطيع التحدث عن وحدة إلا وحدة الإيمان. لا نستطيع الكلام عن كنائس منفصلة ومجاهدة لبلوغ الحق والوحدة، إنما عن الكنيسة التي هي دائماً متحدة مع المسيح ولم تفقد الحق يوماً، وعن أشخاص وجماعات انفصلوا عنها.
بعض الأشخاص الذين يتحدثون عن وحدة الكنائس يستعملون حتى التخمة صلاة المسيح الكهنوتية، الموجودة في إنجيل يوحنا، وخاصةً سؤال المسيح للآب بأن يكون تلاميذه واحداً: “ليكونوا واحداً” (يوحنا20:17-22). ولكن قراءة النص بانتباه تكشف أن الكلام هو عن جماعة متفقة في الإيمان وليس إشارة إلى وحدة بين جماعات ذوات إيمان مختلف. كلّ الآباء الذين فسّروا هذا المقطع حكوا عن الاتفاق داخل الجماعة الواحدة التي تشترك بالإيمان الواحد. هذا ما ينبغي إعلانه دون دبلوماسية لأنه حق ولا ينتقص من المحبة. فالحق أرفع من المحبّة، كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: “إذا رأيتم التقوى تتألّم في مكان ما، لا تقدّموا الاتفاق (homonoian) على الحق، بل التزموا بشجاعة حتى إلى الموت… ولا تخونوا الحق في أي مناسبة” (1). إلى هذا، هو ينصح مشدداً: “لا تقبَلوا أي عقيدة منحولة تحت ستار المحبة” (2). إن الدبلوماسية السائدة في العمل المسكوني هي إنكار للحق الذي يكافح كثيرون من غير الأرثوذكس لإيجاده، كما أنّها تغلق الباب أمام كل الساعين إلى الحقيقة في آن واحد.

الكنيسة والحركة المسكونية

وهنا لا بدّ من التعليق على فكرة يوردها المدافعون عن العمل المسكوني في شكله الحالي، وهي أنهم في عملهم يطبّقون ما نردده في الطلبة الثالثة من السلاميّة الكبرى: “من أجل… اتّحاد الجميع”. هذا القول خاطئ إذ إن “الجميع” الذين نذكرهم ليسوا المسيحيين غير الأرثوذكسين. هذا واضح من النص اليوناني حيث ترد العبارة ” της των πάντων ενώσεως”. فالجميع هي ” πάντων pandon”، وهي في حالة الجر لجمع المذكر، بينما الكنيسة في اليونانية “εκκλησίας” مؤنّثة. من هنا أن الجميع تعود هنا إلى الأفراد. إلى هذا، فعبارة “اتّحاد الجميع” مأخوذة من رسالة الرسول بولس إلى أفسس (13:4) “إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ الإِيمَانِ”، وفي تعليق القديس ثيوفيلاكتوس البلغاري على هذا المقطع من الرسالة يقول: “نحن نبلغ وحدة الإيمان أي نظهر أصحاب إيمان واحد أي لا يختلف أحدنا مع الآخر لا في أمور العقيدة ولا في طريقة الحياة. نكون في وحدة الإيمان الحقيقية عندما نمتلك جميعنا الرأي الصحيح في شؤون التعليم ونحفظ وحدة المحبة” (تعليق على العهد الجديد). صلّى الرب في صلاته الكهنوتية: “وَلَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هؤُلاَءِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي بِكَلاَمِهِمْ، لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا” (يوحنا 20:17-21). “هؤلاء” تعود إلى الرسل. بحسب القديس سمعان التسالونيكي، في تعليقه على هذا المقطع، صلاتنا من أجل “اتّحاد الجميع” هي من أجل الوحدة الروحية السرية بين أعضاء الكنيسة “الوحدة في الإيمان الصحيح والمحبة والحياة المرضية لله”. وحتى لو اعتبرنا جدلاً أن “الجميع” تعني الكنائس، فإن كل الرسل والآباء، وخصوصاً القديسين باسيليوس الكبير ويوحنا الذهبي الفم، لا يستعملون كلمة “كنيسة” للإشارة إلى مجموعة منشقّة أو هرطوقية، بل عبارة كنائس هي للإشارة إلى الكنائس المحلية، كما في رسائل الرسول بولس (أنظر 1كورنثوس 2:1 أو غلاطية 2:1)، أو الكنائس التي يذكرها الرسول يوحنا الإنجيلي في الرؤيا (1:2-8). طبعاً هذا لا يعني أننا لا نذكر المنشقين أو الهراطقة، فنحن نصلّي من أجل رجعتهم وعدم توسّع انشقاقهم، سائلين السيد أو طالبين شفاعة والدته أو القديسين. ففي قداس القديس باسيليوس نطلب من السيد “أوقف شقاقات الكنائس، ردّ الضالين، اجمعْ المتفرقين…”، وفي الجزء الثاني من تقاريظ جنّاز المسيح نطلب من العذراء مريم “يا نقيّة، يا طهور، يا والدة الإله، أبعدي عن الكنائس الانشقاق، واشمليها بهدوء وسلام”.

