البذار الذي وقع على الطريق

البذار الذي وقع على الطريق

إعداد راهبات دير مار يعقوب الفارسي – دده، الكورة

“خرج الزارع ليزرع زرعه، وفيما هو يزرع سقط بعض على الطريق فانداس وأكلته طيور السماء. وسقط آخر على الصخر، فلمّا نبت جفّ لأنّه لم تكن له رطوبة. وسقك آخر في وسط الشوك، فنبت معه الشوك وخنقه. وسقط آخر في الأرض الصالحة، فلمّا نبت صنع ثمرًا مائة ضعف” (لو 8: 5-8)

هذا المثل هو صورة لكلمة الله التي تقع في نفوس متباينة من البشر. فالمزارع هو الابن المتجسّد، والحقول هي نفوسنا نحن. لقد أعطى الربّ يسوع وصفًا دقيقًا لحال البذار الذي وقع على الصخر وفي الشوك وفي الحقل الجيّد، هذا الوصف الذي ينطبق تمامًا على كيفيّة تقبّلنا لكلمة الله المُعلَنة لنا.

وربّ سائل يسأل لماذا ألقى الربّ البذار في الأمكنة التي لا يلقي فيه المزارع عادة بذاره، إذ لا أحد يزرع في الأرض التي تدوسها الأرجل أو على الصخر أو في الشوك، فالكلّ يزرعون في الأرض الصالحة؟ يريد الربّ أن يرينا أنّ كلّ البشر، من دون استثناء، قد وُهبوا القدرة على أن يكونوا أرضًا جيّدة صالحة، ولكنّ هذا الأمر وقف على مقدار تجاوبهم مع كلمة الله, فهم أصحاب القرار في أن يكونوا إمّا أرضًا خصبة أو مجدبة، أو أرضًا تطؤها الأقدام، أو صخرة قاسية صلبة أو شوكًا يدمي يديّ من يدنو منه. لا شكّ أنّ الربّ الإله يريد أن يرى كلّ واحد منّا حقلاً صالحًا وتربة جيّدة، ولذلك يُلقي البذار للجميع حتّى للذين يبدون أنّهم غير أهل لذلك، أو أولئك الذين يبدون ظاهريًّا أنّهم تربة خصبة، ولكنّهم في الواقع ليسوا كذلك على رجاء أن يتغيّروا ويصبحوا الأرض التي ينتظر ثمرها اليانع.

وكلامنا هنا على البذار الذي وقع على الطريق وانداس من الناس وأكلته طيور السماء. فمن هم الذين يشبهون الأرض التي وطأتها الأقدام؟ إنّهم أولئك الذين يضيّعون الحياة الروحيّة في الطرقات والأماكن العامّة حيث يتسلّى الناس ويتلهّون.

“وانداس”: كما يطأ الناس بأرجلهم كلّ ما يصادفونه في طريقهم من قاذورات وغيرها، هكذا يدوسون البذار الإلهيّ، ويخنقون الكلمة الموجَّهة إليهم ولا يحفظونها لحبّهم مظاهر الدهر الحاضر الجوفاء والمجد الفارغ. وليس هذا فقط، بل يخنقونه، أيضًا، بتهاونهم وتراخيهم وتحقيق رغباتهم وشهواتهم، والخضوع لأهوائهم التي تتحرّك نحو الطمع والحسد والحقد وكلّ الميول السيّئة التي لا تدع البذار يتجذّر ويصبح شجرة مثمرة. ولهذا، فهم يعانون، أبدًا، من القلق والانزعاج والهمّ، لأنّهم قد حرموا أنفسهم بأنفسهم من هذه الدرّة الروحيّة كالخنازير التي تدوسها بأرجلها (متّى 7: 6)، وقتلوا كلمة الله في داخلهم متذرّعين بكلمة التحضّر أو المدنيّة ومسايرة التطور والعصر.

