حالة النعمة

حالة النعمة

القديس سمعان اللاهوتي الحديث

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

لقد فقدت الطبيعة البشرية حالة النعمة التي كانت لها من خلال خطيئة آدم، لذا من الجوهري لنا أن نعرف ما كان عليه آدم قبل فقدان هذه الحالة، ومّما تكوّنت هذه الحالة، أو ما كان هذا الوضع الصالح والمقدّس الذي كان للإنسان قبل الخطيئة. يخبرنا الآباء القدّيسون أن الله صار إنسانًا حتى من خلال تأنّسه يقيم الطبيعة البشرية مجددًا إلى حالة النعمة. إذًا، علينا أن نعرف بأي طريقة يعود الإنسان إلى هذه الحالة عِبر تدبير تجسد المسيح.

الله، عندما خلق الإنسان في البدء، خلقه مقدّسًا بلا هوى وبلا خطيئة، على صورته ومثاله. وبالضبط كان الإنسان على مثال الله الذي خلقه، لأن الله القدّوس الذي بلا خطيئة وبلا هوى يخلق خليقته على هذا المثال. ولكن بما أن غير التغيّر وغير التحوّل هي من صفاتالألوهة غير المخلوقة وغير الصادرة وحدها، فإنّ الإنسان المخلوق هو متغير ومتبدل، مع أنّه كان عنده الوسيلة والإمكانية بمعونة الله لأن لا يخضع للتحوّل والتغيّر.

وهكذا، فالإنسان كان قدّيساً ولهذا لم يكن بحاجة للناموس، لأن البار لا يحتاج الناموس. أية حاجة للناموس لمَن هو قديس وبلا هوى وطاهر. يوصي الناموس بفعل الخير وليس بفعل الشر. لكن الكتاب يقول بأن “الله رأى كل ما صنع ورأى بأنه حسن جداً” (تكوين 31:1). وهكذا، بما أن كلّ شيء كان حسناً، ما كانت حاجة الإنسان لأن يتعلّم ما هو الحسن وما هو السيء؟ بما أن كل شيء كان حسناً جداً، لم يكن هذا الإنسان الإلهي بحاجة للناموس.

في أي حال، نظراً لأنه كان بمقدوره أن يأكل من كل أشجار الفردوس وحتى من شجرة الحياة نفسها، فقد أُعطي له وصية بألاّ يأكل من شجرة واحدة فقط، حتى يعرف أنّه قابل للتغيّر والتحوّل، فيحترس ويمكث دائماً في تلك الحالة الحسنة المقدسة. الله، بتلك الكلمات التي قالها له في إعطائه الوصية بأنه إن أكل يموت، أعطاه أن يفهم بأنه قابل للتغيّر والتحوّل.

إذاً، في الفردوس في ذلك الحين لم يكن أي ناموس ضرورياً، لا مكتوباً ولا روحياً. لكن بعد أن أكل الإنسان من تلك الشجرة الممنوعة ومات موتاً مراً،  أي أنه سقط بعيداً عن الله وصار خاضعاً للفساد، عندها، ولكي لا يسقط كليّاً بعيداً عن كل خير (لأنّ الشر انتشر بقوة بين الجنس البشري وكان متسلطاً عليه بالقوة بسبب الضعف المشؤوم الذي خضع له الإنسان كنتيجة للفساد)، أُعطي له ناموس لكي يشير إلى ما هو حسن وما هو سيء. فالإنسان كان قد عمي، خرج عن تعقله وصار بلا إحساس، وهكذا صار بحاجة لأن يتعلّم كما يأتي في المزامير: “إكشف عن عينيّ فأرى عجائب من شريعتك”(مزمور 18:119). أترون لأية حالة مزرية أتى الإنسان وكيف صار بحاجة للناموس المكتوب؟ إذ إنه بعد سقوطه لم يعد قادراً على معرفة هذا العالم إلاّ إذا أناره الله من فوق بمعرفته.

لاحقاً، عندما أتى المسيح ضمّ في نفسه بشكل جوهري الألوهة مع البشرية حتى أن هاتين اللتين كانتا منفصلتين إلى أبعد حد، أصبحتا شخصاً واحداً، مع أنهما بقيتا غير منصهرتين ولا ممتزجتين. من ذلك الحين، أصبح الإنسان نوراً من خلال الاتحاد بهذا النور الإلهي الأول الذي لا يغيب، ولم يعد الإنسان بحاجة لأي ناموس مكتوب لأن نعمة يسوع المسيح الإلهية صارت معه وفيه، جالبةً حالة النعمة مثمرةً فيه المحبة والفرح والسلام وعدم الألم والبِر والرحمة والإيمان والاتضاع وضبط النفس. لهذا السبب عندما يعدد الرسول بولس ثمار الروح القدس يختم بقوله: “خلاف هذه لا ناموس” (غلاطية 22:5-23)، لأن البار لا يحتاج لناموس. وأما الذي لم يمتلك بعد هذه الثمار فهو ليس بالمسيح، على ما يقول الرسول: “إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له” (روما 9:8). على الإنسان مثل هذا عليه أن يجاهد ويكافح ليصير من المسيح خشية أن يكون إيمانه به عقيماً. في تلك الحالة، لا يفيده المسيح بشيء. كل نضاله وكل جهاده يجب أن يكون موجهاً نحو اكتساب روح المسيح، وذلك ليعطي ثمار الروح القدس لأن في هذه يكمن الناموس الروحي وحالة النعمة.

