المعجزة

المعجزة

ستيليانوس ميتروبوليت أوستراليا للكنيسة المسكونية

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

من أهم مميزات الضعف البشري رؤية الأمور جزئياً، أي رؤية جزء من الحقيقة أو التعاطي معها بنظرة واحدة، بدلاً من الأجزاء الأخرى الموجودة بالطبع. لهذا نقول أن الإنسان أحادي الجانب عند مقاربته أحد الأوجه على حساب الأوجه الأخرى التي قد تعطيه نظرة أكثر شمولاً للموضوع، وبالتالي تساعده على تكوين حكم عادل ونزيه.

في أي حال، علينا أن نعترف بأن هذا الضعف البشري لا ينشأ دوماً من سوء النية. كما أن الناس لا يهملون الأمور برضاهم، ولا هم يعمون أنفسهم ليتحوّلوا أحاديي النظرة. غالباً ما يكون هذا ضعف بالحقيقة السطحية، أو بعض بقايا الطفولة. فالأولادهم عادةً سريعو التأثر، وانتباههم مربوط بنقطة محددة فيثبتون على سطح الأمور بشكل لا يمكن تلافيه، عاجزين عن التغلغل أكثر نحو العمق. لغوياً، السطحية تعني البقاء على السطح.

بغض النظر عن الأسباب التي تجعلنا بالعادة عاجزين عن رؤية كامل الحقيقة، من الواقع أنه، بقدر ما تفلت منا التفاصيل تزداد خسارتنا. إذ لا أحد ينكر أن المعرفة قوة. إلى هذا، بقدر ما تكون معرفتنا دقيقة تزداد قوتنا. وما الأهمية المفرطة المعطاة للمعلومات في السنوات الأخيرة، مع التكنولوجيا الدائمة التطور، إلاّ نتيجة هذه القناعة.

هذه المقدمة المقتضبة ضرورية حتى نتمكن من تفحص، بشكل أكثر سهولة ونظامية، ظاهرة لها نتائج خطيرة، ليس فقط على الحياة اليومية لكل شخص، بل أيضاً على لحظات الشدة الروحية عند المؤمن. نشير هنا إلى طريقة اختبارنا للمعجزات في الحياة وفي الكنيسة إمّا مباشرة (كشهادات عينية) أو بشكل غير مباشر أي بعد أن تحدث، كمستمعين.

بالطبع هذا ليس المكان لوصف أو تحديد ما هي المعجزة. إنما علينا أن نشير باختصار إلى هذه الحقائق البديهية.

بالنسبة لإنسان الإيمان، كل ما هو حولنا وفي داخلنا هو معجزة متكاملة ومستمرة. بدأت هذه المعجزة عندما خُلق كل شيء من العدم وهو يتحرّك نحو “أرض جديدة وسماء جديدة” حسب نعمة الله وليس حسب فضائل هذا العالم. مع هذا، بقدر تتدخّل ظاهرة غير عادية أو مناخية في أوضاع هذا العالم، هذه تسمّى بالعادة معجزة لأنها تتخطّى معرفتنا وخبرتنا وتوقعات، وبالتالي تدهشنا بشكل تلقائي.

إن تسمية هذه الظواهر بالفائقة الطبيعة هو أمر غير صحيح أو على الأقلّ هو مضلل، وذلك لسببين. الأول، كما ذكرنا، كل الطبيعة منذ التكوين كانت مُشبَعة بنعمة الله وعمله المُعجِز. الثاني هو لأن الله، حتى حين يتصرّف بما يفوق الوسائل البشرية، هو لا يستعمل إلا الوسائل الطبيعية كالنور والشكل والصوت وغيرها، وإلاّ ليستحيل على البشرية تلقّي هذه الرسائل الخاصة. وهكذا، علينا أن نسمّي هذه الظواهر العجائبية “استثنائية” و”ليست فائقة الطبيعة”. هذا يعني أنها تبقى ضمن إطار الطبيعة الأوسع، لكنها تُظهر العناصر الطبيعية التي تعمل بطريقة فائقة الطبيعة، بشكل فائق يتخطّى عالم الطبيعية الاعتيادي. لهذا السبب نحن نقول أن المعجزات تتخطى قوانين الطبيعة من دون أن تلغيها.