منذ ولادة الحركة المسكونية لم ينجح الأرثوذكس، بالطرق الرسمية، ولم يسعوا أصلاً، بضمّ ولا شخص واحد إلى الإيمان الأرثوذكسي. في المقابل، حصلت انضمامات أفراد، ومن هؤلاء الأفراد نجوم لامعة في عالمنا الأرثوذكسي كمثل الأرشمندريت سارافيم روز والميتروبوليت كاليستوس وير والأستاذ جان كلود لارشيه وكثيرون غيرهم. كما حصلت انضمامات جماعية في الغرب، بالرغم من الاتجاه الخاطئ السائد الذي يشجّع عليه التقارب المسكوني بأنّه ينبغي أن يبقى الكلّ حيث يولدون، بانتظار الوحدة المتوقّعة بين “الكنائس”.

إذاً الكلام عن الشهادة للإيمان الأرثوذكسي دعاية أكثر منه واقع. لقد نتج عن هذا التصادق الطويل الأمد مع غير الأرثوذكس، لا بل والاندفاع نحوهم، تغرّب عن الفكر الأرثوذكسي وتعتيم له، حتى أنّنا صرنا نعامل الهرطقة على أنّها الحقيقة، والهراطقة على أنهم مستقيمو الرأي، ونعتَرف بأصالة كل المعموديات وغيرها من الأسرار، ونكتفي بكلام الآخرين فنسرع نحوهم وهكذا، خطوة خطوة نتقدّم من اللقاءات إلى الصلوات المشتركة فإلى الشركة في الأسرار، حيث يمارسها الكثيرون مع أنهم يعلنون غير ذلك.

وفي كلام المدافعين عن النشاط المسكوني أنهم يعرفون أن الوحدة غير ممكنة في الدنيا بل هي شيء آت في الملكوت. هذا منافٍ للتقليد والكتاب المقدس. فنحن الأرثوذكس متّحدون مع المسيح منذ اليوم ولهذا نحن نتناول جسده ونشرب دمه. أمّا في الملكوت، فالكنيسة الظافرة هي كنيسة المجاهدين المخلِصين الذين لم يحيدوا عن الحمل حين كانوا على الأرض. هذا يعني أن الوحدة إن لم تتحقق هنا فلن تكون هناك. طبعاً، ليس المقصود هنا الكلام عمّن يدخل الملكوت ومَن يبقى خارجه، فهذا للرب وحده. المهم هو أن الوحدة تبدأ من هنا، وإذا لم تكن هدفاً منظوراً فلمَ التعب والجهد؟

هل من “تعاون” مع غير الأرثوذكسيين؟

الجزء الثاني من الموضوع هو للإجابة عمّا إذا كان التعاون بين “الكنائس” في منطقتنا أمر مستحبّ، وفي حال الإيجاب ما هي حدوده.

قبل التطرّق إلى الجزء الثاني من الموضوع أي إلى التطبيق، لا بد من التوقف قليلاً عند تقييم سريع للوضع الأرثوذكسي العام والأنطاكي بشكل خاص.

نحن نعاني اليوم من الدهرية في الكنيسة والمجتمع. الدهرية في الكنيسة، تكمن أولاً في اعتبار الإيمان ديناً وفي اعتبار الكنيسة مؤسسة دينية. هذان الاعتباران في خلفية العقلية المعاصرة، سهّلا مساواة الكنيسة بكل المجموعات الأخرى التي تسمّي نفسها كنيسة، ومنها مثلاً المجموعات التي تزوّج المثليين – بخلاف تعليم الكتاب المقدس – فيما تعتبر نفسها كنائس وبعضها عضو في مجالس الكنائس. من جهة أخرى هذان الاعتباران، أي اعتبار الإيمان ديناً واعتبار الكنيسة مؤسسة دينية، يساهمان في إنزال الإيمان إلى مستوى الرأي، والرأي قابل للمناقشة والتشكيك.

في تبنّي العقلية الدهرية في العلاقات بين المسيحيين، نرى أنه يصير سهلاً الاعتراف بوجود كنائس، فيما الأصل والحقيقة هو وجود كنيسة واحدة. وما لا يعترف به الأغلبية الساحقة من ممارسي الحوار، ومن بينهم أرثوذكسيون، هو أن الكنيسة الأرثوذكسية هي هذه الكنيسة.

