التقليد الأرثوذكسي

التقليد الأرثوذكسي

الأب يوحنا رومانيدس

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

الموضوع الحالي هو ما هو جوهر التقليد الأرثوذكسي. يمنحنا التقليد الأرثوذكسي طريقة لشفاء النوس والنفس البشريين. لهذا الشفاء، كما سبق ذكره، مرحلتان: الاستنارة والتألّه. التألّه هو حالة تأهّل الإنسان لرؤية الله، وهو ضمانتنا بإمكانية الشفاء. هذه الطريقة العلاجية، هذه المسار العلاجي، اللذين يقدمهما التقليد الأرثوذكسي، تسلمهما جيل من جيل من الناس الذين، ببلوغهم حالة الاستناة أو التألّه، صاروا معالجين لغيرهم. نحن لا نتحدّث هنا عن مجرد معرفة تمّ تمريرها بالكتب، بل عن تجربة، تجربة الاستنارة وتجربة التألّه، انتقلت بالتسليم تسلسلياً، من شخص إلى آخر.

نلاحظ في العهد القديم أن أحداً غير أنبياء الإسرائيليين وبطاركتهم لم يبلغ إلى حالتي الاستنارة والتألّه. هذه ظاهرة تاريخية. قبل الأنبياء، كان البطاركة. قبل موسى، كان إبراهيم. نجد في العهد القديم أن وعي حالات الاستنارة والتألّه كان موجودا حتّى قبل إبراهيم الذي عاين الله، ما يعني أنّه بلغ التألّه. هذا واضح تماماً. لدينا أيضاً إثبات من التقليد اليهودي بأن الاستنارة والتألّه وُجدا في الفترة قبل إبراهيم بين آبائه، كنوح مثلاً. بالنهاية، تقليد الاستنارة والتألّه هذا هو شيء تمّ تسليمه من جيل إلى جيل لاحق. لم ينشأ من لا شيء. لم يظهر فجأة في القرن الحادي عشر أو الثاني عشر قبل المسيح.

كما عندنا العهد القديم عندنا العهد الجديد حيث رؤية هذه الأمور أسهل، إذ إنّ الفترة التي يغطيها محدودة، بينما العهد القديم يغطي 1500 سنة من التاريخ. الآن يوجد تقليد مركزي موحِّد تدور حوله هذه الفترة الممتدة 1500 سنة. وهذا التقليد هو تقليد الاستنارة والتألّه الذي سُلِّم من نبي إلى نبي هو جوهر التقليد الأرثوذكسي. بتعبير آخر، جوهر التقليد الأرثوذكسي هو تسليم تجربة الاستنارة والتألّه من جيل إلى الجيل الذي يتلوه. إنّه يمتدّ زمنياً من إبراهيم في العهد القديم إلى يوحنا السابق. إنّه التقليد النبوي، تقليد البطاركة والأنبياء.

لكن حتّى قبل الفترة التي نتحدّث عنها، هناك فترة أولى، تمتّد من آدم إلى نوح إلى إبراهيم. اليوم، أكّد علم الآثار صحة الأحداث التاريخية المذكورة في العهد القديم أقلّه إلى زمن موسى. واليوم، ليس ما من أحد يشكك بالقيمة التاريخية لنص العهد القديم. ولكن حتّى قبل موسى، حتّى من زمن إبراهيم، تمّ اكتشاف آثار تؤكّد ما ورد في العهد القديم حول شخص إبراهيم.

إذاً، يمكن أن نرى أنّ جوهر التقليد الأرثوذكسي ليس في الكتاب المقدّس، بل في تمرير تجربة اللاستنارة والتألّه التي سُلِّمَت من آدم إلى زماننا.

