سبت لعازر

سبت لعازر: ملازمة القبر حتى القيامة!

الأرشمندريت توما بيطار


… وكان لا بدّ للعازر أن يُنتن أولاً قبل أن يأتي الربّ يسوع المسيح إليه ليقيمه من بين الأموات. الخطيئة فينا لا تموت إلاّ بالموت. لهذا أبقى الربّ الإله على الموت، تدبيراً، بعد قيامته لأنّه أحبّنا وأراد أن يخلِّصنا من الخطيئة بالموت. هو يسوع أي المخلِّص. الإنسان جائع إلى ربّه، جائع إلى الحياة في ملئها. لكن الحياة لا تأتيه إلاّ بالموت. هذا سرّ الحياة الجديدة. السرّ الذي يفوق مداركنا. إن لم تقع حبّة الحنطة في الأرض وتمت تبقى وحدها. لا بدّ لحبّة الحنطة أن تُنتن. هذا ما يجدر بكل مَن اتَبع يسوع أن يفهمه جيّداً ويقبله ويتّخذه دستوراً لحياته. حياتنا في المسيح مرسومة أمام عيوننا في شكل صليب. “مَن أراد أن يتبعني فليحمل صليبه، كل يوم، ويأت ورائي”. من الصليب تنبع القيامة. من الموت تدفق الحياة الجديدة. ضمانتنا الوحيدة أنّ المسيح قام. لعازر، الذي يعني اسمه مَن عونه من عند الله، هو صورة الجميع. لا بدّ لنا من أن نتروَّض، يومياً، على الموت في المسيح ابتغاء الحياة فيه. مَن لا يشاء أن يموت في المسيح لا نصيب له في القيامة مع المسيح. لذا كانت الوصيّة، أبداً، صليباً. لأنّنا جميعاً مرضى كانت الوصيّة دواء مرّاً. أن يحفظ الواحد وصيّة السيّد يعني أن يكون مطيعاً له. وأن يكون مطيعاً له معناه أن يكفر بنفسه. ليس بإمكان العبد أن يخدم سيِّدَين، أن يخدم نفسه وربّه في آن. لو جعلنا أنفسنا في خدمة أنفسنا لصرنا في خدمة الخطيئة المعشِّشة فينا. خدمة الله كائنة من أجل أن نتحرَّر من عبوديّة الخطيئة. إذا عرفنا الحقّ الذي هو المسيح، إذا صرنا له عشراء، إذا ما استخدمنا أنفسنا له، إذ ذاك يحرِّرنا الحقّ حقّاً.