“وتأكلهم طيور السماء”: من هم طيور السماء؟ إنّهم شياطين المديح والكبرياء والمجد الباطل. هؤلاء يلتقطون البذار كما تفعل عصافير السماء التي تلملم الحَبّ لتغتذي به. ولكن كيف يخطف الشياطين البذار؟ عندما يرى الناس فضيلة أحد المجاهدين، يمطرونه بأقوال المديح المعسولة، وأمّا إن كان هذا الإنسان لا يزال مبتدئًا في الحياة الروحيّة، وحتّى لو كان قد سار شوطًا لا بأس به، يقبل المديح وتنتفخ ذاته وتكبر. وقبل أن تتجّذر كلمة الله جيّدًا داخل تربة نفسه تنبت الكبرياء ويتملّكه المجد الباطل. وفيما هو مترنّح سكران لا يدرك إلى أين يسير، ظانًّا بأنّه يحفظ وصايا الربّ ويطبّق مشيئته فيما يكون، بالحقيقة، سائرًا نحو حتفه، متخدّرًا نشوانًا بالتمليقات، وحاصدًا، فقط، المجد الباطل المهلك. وهكذا يمسي المديح العلّة التي تفتح الطريق للشيطان لكي يعرّينا من فضيلتنا، ويتركنا أرضًا تدوسها الأقدام أمام الله.

كيف يستطيع المرء أن يتجنّب هذا الخطر وينجو منه؟ طبعًا من النافل القول إنّه باليقظة وحفظ وصايا السيّد يحصّن المرء نفسه ضدّ هذا الخطر. وهنا لا بدّ لنا من الإشارة إلى أنّ الحياة الروحيّة يجب أن تعاش في الخفاء أمام الله، فقط، وليس أمام أعين البشر. فكلمات الثناء التي يسمعها الإنسان، مهما كان يقظًا حريصًا، تدغدغ مشاعره بتعزية بشريّة سرعان ما تضمحلّ كالدخان، لذا يجب أن يعي المجاهد أنّ هذا الثناء ما هو إلاّ فخّ ينصبه الشيطان ليستغلّ ربحه لحسابه. وهنا يلعب الصبر الدور الأساس في حفظ المرء نفسه، وضمان تقدّمه سيّما وأنّ اتّباع الطريق الروحي وحفظ شريعة المسيح يخلو من التعزيات البشريّة، ويعتمد كلّيًّا على التعزيات العلويّة. لذا ما إن يرى الربّ الحنون صبر المجاهد، حتّى يبادر إلى تعزيته بنفسه، وعندها لن يحتاج المرء إلى التعزيات الدنيويّة قطّ ولا إلى الإطراء والمديح، لأنّ مدحه يأتي من الربّ، وعندها يكون البذار قد وقع في الأرض الجيّدة ليثمر بالصبر. فعندما يشعر المرء أنّه بحاجة إلى تعزية بشريّة، هذا يعني أنّه قد ابتعد عن الدرب الصحيح، لذا عليه ترداد الصلوات، بصبر، حتّى يسبغ الربّ عليه، من جديد، تعزياته ونعمه.

ولا بأس هنا أن نسرد هذا المثل الواقعيّ: طلب أحد رهبان الأب دانيال الكاتوناكي[1] أن ينسك في مغارة قرب دير القدّيس بندلايمون الروسيّ. فأخذ هذا الراهب يصوم كثيرًا، ويرتدي ثيابًا مهلهلة، ويسير حافي القدمين حتّى في أيّام الشتاء الباردة، ويقوم بضرب آلاف المطّانيّات في اليوم الواحد. وكان يوجد على باب منسكه فتحة صغيرة تسمح لكلّ المارّين من هناك أن يروه كيف يصلّي ويركع ويرتّل… فكانوا يردّدون بإكبار وإعجاب قائلين على مسمع من هذا الراهب المسكين: “هذا بالحقيقة راهب حقيقيّ وناسك مجاهد بطل”. عرف الأب دانيال بهذا، واستطاع أن يميّز بما له من الموهبة الألهيّة أنّ كلّ هذا الجهاد ليس بحسب قلب الله ورضاه، وأنّ كلّ هذه القوّة التي يتمتّع بها ليست من المعونة الإلهيّة، بل هي نتيجة لمديح الناس وتمليقهم له، هذا المديح الذي جعله يحسّ بأنّه مجاهد عظيم. وبدل أن يقبل الزرع الإلهيّ بتواضع، وينمّيه في داخله، خضع للأثرة وحبّ الأنا، وهكذا استولى الشيطان، الشبيه بطيور السماء، على ثمر أتعابه، وتركه عاريًا كالأرض المداسة الخالية من الثمر.