يرى البعض اليوم أن ما يُسمّى اللاهوت التنزيهي هو فلسفة متأثّرة بالأفلاطونيين الجدد[1]. ما من شك بأنّ تعابير الأفلاطونيين الجدد مشابهة لتعابير ىباء الكنيسة. كما أنّ للأفلاطونيين الجدد لاهوتهم التنزيهي، ولكن مع فرق أساسي: تتميّز الأفلاطونية الجديدة بالوجد (ecstasy) الذي هو خبرة شيطانية برأي آباء الكنيسة. خلال تجربة الوجد، يترك العقل البشري حدود الزمان والمكان، يفقد كل تسلسل فكري ويتّحد بما هّو من المفتَرَض أنّه حقيقة ثابتة. بتعبير أخر، يدّعي الأفلاطونيون الجدد أنّهم يتخطّون الزمن والعالم المتغيّر. في هذه العملية، يرون أن الجسد سيء أو سلبي. لا يشترك الجسد في تجربة الأفلاطونيين الجدد ولا بأي شكل. بالنسبة لهم، اللاهوت التنزيهي بكامله هو ببساطة تطهير الفكر البشري من خلال اقتلاع كل العيوب المتأصّل في طبيعته المحدودة.

هذا التحرر من عيوب الفكر البشري هو مصدر اللاهوت التنزيهي النيوأفلاطوني. مع هذا، إنّ÷م لا يقومون بأي جهد ليتحرروا من الكون المخلوق، بل من العالم المتبدّل، لأن فلسفة الأفلاطونية الجديدة والمورائيات لا تتضمن مبادئ أو مفاهيم مثل الخلق من العدم أو الوجود غير المخلوق. إنّهم لا يميّزون بين المخلوق وغير المخلوق. على العكس، الفئة الأساسية في الفكر المسيحي هي التمييز الواضح بين المخلوق وغير اتلمخلوق إلى جانب التعليم باستحالة وجود أي شبه بينهما. هذه العقيدة ليست الأساسية في التقليد الآبائي وحسب، بل وأيضاً في التقليد اليهودي إلى اليوم.

إذاً، نحن مؤتَمَنون على كنز هو لاهوت التقليد الأرثوذكسي. اللاهوت الأرثوذكسي هو ذروة ونتاج عصور من التجارب التي كررها وجددها وسجّلها أولئك الذين اختبروا التألّه في مختلف الأزمنة. عندنا تجربة البطاركة والأنبياء كما خبرة الرسل اللاحقة. نحن ندعو كلّ هذه الخبرات “تمجيدأ” (glorification). أن نقول بأن النبي مُجِّد يعني أنّ النبي رأى مجد الله. القول بأن الرسول مُجِّد يعني بأنّ الرسول رأى مجد المسيح. برؤية مجد المسيح، تأكد الرسول بأنّ مجد المسيح في العهد الجديد هو مجد الله في العهد القديم. وعليه، المسيح هو يهوه وآلوهيم العهد القديم.

مع أنّه ليس واضحاً مَن هو الروح القدس، اكتشف الرسل ذلك بالتجربة. إن خبرتهم هي تكرار لتجربة الأنبياء مع فارق أن الرسل مُجّدوا بعد التجسّد: صار ليهوه العهد القديم طبيعة المسيح البشرية. ومع أنّ ثلاثة من الرسل مُجِّدوا جزئياً عند تجلي الرب عبى جبل ثابور، إلا إنّ الرسل جميعاً مُجِّدوا في العنصرة، حين بلغوا أرفع درجات التمجيد التي يمكن أن يبلغها إنسان.

بعد خبرات الرسل تأتي خبرات الذين مُجِّدوا ومنهم آباء الكنيسة والقديسون الذين بلغوا التألّه. وهكذا استمرّت خبرة التألّه بالظهور في كل الأجيال إلى اليوم. خبرة التألّه هذه هي جوهر التقليد الأرثوذكسي وقاعدة المجامع المسكونية والمحلية وأساس الشرع الكنسي والحياة الليتورجية اليوم.

إذا ابتغى اللاهوتي الأرثوذكسي اكتساب الموضوعية، عليه أن يتّكل على خبرة التألّه. بتعبير آخر، يمكننا إيجابياً أن نعلن أن تلميذ التقليد الآبائي اكتسب الموضوعية في نهجه اللاهوتي فقط عندما يجتاز شخصياً التطّهر ولاستنارة ويبلغ التألّه. بهذا السبيل لا يفهم الباحثُ التقليدَ الآبائي وحسب بل يتحقق بنفسه من حقيقة هذا التقليد بالروح القدس.

1-   الأفلاطونيون الجدد هو فلاسفة انتموا إلى آخر المدارس الفلسفية الإغريقية التي اتّخذت شكلها النهائي في روما في القرن الثالث بقيادة بلوتينوس (205-270م) كاتب الآنيادا.

Leave a comment