كيف ردّ الآباء على الهراطقة؟

كيف ردّ الآباء على الهراطقة؟

 

الأب يوحنا رومانيدس

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

لقد شدّد أريوس على أنّ الكلمة وُلِد من الآب قبل الدهور. ومع هذا، اتّهمه القديس أثناسيوس الكبير بالدفاع عن الولادة الزمنية للكلمة. لكن لماذا يتّهمه؟ هذا لأن أريوس أضاف جملة: “لقد كان هناك آنذاك حين لم يكن” “[in pote ote ouk in]”(الترجمة حرفية: المترجم)، لكن “آنذاك[pote]” و”حين[ote]” هما ظرفا زمان. بتعابير أخرى، القول بأن هناك وقت لم يكن يعني كلاماً عن زمان لم يكن الكلمة موجوداً خلاله. هذا هو المعنى الحرفي للجملة. لكن وضع الكلام في إطار اللاهوت التنزيهي، فكلّ ما يُقال عن الله محدود بالفئات المتعلّقة بمرور الزمن. أيّ كلمة تُستَعمَل عن الله لا يمكن أن تتلافى البُعد الزمني. كيف ذلك؟ مثلاً، نحن نقول: “الكلمة مولود من الآب”. من ناحية علم اللغات وعلم دلالات الألفاظ، جملة “مولود من الله” يمكن أن تعني أنّه مولود في وقت ما من الآب أو أنّه مولود أبدياً من الاب، أو أنّه مولود في زمان الآب. يمكن تركيب السيناريوهات نفسها عند قولنا “الكلمة وُلِد من الآب”.

لقد كان الآباء ملزَمين باستعمال مجموعات مختلفة من التعابير لكي يصيغوا تعليمهم ويؤمّنوا الدفاع لتعليم الكنيسة. بالطبع، حتّى الاباء يقولون: “الكلمة وُلِد من الاب قبل الدهور”. لكن النقطة التي يشدد عليها الاباء هي أنّ الفكر البشري يطابق، بكل بساطة، الخبرة البشرية. لذا يتطابق كل فكر عند الإنسان وكل مفهوم عقلي لديه مع خبراته اليومية ولا شيء فوق خبراته الإنسانية. لا يستطيع الإنسان أن يخترق حدود طبيعته المخلوقة لكي يصير قادراً على استيعاب غير المخلوق.

بحسب الآباء، من المستحيل بالمطلق النفاد عبر هذه الحدود. يمكننا أن نفكر في غير المخلوق وكيف أن شيئاً ما موجود من غير أن يكون مخلوقاً، وأنّه دائم الوجود، ولا يشبه أيّ شيء من المخلوقات، لكن أيّاً من هذه الفئات ليست إيجابية. إنّها سلبية بالكليّة. ليست حالات إيجابية بل هي حالات رفض. عندما نقول أن الله غير مخلوق، لا نقول ما هو الله بل ببساطة ما ليس هو. عبارة “غير مخلوق” تعني ببساطة أن الله ليس خليقة، ونقولها لنعبّر عن ما ليس الله عليه.

فلنحاول الآن أن نذكر ما هو الله. لكن لا يوجد أي اسم قادر على تحديد ماهية الله، لأن العجز عن إدراك الله هو جزء من الطبيعة البشرية. حقيقة أن الإنسان هو مخلوق هي السبب الكامن وراء هذا العجز. الإنسان مخلوق لكي يعرف الله، لكن معرفة الله ليست بمقدوره من نفسه وبالاتكال على مقدراته الذاتية. فقط عندما يكشف الله نفسه للإنسان يعرفه الأخير. وهذا يتمّ من خلال نور الروح القدس ونعمته. هذا هو سبب أن الآباء قضوا الكثير من الوقت على جملة “بنورك نعاين النور”. بتعبير آخر، في نور الله، نرى نور الله. أنتَ ترى النور فقط عندما تجد نفسك داخل النور.. إنّ الأمر يتمّ تماماً كما في العالم الطبيعي. عندما تكون في الظلام، لا يمكنك أن ترى أبداً. لكن إن وجدتَ نفسك في النور، عندها يمكنك أن ترى النور.