إذاً، قبل أن يحلم أحد بالقيامة عليه أن يخطِّط، كل يوم، من أجل أن يموت عن نفسه. ما معنى أن يموت الإنسان عن نفسه؟ معناه أن يرذل كل ما له صلة به من دون الله. يرذل الواحد راحته ليريح الآخرين. يقطع الواحد شبعه ليُطعم الجائعين. يتنازل الواحد عن كرامته ليعطي المجد لله. أن يموت المرء عن نفسه معناه أن يتنكّر لأفكاره الخاصة، لإرادته الذاتية، لأهوائه، لرغباته، لطموحاته، لأناه، لكبريائه، لتعظُّمه، لمجده. معناه أن يُهلك نفسه، أن يُهلك خطيئته وجذر الخطيئة فيه، بنعمة الله، أن يتخلّى عن عتاقته، أي عن إنسان الخطيئة فيه. معناه أن يدخل، روحياً، إلى القبر. أن يدخل بملء إرادته. معناه أن يُقيم في قبر نفسه على الرجاء أن يحضر المسيح الربّ ليقيمه بصوت عظيم كما أقام لعازر: “يا لعازر هلمّ خارجاً!” يا مَن جعلتَ عونك فيّ هاءنذا آتي إليكَ لأدعوكَ: “هلمّ خارجاً!” إذ ذاك تنفكّ الرباطات الخانقة التي جعلته يختبر الموت كل ساعة. إذ ذاك يسري روح الحياة في نفسه وجسده. إذ ذاك يتجدّد القلب. يمتلئ الميت نوراً بعد ظلمة تدبيرية اعترته. ينصبّ النور عليه بالكلمة. المسيح مُكْلِفٌ. ليس بإمكان أحد أن يقتني مسيح الربّ ولا شركة لأحد مع مسيح الربّ إلاّ إذا تجشّم كِلفةً تحاكي، على مقاسه، كِلفة المسيح الذي بذل نفسه بالكامل لخلاص البشريّة. ما كلّفنا، إذ ذاك، يستدعي ما كلّفه هو. يصير لنا نصيب في ما تكلَّفه. صليبنا، إذ ذاك، ينفتح على صليبه، يعانق صليبه، يصير امتداداً له، واحداً وإيّاه. يصير النور الذي سرّ أن يقيم في صليب المسيح مقيماً فينا نحن أيضاً، في صليبنا. لا بدّ أولاً أن يختبر كل منّا، أن يذوق، طعم العدم، طعم الموت الإرادي، وإلاّ لا تموت الخطيئة فيه ولا يموت الموت ولا تُفرع القيامة. المسيح شَرِب الكأس. علينا، نحن أيضاً، أن نشربها. هذه كأس الموت. لكن المسيح لمّا احتساها، من أجلنا، جعلها، في آن، كأس الحياة الأبديّة. ما دام أن الإنسان لا يريد أن يموت فسيحمل لعنة نفسه في نفسه كقايين. سيهرب من وجه الحياة والأحياء. سيهرب من هوى إلى هوى، من شهوة إلى شهوة، من خيال إلى خيال، من وهم إلى وهم، إلى أن يسقط، أخيراً، صريع التعب، صريع العمر، صريع الشيخوخة. صليب المسيح للهالكين جهالة، أمّا لنا، نحن المخلَّصين، فهو قوّة الله.

كثيراً ما نحاول ان نموِّه الصليب، أن نجمِّله، أن نفرغه من مضمونه. نتزيّن بالصليب. نتشدَّق بالكلام عليه. نوهم أنفسنا أنّنا إذا ما تعاطيناه كلاماً، إذ ذاك نكون قد تعاطيناه وعرفناه. وما ذلك بحقّ. الإنسان قادر أن يقيم في الوهم. طالما لم يقتبل الصليب بعد ولم يتسمّر عليه إلى النهاية لا يكون قد خبره. الصليب موت كل يوم، دم كل يوم، تسليم لله كل يوم إلى أن يأتي هو نفسه إليك. أنت لا تنزل عن الصليب. تموت عليه. ينزِّلونك بعد أن تكون قد لفظت نَفَسَك الأخير. بعد ذلك تأتي القيامة.

لهذا مسيحنا باق في أحبّته الخُلَّص مَن لا هيئة له ولا جمال في هذه الدنيا. المؤمن باق، في هذه الدنيا، مرذولاً، منبوذاً لا هيئة له ولا جمال. وحده مَن يعرفه يعرفنا. بإزاء مأساة القيامة(!) نتجمّل بالصبر. مَن كان بغير الصبر متجمِّلاً تجلبب بغير المسيح ثوباً، فوُجد أدنى إلى إبليس الذي يعرف أن يظهر بمظهر ملاك من نور. الإنسان، في الواقع الذي هو فيه، كنفس وجسد، قادر أن يجمِّل ويتفنّن في ما يبثّه فيه إبليس تفنّناً كبيراً. للخطيئة خِلابتها في النفس الساقطة. والإنسان قادر، بظواهر الأمور، أن يجعل منها مادة عبادة. لذلك “اخرجوا من بينهم يقول الربّ”، لا مادياً بالضرورة بل روحياً. لا بدّ لنا أن نخرج، بالكامل، من روحيّة هذا العالم. الانقطاع لا يكون إلاّ كاملاً. طالما بقي في نفس الواحد ميلٌ ولو ضئيل إلى العالم استمالنا العالم، شدّنا إليه. امرأة لوط لم تكن، بالضروة، تحلم بالعودة إلى صادوم. كانت تعرف ماذا كان يجري في صادوم. الربّ الإله أخرجها وزوجها وأولادها رحمة بهم. ولكنْ بقيت في نفس امرأة لوط بقيّة رغبة في الحياة الصادومية. لهذا تطلّعت إلى الوراء. فلما فعلت استحالت عمود ملح. مَن وضع يده على المحراث لا ينظر إلى الوراء. الحياة تأتي من قدّام، كل يوم، جديدة.

