الأبوان أرسانيوس ونيقولاوس

الأبوان أرسانيوس ونيقولاوس

تعريب راهبات دير مار يعقوب الفارسي المقطّع

كان الأب أرسانيوس من أصل روسي ومن عائلة تقية. أُعطي اسم ألكسيوس في المعمودية. أحبّ الحياة الرهبانية منذ الصغر، لذا ما أن شبّ حتى ترك العالم قاصداً أديار منطقة مولدافيا، برفقة صديقه نيكيتا الذي كان يشاطره نفس المشاعر والأهداف.

خضع الاثنان لطاعة أحد شيوخ إسقيط المنطقة، الذي لمّا لمس شوق الشابين وتوقهما لنهج حياة روحية مثلى، سامهما راهبين. فأعطى ألكسيوس اسم هابيل، ونيكيتا اسم نيكاندرس. ثم وبعد قليل، لما رأى الشيخ نسك هابيل وتقشّفه وتواضعه العميق، أراد أن يمنحه درجة الشموسية. ولكن هابيل توسّل إلى الشيخ كي يعفيه من هذا الأمر، وأن يدعه يعيش كراهب بسيط. فما كان من الشيخ إلاّ أن أجابه: “ينبغي على الراهب المطيع أن لا يتمّم إرادته الذاتية، أو ما تمليه عليه أفكاره، كما لا يجدر به أن يرشد شيخه إلى ما يجب فعله، ولكن أولى به بالأحرى أن يطيع بصمت ورضى ووداعة”. فضرب حينئذ هابيل مطانية قائلاً: “لقد أخطأت، فاغفر لي أيّها الأب القديس وها أنا طوع بنانك”، وهكذا سيم كاهناً. ثم ما لبث بعد فترة أن أصبح أباً روحيّاً لأخويّة الإسقيط، ومع ذلك لم يتخلَّ أبداً عن تواضعه وطاعته للشيخ، إذ كان يطيعه في كل شيء حتى لو كان الطلب مبالغاً فيه. كما أنّه لم يكن يُقدِم على عمل ما دون طلب بركته. وهكذا عاش هابيل ونيكاندرس في طاعة كليّة وقطعِ مشيئة تامّ مدة ثمانية عشرة عاماً كاملة.

بعد موت الشيخ قرر الاثنان ترك الاسقيط والتوجّه إلى الجبل المقدس، رغم خطورة وصعوبة الطريق التي كان ينبغي أن يجتازاها، ورغم هجمات الأتراك على الجبل آنئذ. وصلا إلى القسطنطينية ثم انطلقا منها سيراً على الأقدام قاصدين الجبل المقدس، حيث وصلاه بعد ستة أشهر. فوجدا الأديار مغلقة، والقلالي موحشة، والرهبان مشتّتين متفرّقين. فاتخذا لنفسيهما منسكاً قرب دير إيفيرون، حيث جابها لأول وهلة مخاطر جمّة وصعوبات لا حدّ لها، كانت مصدراً لغنى روحي كبير تمتعا به. لان الصبر على الأحزان، وصعوبة تأمين ضروريات الحياة، سرعان ما أتيا بثمار روحية وافرة. فقد أغدق عليهما رب القوات مواهب روحية جمّة، ومدّهما بقوة خفيّة استطاعا بها أن يغلبا العدو اللامنظور، وان يروِّضا أهواء النفس والجسد ويخضعاها. فلقد تمتع هابيل بموهبة التمييز والبصيرة الروحية، في حين حاز نيكاندرس موهبة الدموع.

بعد أن حلّ السلام، وساد الهدؤ، أخذ الرهبان يتجمّعون من جديد، كما بدأ الزوار يتقاطرون لزيارة الجبل المقدس والتبرّك من مقدساته. وجاء ذات يوم أحد الأتقياء الأغنياء، فابتاع كل مصنوعات الرهبان اليدوية، التي لم تكن قد بيعت بسبب الهجمات المتواصلة. وهكذا استطاع أبوانا أن يحصلا على ألفي ليرة نقدية.