ويتبع هذا الأمر، كنتيجة للدهرية، انشغال الحوارات المسيحية بمناقشة المشاريع والنشاطات وقوانين الانتخابات، فيما العقيدة مهمَلة ومحرّم الغوص فيها. ما يدفع إلى ذلك عوامل كثيرة منها العاطفي والسياسي. ففي العامل السياسي أن خوف بعض الأرثوذكس من الاضطهاد، لأنهم أقلية أو لأنهم أهل ذمة، يدفعهم إلى التهاون في أمور الإيمان من أجل وحدة شكلية لن تؤمّن للدهريين إلا شعور وقتي بالأمان مصدره الانتماء إلى جماعة أكبر عدداً، فيما تعرّض الإيمان للذوبان. هذا الكلام نسمعه كثيراً ممن صاروا يجاهرون بأن التمسّك بالأصول، كمثل رفض المناولة المشتركة والعراب غير الأرثوذكسي والصلوات المشتركة، هو تعصّب ليس في مصلحتنا لأننا صرنا أقلية وينبغي أن نتجمّع. هنا لا بدّ من التساؤل: أين الرجاء وأين الشهادة، لا بل حتى أين العلم ودراسة التاريخ؟

أما في العامل العاطفي، فالكلام الكثير عن المحبة يأتي في هذا الإطار. لكن لا محبة حقيقية من دون الحق وإلاّ تكون المحبة مداهنةً وديبلوماسيات ومصالح. أين انعدام المحبة في القول بأن الكنيسة الأرثوذكسية هي الكنيسة؟ هل عدم مناولة غير الأرثوذكس قلة ضيافة وبالتالي انعدام للمحبة؟ إن إقحام العامل العاطفي في موضوع الحوار بين المسيحيين هو قمع لكلمة الحق. كثيرون يصمتون خوفاً من أن يقال لهم بأنهم غير محبين متعصبون متزمتون ويعيشون في عقلية الانشقاق.