لكن إذا كانت الطبيعة البشرية، من خلال تجسد المسيح، تعود مجدداً إلى حالة النعمة كما كانت في البدء، وإذا لم يكن هناك من وسيلة أخرى أو قوة أو حكمة أو عمل أو جهاد به قد تعود الطبيعة البشرية إلى حالة النعمة وتصبح كما خُلقت في البدء، بل فقط هذه العودة هي في يد الله الذي أعطاها وجودها، إذاً ما حاجة الإنسان إلى العمل عبثاً، مجاهداً من أجل هذا من خلال أعماله النسكية وحدها، بالقراءات ومجابهة الشر مرهقاً نفسه بالعطش والجوع والسهرانيات؟ وإذا كانت كل هذه العذابات عبثاً وبلا فائدة للذي لا يعرف سر الخلاص العظيم هذا، تقع على عاتق كل إنسان مهمة تعلم هذا السر ومعرفته حتى لا يجهد بلا جدوى في هذه الآلام ولا يترك نفسه تهلك فيها، وهو الأمر الأكثر شؤماً من أي كارثة أخرى. لهذا ينبغي أن تُحتَمَل كل هذه العذابات لا للوصول إلى حالة النعمة، بل للحفاظ على هذه الحالة التي حصلنا عليها قبلاً في المعمودية المقدسة، إذ إن الآباء القديسين علّمونا أن هذه هي كنز يصعب الحفاظ عليه وعلينا أن ننتبه جيداً كي نحفظه. وفي الحياة الآتية، سوف لن يُمتَحَن المسيحي في ما إذا كان قد أنكر العالم، أو صام، أو أقام السهرانيات، أو صلّى، أو ناح، أو قام بأي من هذه الأعمال في هذه الحياة. لكنه سوف يُسأل بتدقيق عمّا إذا كان عنده بعض الشبه بالمسيح، كابن لأبيه، كما يذكر الرسول بولس: “يا أولادي الذين أتمخّض بكم أيضاً إلى أن يتصوّر المسيح فيكم” (غلاطية 19:4)، “لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح” (غلاطية 27:3).

إذا لم يرَ بوابو الملكوت في المسيحي شَبَه المسيح كإبن لأبيه، لن يفتحوا له هذه الأبواب أبداً ولن يسمحوا له بالدخول. إذ كما أن الذين هم على شبه آدم القديم الذي انتهك وصية الله يبقون خارج ملكوت السماوات، بالرغم من أنّهم ليسوا مذنبين بكونهم على شبه سلفهم آدم، كذلك المسيحيون، على شبه آدم الجديد أي المسيح، يدخلون الملكوت بالرغم من أنّ شبههم بالمسيح ليس صنيعهم، بل هو تُمم بواسطة الإيمان الذي اقتبلوه بالمسيح.

يكمن شبه المسيح في الحق والاعتدال والبِر وهذه جميعاً مع الاتضاع ومحبة البشر. يظهر الحق في كل كلام المرء، ويظهر الاعتدال في كلام الآخرين له. فلأنه معتدل، سواء أكان محاطاً بالمدائح أو بالتوبيخات، يحفظ نفسه بلا تجارب فلا يرتفع بالمديح ولا يتمرمربالتوبيخ. البِر محفوظ في كل أعماله. إذ كما أننا نحدد وزن كل الأمور عن طريق الميزان، وكما نفحص جودة الذهب بحفه على الحجارة، كذلك نحن لا نذهب في أي عمل بعيداً عن حدود البِر إذا كنا نحفظ في فكرنا هذه المقاييس التي أعطانا إياها الرب، أي الوصايا.

الاتضاع هو مثل كنز لا يُسرَق، وهو يُنشأ في الفكر الذي يحمل الإيمان بأنه فقط بقوة النعمة الحاصلة من المسيح تكون كل الصفات الحسنة التي يظهرها الإنسان بنفسه، أي الحق والاعتدال والبِر. محبة البشر هي شبه الله، إذ إنها تصنع الخير لكل الناس، الأتقياء وغير الأتقياء، الأخيار والأشرار، المعروفين والغرباء، تماماً كما أن الله يصنع الخير للجميع، ويشرق الشمس على الأبرار والأشرار ويرسل المطر على الشريرين والخيرين.

وهكذا، إنّ الذين حصلوا على هذا من المسيح فهم يشبهونه، كما يشبه الابن أباه، إذ ليس هناك أيّ ابن من طبيعة مختلفة عن طبيعة أبيه. لهذا صار الله إنساناً، ولهذا صار الاتحاد بين الألوهة والطبيعة البشرية حيث تسود الألوهة على هذه الطبيعة، كما كُتب: “بجلالك اقتحم من أجل الحق والدعة والبر” (مزمور 5:44).

إذاً، مَن لا يملك المسيح عليه من خلال هذه الفضائل التي تحدثنا عنها، لا يشبه المسيح كأب له ولا يستحق دخول ملكوت السماوات. هذه هي الحقيقة. لهذا، كل الجهادات الأخرى هي عبثاً إن لم تكن بهدف هذه الفضائل. فلنجاهد أيها الإخوة لأن نكون على شبه المسيح من خلال هذه الفضائل، حتى نُمنَح ملكوته، له المجد والملك إلى الأبد. أمين.

Leave a comment