مَن شاء أن تكون عتبات الملكوت قِبلة عينيه كان عليه أن يسدّ منافذه بالكامل عمّا هو وراء، أن يصمّ أذنيه حتى لا يعطي سمْعاً لوشوشة العتاقة فيه. هذه الوشوشة قد تبقى طويلاً وقد تبقى حتى الموت. على كلّ منّا أن يكون قاطعاً في تعامله مع ربّه وفي انقطاعه عن العالم. مأساة البشريّة أنّ أكثر النفوس باقية منقسمة. نطلب الله دون أن نُقلع بالكامل عمّا في العالم. حتى لو خرج أحدنا إلى الصحراء، والحال هذه، حتى لو خرج إلى الدير يبقى روح العالم طالباً فيه ما لروح العالم. وهذا يلقاه في قنية تافهة أو في فكرة سمجة. إذ ذاك يَفسد الخمير العقلي. الخمير لا يقبل الزغل. والعجين، عجين الحياة الجديدة، إذ ذاك، لا يطلع. يبقى الإنسان في مستوى الدهرية.

لهذا نصلّي ونصلّي أولاً أن يعيننا الربّ الإله على نفوسنا. وإلى ذلك نقطع، وبكل عنف، كل أربطتنا بالعالم. يحسب المؤمن نفسه من حثالة القوم. كأنّه لا شيء. نكرة! يقتبل أنّه تراب ورماد. يكون مستعداً، دائماً، للعب دور الخادم. يضع نفسه آخر الكل. يحسب أنّه لا هيئة له ولا جمال. ويأبى أن يفتح فاه لأنّه لا كلام لديه ينطق به ما لم يجعل الربّ الإله كلاماً في فمه. لذا كانت الرهبانية، وهي وجه المسيحيّة الأعمق، سبيل الموت الإرادي اليومي. أن يموت الإنسان عن نفسه كل يوم. من دون رهبانية المسرى لا طريق للإنسان تفضي به إلى حضن الآب. يقتبل الموت عن وعي، لهذا يعطيه ربّه ملء الحياة. يسعى، في كل حين، لأن يتوارى، لهذا يجعله ربّه سيِّداً ومعلِّماً في كنيسته. بالتواري عن نفسه يُعطَى له أن تصير كلمتَه كلمةُ السيّد. ليست الرهبانية في الأثواب السوداء ولا في القوانين ولا حتى في نمط الحياة. رهبانية المسيحيّة هي في اقتبال المؤمن، كل مؤمن بيسوع، سبيل الموت عن نفسه ابتغاء أن يصير الربُّ الإله فيه الكل في الكل. هذا درب الجميع في كنيسة المسيح ولا درب سواه. هذا درب القدّيسين وكلّنا مشاريع قدّيسين. القدّيسون ألوان مضمونهم واحد أنّهم يتمسحنون بالموت، إرادياً، كلٌّ عن نفسه. يدخلون، روحياً، إلى حيث دخل لعازر. يقيمون في ما يبدو لعيونهم ظلمة القبر على رجاء القيامة. والرجاء بالله لا يخزي. ولنا كواكب من الشهود يشهدون أنّ الله كما أقام الابن المتجسّد في اليوم الثالث، فهو يقيمنا معه أيضاً. فإذا سلكنا في مسرى كمسراه بلغنا قيامة كقيامته.

على هذا نذوق في سبت لعازر طعم القيامة التي أذاقها الربّ الإله للذي أحبّه عربوناً للقيامة التي نحن عتيدون، بنعمة الله، أن ندخل فيها إن ثبتنا على الرجاء إلى النهاية. لعازر واحد منّا وللربّ يسوع كلُّنا، في تدبيره، شركاء. الربّ قام ليكون لنا أن نقوم معه نحن أيضاً. بلى، القيامة لنا، نصيبنا، ميراثنا إلى الأبد. لعازر قام. والمسيح قام. وكلّنا، أيضاً، قيام…

فالمجد للذي قام ليقيمنا معه.


عن نقاط على الحروف، العدد 16، 16 نيسان 2006.

Leave a comment