وبعد فترة قدم اليهما زائر يطلب صدقة ليحرر امرأته وولديه الذين أسرهم الأتراك، وهو يحتاج إلى ألفي ليرة لإكمال المبلغ. فما كان من الشيخ هابيل إلاّ أن وهبه ما كان يملك من المال قائلاً: “اذهب وحرّر ذويك”. فأخذهما الرجلباكياً شاكراً الله وخادمه البار. ولما علم نيكاندرس بما حصل احتجّ قائلاً: “لماذا دفعت له كل المال يا أبي؟ لقد تحملّنا في جمعه آلاماً وصعوبات عظام مدة أربع سنوات من أجل احتياجاتنا، أفتدفعها أنت مرة واحدة؟” فأجابه الأب قائلاً: “متى سنصبح رهباناً حقيقيّين أيها الأب نيكاندرس؟ لقد رعانا الله وأعاننا في كل ضيقاتنا، أفلا يستطيع الآن أن يؤمّن لنا ضرورياتنا؟ ألم تسمع قوله: حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم؟ فلنحرص إذن أن يكون الله ثروتنا وغنانا وهو يهتم بالباقي”. فلما سمع نيكاندرس هذا، انطرح على قدمي الأب هابيل نادماً مستغفراً. ومنذ ذلك الحين لم يعد يهتم أو يبالي بشيء من أمور الدنيا منصرفاً بكليّته للأمور الروحية.

ثم ما لبث أن توشّح كلاهما بالإسكيم الكبير المقدّس: الأب هابيل تحت اسم أرسانيوس، ونيكاندرس تحت اسم نيقولاوس. وهكذا عاش الاثنان كأب وتلميذه في إسقيط يوحنا المعمدان مدة عشر سنوات.

كان نظام حياتهما قاسياً متقشّفا، إنْ في ممارسة الصوم، أو في تطبيق القانون اليومي وإتمام الخدم. وأمّا صمتهما فكان كاملاً لا يقطعاه إلاّ عند الضرورة القصوى. كان الشيخ أرسانيوس يقيم الذبيحة الإلهية كلّ يوم إلا عندما كان يعوزهما الخبز والخمر. وغالباً ما كانت الترانيم ممزوجة بدموع الانسحاق. فكنت ترى الواحد منتصباً أمام المائدة المقدسة، ووجهه مبلل بدموع التخشع والحب الإلهي. والثاني قارئاً، يتعذّر عليك أحياناً فهم ما يقول بسبب حشرجة البكاء والتنهدات.

قبل عام من مغادرة الاب نيقولاوس هذه الحياة الفانية، سمع الاثنان صوتاً يقول لنيقولاوس: “سوف تجتاز اضطراباً عظيماً، ثم تنعم بسكون وهدوء فور وصولك إلى ميناء السلام. أمّا لأرسانيوس فقال: “لقد بدأت تقترب من المدينة الفائقة الجمال حيث تنهي طريقك وتتم شوطك”. وهكذا علم الاثنان أن نهايتهما باتت وشيكة، فازدادا صوماً على صوم، ودموعاً على دموع، ونوحاً على نوح. وبدأا يستعدّان بانسحاق ورعدة لخروج نفسيهما وملاقاة الديان بسلام.

فقد الأب نيقولاوس بصره قبل أشهر قليلة من رقاده. ولكنّه كان يبصر جلياً بعين نفسه المستنيرتين، لأن الرب الإله أراه جميع مختاره الذين يعيشون ويسكنون في الجبل المقدس. كما تعرّض الأب نيقولاوس لأمراض جسدية أعاقته عن التحرك السريع أو القيام بمهامه، فقبع في سريره لا يغادره إلاّ عند الضرورة.