قصد الأب دانيال الناسك، وبدأ النقاش معه حول الحياة الروحيّة، وماهيّة الشباك التي يغزلها الشيطان للنسّاك، ومدى خطرها وسوء عاقبتها، وكيف أنّ المجاهد الحقيقيّ لا يُقدم على أيّ جهاد من دون مشورة أبيه وبركته. وعندها انزاح الستار عن عينيّ الناسك، فكشف لأبيه ما يسمعه من أقاويل الناس وإعجابهم. فحذّره الأب من الاستكانة لحبّ الظهور والكبرياء التي تتلف كلّ عمل الراهب، وحدّد له كمّية الصلوات التي يجب أن يتلوها مع خمسين مطّانيّة فقط. فظهر، حينئذ، ضعف الناسك وعريه من كلّ فضيلة، وهمد حماسه إذ بدأ يصلّي صلواته بشقّ النفس، ويقوم بضرب الخمسين مطّانيّة بصعوبة بالغة، كما مال إلى ارتداء الثياب الجيّدة والجديدة، وعاد لا يكفيه ما يقدّمونه له من طعام لا بل كان يأكل قبل موعده. وهكذا قُصَّت جناحا العُجْب ومديح الناس اللذان كان يطير بهما في سماء الكبرياء. وصار يلزمه الكثير من الصبر لتكملة مشوار حياته الروحيّة، منتظرًا في كلّ دقيقة تعزية الربّ له، هذه التعزية التي تترافق وثمر التواضع، والتي لا يستطيع إبليس أن يبعدها عن النفس كونه عدوّ التواضع.

أعزّاءنا القرّاء، في أيّامنا هذه لا يوجد مكان عامّ واحد للّقاء، فالناس تتلاقى وتتجمّع في كلّ مكان، في الأسواق وفي الطرقات، وذلك قصد التسلية وتمضية الوقت فقط، غير مدركين أنّهم بهذا يهدرون وقتًا كان يجب أن يكون أقلّه مع الله. وبلغة أخرى تأتي طيور السماء (أي الشياطين) وتسرق غلاّتهم.

يستطيع المرء، اليوم، وهو في منزله أو في عمله وأثناء مشغوليّاته أن يؤمّن كلّ حاجيّاته ومشترياته، ويتمّم كلّ أعماله، من دون أن يحتاج إلى معونة إنسان آخر، أو حتّى ليتعامل معه، وذلك بواسطة الأنترنت. ونرى، في الوقت نفسه، على شاشة التلفزيون أناسًا يتكلّمون علانية عن مشاكلهم وعن رذائلهم وأهوائهم وحتّى عن حياتهم الخاصّة جدًّا. فالحياة العامّة والخاصّة أصبحت واحدة تقريبًا. ونلاحظ أنّ البشر يتنازلون، وبسهولة، عن حرمة حياتهم الشخصيّة أمام الاكتشافات العصريّة الكبيرة، وأمام الحاجة إلى المديح والشهرة ولو لدقائق معدودة، غير مدركين بأنّ شبكة المجد الباطل التي حاكها إبليس بمنتهى البراعة قد اصطادتهم. كلّ هذا يؤكّد بأنّ إنسان هذا العصر أصبح لا يرتاح أن يكون هو نفسه دائمًا، بل يحتاج، وبسبب الفراغ، إلى تبديل أوضاعه وأحواله بين الفينة والأخرى، ولا يقدر، أيضًا، أن تكون له الحاجات والرغبات ذاتها دائمًا، ولذا أصبح، بالمقابل، لا يعرف الهناء والسلام، بل يطغي الفراغ الداخلي طيّات نفسه، وإنّما هذه نتيجة طبيعيّة يلاقيها مَنْ خنق البذار الإلهي، وجعل داخله ساحة مكشوفة لطيور السماء (حبّ المجد والظهور والكبرياء) تغطّ فيها وتأكل البذار.

وأمّا الربّ يسوع، فإنّه لا يملّ من رمي بذاره، بيد مبسوطة، في نفوسنا جميعًا في أيّة حالة كنّا فيها على أمل أن نثمر له، يومًا، الثمر الشهيّ الذي ينتظره من كلّ واحد إن كان ثلاثين أو ستّين أو مائة. ولكن، لنتذكّر أنّه لكي نعطي هذا الثمر، تلزمنا اليقظة والسهر، لئلاّ تأتي طيور السماء، وتلتقط ثمار جهادنا ونحن غافلون متراخون.



[1] وهو أحد كبار آباء الجبل المقدّس

Leave a comment