يسيطر هذا المبدأ المعرفي (epistemological) بين آباء الكنيسة. ما يثير الاستغراب للوهلة الأولى، هو أن الآباء حددوا نور الله هذا واستعملوا كلمتي “النور” و”الظلمة” بالتبادل. هذا عنى أنّ عبارتي “بنورك نعاين النور” و”بظلمتك نعاين الظلمة” حملتا المعنى نفسه للآباء، لأنّ الله ليس نوراً ولا ظلمة. وهذا الحال هو لأنّ الله ليس مخلوقاً، لذا هو لا يشبه أي شيء مخلوق مثل النور والظلمة.

لأنّ قدراتنا المعرفية تتناسب مع الأشياء المخلوقة ولا تمتد إلى العالم عير المخلوق، نحن قادرون على معرفة الأشياء المخلوقة وحسب. بالتالي، المصطلحات التي نستعملها عن الله، مهما كانت، تكون مأخوذة من خبرة الإنسان اليومية وليس من أي مقدرة بشرية على وصف غير المخلوق. المقاربة الآبائية للنظرية المعرفية تتوافق بشكل كامل مع البحث المعاصر الذي يقوم به علماء الأعصاب، الحياة، الكيمياء الحيوية، النفس، الإنسان وبعض أطباء النفس حول مواضيع معرفية.

كل العلوم التي تتعاطى مع هذه الأسئلة، تتفق حول كيفية عمل الكائن البشري معرفياً. استناداً إلى معرفتنا الحالية، كل الأفكار البشرية، حتّى التخمينات المجرّدة والحسابات. إنها حقيقة مقبولة وثابتة أنّ كلّ ما في الفكر البشري ما هو إلا امتداد لوجود العالم المادي ولا وجود روحي غير مادي لها في مطلق الأحوال.

لم يترك القديس أثناسيوس الكبير اي مناسبة دون اتهام أريوس بالتعليم بأن الكلمة وُلِد في الزمن مقيماً هذا الاتّهام على كلمات آريوس بالذات. استفاد الأرثوذكسيون من صياغة آريوس وقصوا الآريوسيين حول هذا الموضوع. لقد قصفوهم إلى درجة اضطر الآريوسيون أن يقدموا جواباً. لكن إجاباتهم ضاعت بين الكتابات الهرطوقية الكثيرة التي تمّ إتلافها لاحقاً.

لقد اتهم الآباء آريوس بالتعليم بأنّ الكلمة وُلِد في الزمن إذ بالنسبة إليهم مجرد الإشارة إلى زمان ما (pote) هي إثبات. نعم، هذا صحيح، لكن هناك أجزاء مما قاله آريوس والآريوسيين احتجاجاً، ما تزال حيّة. لقد دافع الهراطقة عن أنّهم يُضطَهَدون بينما أكّد الأرثوذكسيةن بأن الهراطقة علّموا أن الكلمة وُلِد في الزمن. في النهاية،  دافع الهراطقة بأنّهم علموا أيضاً أنّ الكلمة وُلِد من الآب قبل الدهور.

إن جملة “قبل الدهور” بالغة الأهمية، لأن الدهور والزمن ليسا الأمر نفسه. يميّز الآباء بين الدهور والزمن، بالرغم من عدم إلمامهم بالفيزياء الحديثة. في الفيزياء، الزمن كما فُهم في الماضي لم يعد موجوداً. في الماضي، يُقاس الزمن بحركة الأرض بالنسبة إلى الشمس والقمر. أمّا الآن، فإن فهمنا للزمن تغيّر بشكل جذري.

لكن ما يهمنا هو أن الآباء ميّزوا بشكل واضح بين الدهور والزمن. يقول الآباء أنّ الله حين خلق العالم، خلق الدهور أولاً، من ثمّ الملائكة، ومن بعدها العالم والزمن. بتعبير آخر، عرف الاباء أن الزمن هو بعد لوجه محدد من الكون المخلوق، لأن الدهور كانوا أول الخليقة وليس الزمن الذي خلقه الله لاحقاً. الفرق الرئيسي بين الدهور والزمن هو أن الحدث يتبعه آخر في الزمن، بينما في الدهور لا تَتَتابع الأحداث بالضرورة. بالمقابل، تتواجد الأحداث والحقيقة بطريقة لا يكون ما يجري متشابكاً بالضرورة مع التسلسل. لكن بما أن افنسان موجود ضمن الزمن، فإن خبرته تحدها الحالات المتبدلة. لا تعرف خبرة الإنسان وجوداً بدون عملية التتابع هذه، لكن يوجد شواذ. يمكن للإنسان أن يكتسب هذه الخبرة في اختباره التألّه، إذ لا يعود الزمن فاعلاً.