وذات يوم فصد الأب نيقولاوس الشيخ أرسانيوس وانطرح عند قدميه قائلاً له: “سامحني يا أبتي القديس لأني أتيتك في ساعة غير ملائمة، ولكني عندما عدت قافلاً إلى قلايتي عد الانتهاء من خدمة القداس الإلهي، جلست في سريري، فتحت عينيي فجأة وعدت أبصر جلياً. وإذا بقلايتي تمتلئ نوراً عجيباً، ويدخل ثلاثة رجال، شابان يحملان المصابيح، ويتوسطهما ثالث يشع من وجهه نور سماوي، أخذ يقترب منّي قائلاً: “هل عرفتني؟ فابتسمت وأجبته نعم. إنك رفيقنا نيكيتا الذي رافقنا أثناء مجيئنا إلى آثوس وقد رقدت منذ ثلاث سنوات”. فقال لي: “نعم إني أنا هو. هل ترى أيها الأب نيقولاوس المجد الذي أنعم عليّ به الرب الإله؟ إنّه يعدّ لك أيضاً مجداً كهذا، وسوف تنعم به بعد أربعة أيام، إذ ستُعتَق من كل آلامك وأمراضك، وها قد أرسلني لأواسيك وأعزّيك. وعند قوله هذا، خرج الثلاثة من القلاية فلم أعد أرَ شيئاً، ولكن فرحاً عميقاً غمر فؤادي”. فلما سمع الشيخ ذلك، قال له: “لا تثق بهذه الرؤية. بلصلِّ طالباً رحمة الله فقط وملتمساً أن تتمّ مشيئته في حياتك”. فقال له نيقولاوس: “نعم يا أبي، ولكني التمس منك أن تجيب سؤالي بأن نحتفل بإقامة الذبيحة الإلهية كل يوم، وسوف أتهيأ لتناول القرابين الإلهية”.

ويوم الخميس من أسبوع مرفع الجبن، تناول نيقولاوس الزاد الإلهي للمرة الأخيرة، ثم طلب من الأب أرسانيوس أن يصحبه إلى قلايته. وما أن استوى نيقولاوس في سريره حتى بدأت تتغيّر سحنته، فرفع عينيه إلى السماء وقال: “إنّي أشكرك أيها الرب إلهي على كل ما أنعمتَ به عليّ”. ثم توجّه إلى الأب أرسانيوس وقال: “وأشكرك أنتَ أيها الأب القديس لأنك صبرت على هفواتي وقوّمت سقطاتي، وقدتني  بدرايتك وحكمتك إلى الملكوت. والآن باركني ياأبتي كي أنطلق بسلام”. ثم أخذ يد الشيخ وقبّلها قائلا: “أيّها الرب إلهي في يديك أستودع روحي”. وأسلم الروح وكان ذلك في  السادس من شباط 1841،  وبالتحديد بعد اربعة ايام من مشاهدته الرؤيا. فجاء الكثير من الرهبان ومن تلاميذ الاب أرسانيوس، وتحلّقوا حول الراقد مصلّين ومرتلين المزامير. بقي جثمان الاب نيقولاوس مسجّى حتى يوم الاحد دون أن تيبس أعضاؤه، ولكن رائحة زكية كانت تفوح من فمه.

بقي الاب أرسانيوس وحيداً، فأخذ هو الآخر يستعدّ لخروج نفسه، وحاول بعض من تلاميذه مشاطرته الحياة، لكنّهم لم يستطيعوا نظراً لقساوة حياته وشظف عيشه. فقال لهم: “لا تقلقوا من أجلي يا أولادي الأحباء، بل حافظوا أنتم على الجلوس في قلاليكم ما استطعتم مصلين بهدؤ وحرارة من أجل خلاص نفوسكم. لا تتهاونوا البتة في إتمام قانونكم اليومي، أو تهملوا الخدم الكنسية. صلّوا بلا انقطاع. اعملوا على تنقية إنسانكم الداخلي لتستأهلوا أن تقفوا بين يدي الديان أنقياء. لا تخضعوا لإيحاءات ابليس. اعترفوا بأخطائكم واكشفوا أفكاركم لرئيسكم ولا تخجلوا منها. لا تكتموها لئلا يبتلعكم الشيطان وتصبحوا ألعوبة في يده.