بديهي للجميع أن الظواهر الفائقة الطبيعة التي نسمّيها معجزات، تسعى إلى إيقاظنا من كسلنا وروتيننا، تلطّف قساوة قلبنا، أو تتخطّى عمانا. لو لم تكن هذه الجروح التي تصيب البشرية الساقطة قد قادت تدريجياً إلى كسوف كامل لله، أي من العالم الحسي، لكنّا بالطبع في موضع اختبار كل الأمور العادية واليومية مثل مفاجآت الأحد.  بكلمات أخرى، كل ما هو اعتيادي وروتيني سوف يبدو كفائق الطبيعة واحتفالي، وفي تلك الحالة سوف لن يكون هناك أي حاجة لما هو فائق الطبيعة. في أي حال، علينا أن نعترف بأنّ المعجزة، التي تحدث بشكل مستمر ولكل الناس هي بشكل أساسي أكبر بكثير من تلك التي تحدث في ظرف محددة وفقط لقلة من الأشخاص أصحاب الامتياز.

إذا كانت هذه الأفكار صحيحة، علينا أن نقف عند أعمال الله العجائبية بمزيد من الرهبة وبقلق مقدّس وحواسنا في أقصى حالات الانتباه جاهدين “لاستيعاب وتسجيل” حتى أصغر تفاصيل المعجزة وظروفها، إذا أمكن. فقط بهذه الطريقة تكون “معلوماتنا” أكبر حجماً و”تحوّلنا الداخلي” أكثر عمقاً مع كل معجزة جديدة تسمح لنا نعمة الله باختبارها.

إذاً، ليس مسموحاً لنا، بأي حال من الأحوال، أن نفتتن كالأطفال الصغار بالنوعية المؤثّرة الخارجية لأي حدث عجائبي قد يحدث. على العكس، علينا أن نبحث بخشوع عن الأسباب الأكثر عمقاً والأبعد لهذه الحادثة غير الاعتيادية، وأن نلج إليها بخوف الله، إذا ما جرى “ما يتخطى العقل والفهم” أمام أعيننا. إذ إن السبب الرئيسي لعمل الله العجائبي ليس  “ليؤثّر” ولا “ليخيف” بل ليحقّق التطهر الذي هو تقديسنا وخلاصنا.

إن الأسباب الأكثر عمقاً وجوهرية هي دائماً “مخبّأة” في داخل الحدث-المفارقة كبُعد سري أو حتى كعامل معياري للمعجزات. بإمكاننا القول أيضاً، أن الله سعيد بالاختباء. رسائله العميقة ليست فقط في العبارات الرئيسية بل في الجمل الثانوية. الله يقوم بهذا بفرح، لا ليلعب “مستخباية” معنا كما يعتقد البعض بشكل ساذج، لكن بالطبع لكي لا نأكل بالملعقة مثل الأطفال. إذا كان مفكرو العصور الحديثة يطلبون، على أساس احترامهم لغيرهم من البشر، قارئاً قادراً على أن يتعاون في التمتع بمكافآت اكتشافهم لبعض الحقائق المخبأة في نص ما، فكم بالحري ربنا مبرّر في دعوته لنا للعمل معاً من أجل خلاصنا بالتكافل كونه شرّفنا بخلقنا على صورته ومثاله.

تحتفل كنيستنا بأعجوبة “واجب الاستئهال” في الحادي عشر من حزيران. علينا أن نلتفت إلى قصة الأعجوبة كما حفظها تقليد جبل أثوس وكما قد تمت طباعتها في السنوات الأخيرة.

بالقرب من إسقيط البروتاتون في كارياس عند دير الضابط الكل يوجد حفرة فيها  قلالي متنوعة. عاش هناك شيخ كاهن فاضل مع ابنه الروحي في قلاية على اسم رقاد والدة الإله. ولما كانت العادة أن تُخدَم السهرانية كل سبت في إسقيط البروتاتون، قال الشيخ قبل انطلاقه عند مساء أحد السبوت “يا بني، كالعادة سوف أذهب لأشترك في خدمة السهرانية. ابقَ في القلاية واقرأ الخدمة”.