وحده مَن بلغ التألّه يختبر طريقة كيان تسمو على الوجود وتتخطّى الزمن وتفوق على الدهور وتتجاوز المكان والمنطق وهكذا دواليك. مَن هو في حالة التألّه يختبر غير المخلوق من دون أن يدرك معرفياً هذه الحقيقة غير المخلوقة، لأن غير المخلوق يبقى معرفياً سرّاً بالنسبة للشخص في حالة التألّه. بتعبير آخر، حتّى عندما يكشف الله نفسه لشخص ما قد بلغ التألّه، يبقى الله سرّاً. حتى ولو أدرك البعض الله بالنوس، المنطق، الحواس والجسد، يبقى الله سرّاً، لأنّه يبقى خارج حدود ووسائل المعرفة البشرية. والحال هو هكذا لأن المعرفة البشرية تقوم على التشابه والاختلاف، فيما لا يوجد أي تشابه بين العالمين المخلوق وغير المخلوق. على سبيل المثال، إذا من جهة رأينا فيلاً، فيما لا نعرف شيئاً عن الفيلة، سوف لا يشابه الفيل اي شيء آخر بالنسبة لنا. سوف يكون ببساطة مختلفاً عن الحيوانات الأخرى. إذا راينا لاحقاً فيلين سوف نقول “هذان متشابهان”. أمّا إذا فحصناهما بتمعن أكبر، فسوف نكتشف أن أحدهما ذكر بينما الآخر أنثى، من ثمّ سوف نتمكن من ملاحظة أنهما يختلفان في بعض اجزاء الجسد. لكن بالرغم من هذه الفروقات، فإنّ بينهما تشابهاً شاملاً يمكننا أن نعيده إلى الكلام عن الفيلين ووضعهما في نفس فئة الفيلة الأخرى.

عندما يختبر إنسان التألّه، فمن جهة، يمكنه أن يتعرّف على فرق، لكنه لا يستطيع ان يجد تشابهاً مع اي شيء. بالرغم من ذلك، فإنّه يرى شيئاً لم يرَه من قبل في هذه الحياة، لكن من دون أي تشابه بين ما كُشِف له وما سبق له رؤيته في هذه الحياة. لماذا هذا الحال؟ لأن مجد الله مختلف عن كل ما هو مخلوق وقد رآه في العالم المخلوق. إنّه مختلف، ولكنّه أيضاً بالكليّة لا يشبه أي شيء معروف في الخليقة. لمَ لا يشبه أي شيء؟ لأنّه بلا لون، لا يمكن قياسه، ليس نوراً، ليس ظلاماً، ليس ضخماً، ليس صغيراً، لا شكل له ولا هيئة.

لهذا السبب يتكلّم الآباء عن مجد الله بأنّه مثل شيء لا شكل له ولا هيئة. بالطبع، القول بأن لا شكل له هو لضحد الأفلاطونيين، لأنّهم يؤمنون بوجود عالم من الأشكال. لكن عندما يقول الاباء أن مجد الله هو بلا شكل، فهذا يعني أن لا علاقة له بعالم أفلاطون الخيالي. في كل مرة يصف فيها الآباء مجد الله على أنّه بلا هيئة ولا شكل وفي كل مرة يشيرون إلى غياب الهيئة والشكل، فإنّهم يبطشون بشكل مباشر بآراء أفلاطون وأريسطو والفلسفة إجمالاً. هذا يعني أن اللاهوت الابائي يتلافى كلياً هذه الفئات التي تنتمي إلى طريقة  التفكير الفلسفية.

بالطبع، ما من شيء خطأ في أن يدرس الإنسان الفلسفة طالما أنّه يرفض تعاليمها حول وجود الله وطبيعته. في النهاية، الفلسفة تدرّب الفكر البشري. لهذا السبب يقول الآباء الهدوئيون، بمن فيهم القديسون باسيليوس الكبير، يوحنا الذهبي الفم، وغريغوريوس النيصّي، وهو الأب الكنسي الذي لا يتفوق عليه أحد بقدرته على التفكير مثل فيلسوف. وإذا قرأتم القديس ديونيسيوس الأريوباغي، سوف ترون أنّه أحياناً يتبع هذا الخط من الأفكار. إذاً يمكننا ان نستنتج أن ما من خطأ في قضاء الوقت مع الفلسفة بهدف تدريب الفكر، لكنه من الغباء المطلَق القبول بتعاليم الفلسفة عندما تصل الأمور إلى المواضيع اللاهوتية.

Leave a comment