في الرابع من تموز عام 1845 قرّر الأب أرسانيوس مشاركة دير اللافرا الكبير في عيد شفيعه القديس أثناسيوس، حيث بقي واقفاً منتصباً لم يعرف الجلوس طيلة خدمة السهرانية، التي ما أن انتهت حتى توجه توّاً إلى منسكه. لقد انذهل الكثيرون من هذا الامر، إذ أن المسافة بين دير اللافرا ومنسك الشيخ تحتاج إلى ثلاثة أيام لقطعها، في حين قطعها الشيخ أرسانيوس ذو السبعين عاماً في نصف يوم. لم يعيقه مرض قدميه ولا وقوفه مدة ست عشر ساعة متوالية في السهرانية.

في بداية عام 1846، اقتربت نهاية أجَل هذا المجاهد، إذ إن قوة رجليه السقيمتين أخذت تضعف وتتلاشى، لدرجة أنّه لم يعد يقوى على السير أو العمل، لكنه رغم ذلك كان يقيم الذبيحة الالهية أربع مرات أسبوعياً رغم التعب الجزيل الذي كان يكابده.

ويوم السبت من الأسبوع الخامس من الصوم الكبير، ذاع الخبر في كل الجبل أنّ الأب أرسانيوس مشرف على الموت. وفي صبيحة الاحد في الرابع والعشرين من آذار، عندما تجمّع أولاده الروحيون حوله لأخذ بركته الأخيرة، قالوا له “هل حقاً يا أبانا أنك غير خائف من كأس المنون؟ ألا ترتجف وترتعد من المثول أمام عرش الديّان العادل، سيّما وأن لك ثلاثين عاماً شيخاً روحياً؟ فأجابهم الأب بوجه باش طلق: “أنا لا أشعر بخوف أو وجل، ولكني أحس بفرح كبير يغمرني، وأظن أن رحمة الرب عظيمة، ولن تدعني أهلك حتى ولو لم يجد فيّ شيئاً صالحاً، إذ لا أحوي في داخلي سوى الضعفات، وأمّا عمل الصالحات فمردّه إلى وجوده ومعونته”. ثم أشار إليهم كي يتقدّموا لنيل بركته، ناصحاً ومرشداً كل واحد كيف يجب أن يتدبر أمره. ثم طلب منهم أن يبتعدوا قليلاً عنه حيث بدأ هو بصلاة حارة مصحوبة بدموع. ثم رفع يديه ثلاث مرات نحو العلاء طالباً متوسلاً. وبهذه الحركة فاضت روحه إلى بارئها الذي أحبه بأمانة منذ الصغر.

أخذ الرهبان يجهّزون جسده الهزيل للدفن. وعندما وصلوا إلى قدميه، اعترتهم دهشة كبيرة، إذ كانتا مجرّدتين تقريباً من اللحم، بحيث لم يبقَ سوى العظام والعروق. وأمّا اللحم فقد تآكل معظمه بسبب القروح التي كان يعاني منها لسنين طويلة، دون أن يدري أحد بمرضه وعجزه. ولقد انذهل الكثيرون كيف كان يستطيع الوقوف أثناء الخدم الكنسية، أو كيف كان يستطيع السير لمسافات طويلة، ولكنه كان كطائر خفيف سريع الحركة يتنقل بين أديار وصوامع النساك المتناثرة هنا وهناك. ولقد دفن في الخامس والعشرين من آذار من عام 1846 وراء قلايته التي كانت تحمل اسم الثالوث القدوس.

عرف ولمدة طويلة، كمعلم للفضيلة وسند روحي للكثيرين، ليس فقط لمواطنيه الروس، ولكن ايضاً لكل من كان يؤمّه مسترشداً، حتى أنهم كانوا يدعونه بالشيخ أرسانيوس الكبير.

وبعد ثلاث سنوات من رقاده، وعندما أراد تلاميذه حسب عادة الجبل رفع عظامه وجمعها، فاح منها عطر قوي ملأ المكان. كان هذا دلالة كافية على نقاوة وقداسة سيرته، وسمو نفسه وطهارتها. صلواته فلتشملنا أجمعين. آمين.

Leave a comment