وفي وقت متأخر من الليل، قرع أحدهم الباب وركض الراهب مباشرة ليفتح فوجد راهباً آخراً لم يكن يعرفه لكنه دخل وقضى الليل. استيقظ الاثنان ليخدما السحرية وابتدآ بالترنيم. وعندما وصلا إلى “يا من هي أكرم من الشاروبيم”، التي كان قد كتبها القديس قزما المنشئ قبل ذلك الوقت بكثير، رتّلها الراهب كالعادة. أمّا الراهب الغريب فقد بدأ بترتيلها “بواجب الاستئهال حقاً نغبط والدة الإله الدائمة الطوبى البريئة من كل العيوب”. وتابعا معاً إلى النهاية. أما الراهب المقيم فعبّر عن انذهاله كالتالي: “نحن ننشد الجزء الذي يبدأ “يا مَن هي أكرم” ولم أسمع قط “بواجب الاستئهال” ولا حتى آبائي. ومع هذا، أرجوك أن تكتب لي هذه الترنيمة حتى أنشدها أيضاً للعذراء مريم”. فطلب الغريب ورقة وقلماً ليكتبها. لكن الآخر لم يكن لديه لا ورق ولا قلم. فقال له “إذاً اجلب لي قطعة من القرميد”. فوجد الراهب واحدة وأعطاها للغريب الذي كتب عليها بإصبعه، ويا للمعجزة، إذ بالحروف محفورة بعمق وكأنها كتبت على طين ليّن. فقال الغريب “من الآن وصاعداً، أنت وكل الأرثوذكسيين سوف تنشدون هذه الترنيمة على هذا الشكل”. وما أن تفوّه بهذه الكلمات حتى اختفى. لقد كان رئيس الملائكة جبرائيل مرسَلاً من الله ليكشف هذه الترنيمة الملائكية المناسبة لوالدة الإله.

عند عودة الشيخ من السهرانية إلى قلايته، ابتدأ ابنه الروحي بإنشاد “بواجب الاستهال” كما علّمه الملاك. ثم أبرز له الحجر مع الأحرف المحفورة. عند سماعه لهذه المعجزة، انذهل الشيخ وحملا النقش الملائكي إلى البروتاتون ليرياه إلى المتقدم في كلأثوس وغيره من الجماعة. فأخبراهما بكل ما جرى. وبعد أن مجّد الجميع الله شكروا سيدتنا والدة الإله لهذه المعجزة، وأرسلوا الحجر مع رسالة إلى بطريرك القسطنطينية وملكها.

ومنذ ذلك الحين، انتشر النشيد الملائكي في كل العالم لينشده الأرثوذكسيون لوالدة الإله. الأيقونة التي كانت في كنيسة القلاية حيث جرت المعجزة، نقلها رهبان جبل أثوس إلى كنيسة البروتاتون، حيث ما زالت إلى اليوم في الهيكل المقدس”(I.Hatzifotis, Axion Esti Katerini, 1988, p. 22).

عند قراءة هذه الرواية عن الآباء الأثوسيين، قد يصل المرء إلى رؤية جزئين فقط من المعجزة. الأول هو أن رئيس الملائكة ظهر بشكل راهب بسيط، والثاني هو أنه كتب على الحجر القاسي بإصبعه وكأنه طين لين. في أي حال، إذا لم نحصر أنفسنا بهاتين النقطتين الخارجيتين سوف نرى، على مستوى آخر، كامل الحقيقة التي يريد الله أن ينقشها على نفوسنا. البعد الأكثر عمقاً والمخبّأ على شكل “عامل مقياسي” هو رسالة المعجزة الجوهرية، يعبّر عنه “بدون كلمات” في الاستنتاجات التالية التي تُستَمَد من الحادثة التي عاينّاها بشرط أن نتأمَل فيها بتأنٍّ.

استنتاج أول هو أن كل أعمال الإنسان في هذا العالم هي نصف مكتملة، حتى الصلاة، وهي العمل الأكثر قداسة. إلى هذا، تبقى هذه الأعمال غر مكتملة إلى أن يتمّمها الله بمكافأته نوايانا الحسنة، مفضلاً ذلك على النتيجة التي هي دائماً ناقصة.

استنتاج ثانٍ هو أنه عندما يتمم الله ما صنعناه، وما نصنع هو مجزّأ وناقص، ويضيف إليه، لا يضيف إلى النهاية. الإضافة إلى النهاية هي ما يقوم به الناس من إضافة وتتميم لأنهم يتحركون جميعاً على المستوى نفسه. أمّا الله فهو يضيف دائماً في البداية وفقط في البداية. بهذه الطريقة، يحفظ الأساس غير متزعزع لأنه هو وحده، ووحده فقط، قادر على تأمين الأساس كونه معصوماً عن الخطأ. أليس هو، في كل الأحوال، الذي أعطانا كل شيء منذ البداية بخلقنا من العدم؟

هذان الاستنتاجان هما التعليم الأكثر إثارة للندامة الذي نستنتجه من هذه الرواية حول معجزة النشيد. لهذين الاستنتاجين شرعية أبدية لكل مساعينا الأرضية، حتى لا تنحرف هذه المساعي إلى شرك السعي نحو المديح البشري بل لتبقى دائماً منفتحة على نعمة الله ومشيئته الطيبة. وحدها النعمة الإلهية هي مصدر القوة في حياتنا لأنها “تشفي الضعفاء وتكمّل وتملأ كل نقص”.

Leave a comment