تقوم الدهرية على استغلال النفسانيات والعواطف. وطغيان الدهرية على الحوار بين المسيحيين يجعل الكلام عن المحبة في غير مكانه ويجعل نتائجه مسيئة للكنيسة. في عصر دهري كالذي نحن فيه، هناك إغراء قوي لاستنساب كل شيء وللتضحية بإيماننا على مذبح التسامح العالمي لحساب وحدة مسكونية مفهومة بشكل خاطئ.
من جهة أنطاكية، فالخطر محيق بها وخطوط دفاعها تتهاوى الواحد بعد الآخر. هناك ازدواجية في الخطاب، والخطاب يعني التعليم. في ما بيننا نقول شيئاً وفي اللقاءات مع الآخرين نقول غيره. يصل الأمر بنا إلى اعتبار أن أسباب الانشقاق كانت خطأ ما يعني أن كل الآباء على مدى خمسة عشر قرناً كانوا مخطئين. وتأتي الممارسات لتشهد على هذا الوضع: فهنا كنيسة مشتركة يتناوب عليها الكهنة فيما المؤمنون هم أنفسهم، وهناك جناز مشترك، وهنا إكليل ومناولة مشتركة وعرّابون كيفما اتفق، والزواج المختلط سيف مسلط على رؤوسنا في كل يوم. مَن ليس في هذا الخط نوصمه بالتعصّب والتزمّت. كلّ هذا دون أن يقطع أحد كلمة الحق باستقامة. في إنطاكية إمعان في الدهرية وتبنٍ لطرائق دهرية لا تؤدّي إلى الخلاص وتطلق العنان لشهوة الراغبين في امتطاء الكنيسة وصولاً إلى هذا المنصب أو ذاك، أو إلى هذا المركز أو ذاك. كلّ هذا محاكاةً للطوائف الأخرى، بغضّ النظر عن الموقف الإيماني الذي طالما تفرّدت إنطاكية الأرثوذكسية بحمله. وفوق كلّ هذا، لم تجنِ إنطاكية الأرثوذكسية من هذا الانفتاح إلا الانقسامات والتخوين، حتى لا أقول القمع أحياناً.
مع هذا، كل تعاون يهدف إلى تحسين وضع البشرية الساقط مقبول وحدوده محددة في بيان آباء الجبل المقدّس في 30 كانون الأول 2006: أن كثرة اللقاءات المشتركة، خاصة إذا كان فيها صلوات مشتركة، من دون استيفاء وحدة الإيمان كمتطلب أساسي، قد تخلق، من جهة، انطباعات مغلوطة عن وحدة ما، مما يبعد غير الأرثوذكسيين الذين يرون الكنيسة الحقيقية في الأرثوذكسية، ومن جهة أخرى يثلم الحسّ العقائدي عند الكثير من الأرثوذكسيين. وأخطر من هذا، قد تدفع هذه اللقاءات بعضاً من الأرثوذكسيين الأتقياء، القلقين جداً من الانتهاكات الأخيرة للقوانين المقدسة، إلى أن ينفصلوا عن جسم الكنيسة ويخلقوا انشقاقات جديدة”.
من هنا أننا إذا التقينا بغير الأرثوذكس لكي ننقل إليهم الشهادة على إيماننا وتقليدنا، فهذا عمل مقدّس. إذا التقيناهم لكي نعبّر لهم عن احترامنا وحريتنا، فهذا عمل نبيل. أمّا إذا التقيناهم لكي نوزّع كنز الإيمان الحقيقي حصصاً ونتقاسمه معهم، فهذا عمل لا ورع فيه.
من هنا، بعد تحديد حدود المشاركة، ضروري التساؤل عن أشكال التعاون الممكنة. فإذا كان الخدمة الإنسانية المشتركة، هناك خبرات سابقة غير مشجّعة مليئة بالاقتناص. وفي مطلق الأحوال، ما دام الإطار إنسانياُ لماذا نقحم الكنيسة فيه؟ الكنيسة لا تمارس عملاً إنسانياً بل تمارس عمل المحبة والرحمة. وإذا كان كتاب تعليم مسيحي مشترك، فما حصلنا عليه كارثي. ليس للأرثوذكسية فيه وجود. هو أقرب إلى كتب العصر الجديد NEW AGE منه إلى المسيحية. وقد أصدرت مدارسنا الأرثوذكسية حكمها عليه إذ لم تعتمده. أما الحلقات التعليمية المشتركة فلا يبدو أنها مبررة. إذا كنا نختلف في العقيدة كيف نشترك بالتعليم؟ إذا حكينا عن حلقات إعداد للزواج يكون الأمر ممكناً إذا اعتبرنا أن الإعداد للزواج يقوم به طبيب نفساني وطبيب نسائي. أما إذا عدنا إلى مبدأ هذه الحلقات، أي إلى النظرة إلى الزواج، هل نستطيع أن نعلّم نظرة الكثلكة التي ترى الزواج دنساً لذا تحرّمه على الكهنة اللاتين. النشاطات المشتركة للشبيبة قد تكون ممكنة إذا ارتضينا إفراغها من محتواها الإيماني. وعندها ما الحاجة لأن ترعى الكنيسة ما هو موجود. الدنيا مليئة بأماكن النشاطات غير الإيمانية. يقترح البعض كتاب تاريخ مشترك. هل تاريخنا مشترك؟ هل يقرأ غير الخلقيدونيين والموارنة التاريخ كما نقرؤه؟ الجواب هو لا. لو قرأ غير الخلقيدونيون التاريخ كما نقرؤه لما اعترض أحد على الوحدة المبتورة مع السريان. وأخيراً، الصلوات المشتركة ممنوعة بحسب القوانين الكنسية. ليست الليتورجيا وحدها الممنوعة، بل حتى الدخول إلى كنائس غير الأرثوذكس ممنوع لمَن يريد أن يحفظ ضميره نقياً من ناحية القوانين الكنسية. ما يحصل في أسبوع الصلاة من أجل الوحدة، أو حتى في الجنانيز والأعراس غير شرعي. أن يصدر عن أحد مجامع الكنائس المحلية قرار ينظّم هذه الأمور لا يجعلها بالضرورة شرعية. الشرعية هي في التوافق مع القوانين الكنسية وآباء الكنيسة الذين دفعوا دماً حتى علّموا ولم يكتبوا تشريعات لمجرّد تنظيم الأمور.

ختاماً، يلجأ بعض الذين يعتاشون من الحوار المسكوني إلى مجابهة المحافظين بالسؤال التالي: مَن نصّبكم وكلاء على الأرثوذكسية أو محتكرين لها. الموضوع ليس سباقاً على تملّك الأرثوذكسية، بل هو أعمق من ذلك، إنه موضوع خلاص. إذا طوّبنا الناس على اعتقاداتهم لا نكون محبين بل محابين. إن لم نكن في الحق فنحن في الكذب وما نفعله للآخرين وكأنّه حق وهماً يكون. قد نظن أننا على انفتاح وقد نكون صادقين في مشاعرنا، لكن الصدق لا يعني الحق، هناك صدق في الكذب متى ألِفَته نفوسنا، عواطفنا إذ ذاك زائفة. المحبة والحق وجهان لحقيقة إلهية واحدة. المحبة تقيم في الحق والحق يقيم في المحبة، المحبة حق متجسّد والحق إعلان محبة. الحق دواء والمحبة شفاء.


(1) (On the Epistle of St. Paul to the Romans, Homily 22, verse 18, PG 60, 611)

(2) (On the Epistle of St. Paul to the Philippians, Homily 2, verse 10, PG 62, 191)

Leave a comment