المحبة والمحاباة

المحبة والمحاباة

الخورية سميرة عوض ملكي

إن هاتين الكلمتين قريبتان جداً في التعبير، لكنهما متباعدتان في المعنى والفعل. كلمة “محبة بغنى عن التعريف. أمّا كلمة “محاباة” فهي، في اللغة، تشتقّ من الفعل “حابى” أي “تحيّزَ” أو “مال إلى”، ونذكر على سبيل المثال، “حاباه القاضي في الحكم” اي مالَ إليه منحرفاً عن الحق.

الكلّ يعلم تقريباً أنّ المحبة نابعة من الله لأنّ “الله محبة”. أمّا المحاباة فهي نابعة من الأفكار الشريرة. المحبة أقوى من الخطيئة لكنّ المحاباة خطيئة. المحبة تُتْحِد بالله في حين أنّ المحاباة تَفْصِل عن الله. بدء المحبة مخافة الله، بينما المحاباة فبعيدة عن مخافة الله وهذا ما يتوضّح في الكتاب المقدّس.

يقول الرسول يعقوب في رسالته: “يَا إِخْوَتِي، لاَ يَكُنْ لَكُمْ إِيمَانُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، رَبِّ الْمَجْدِ، فِي الْمُحَابَاةِ. فَإِنَّهُ إِنْ دَخَلَ إِلَى مَجْمَعِكُمْ رَجُلٌ بِخَوَاتِمِ ذَهَبٍ فِي لِبَاسٍ بَهِيٍّ، وَدَخَلَ أَيْضًا فَقِيرٌ بِلِبَاسٍ وَسِخٍ، فَنَظَرْتُمْ إِلَى اللاَّبِسِ اللِّبَاسَ الْبَهِيَّ وَقُلْتُمْ لَهُ:«اجْلِسْ أَنْتَ هُنَا حَسَنًا». وَقُلْتُمْ لِلْفَقِيرِ:«قِفْ أَنْتَ هُنَاكَ» أَوِ: «اجْلِسْ هُنَا تَحْتَ مَوْطِئِ قَدَمَيَّ»، فَهَلْ لاَ تَرْتَابُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَتَصِيرُونَ قُضَاةَ أَفْكَارٍ شِرِّيرَةٍ؟” (1:2-6). في هذه الآيات، يوبّخ الرسول محاباة الإخوة للأغنياء واحتقارهم للفقير. وخطورة المحاباة هنا تظهر في أمرين: أنّ المحاباة بعيدة عن الإيمان، إذ تعتبر أنّ الأغنياء هم عماد الكنيسة وليس الله الذي أعطاهم الغنى، وثانياً أنّ المحاباة إهانة للفقير المخلوق على صورة الله، وهي إهانة للمسيح نفسه الذي افتقر ليغنينا.

ويذكر الرسول في الآية الخامسة ” اسْمَعُوا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ: أَمَا اخْتَارَ اللهُ فُقَرَاءَ هذَا الْعَالَمِ أَغْنِيَاءَ فِي الإِيمَانِ، وَوَرَثَةَ الْمَلَكُوتِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ؟ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَهَنْتُمُ الْفَقِيرَ”، كيف أنّ الله اختار فقراء العالم أغنياء في الإيمان ليبيّن أن الله لا يهمّه الغنى المادي بل الغنى الروحي بالإيمان وميراث الملكوت. والمقصود هنا هم القديسون، أمثال النبي موسى الذي كان راعياً للغنم، والنبي داود راعي الغنم الذي مسحه الله ملكاً، وكذلك تلاميذ المسيح… ثمّ يتابع الرسول ليقول: “فَإِنْ كُنْتُمْ تُكَمِّلُونَ النَّامُوسَ الْمُلُوكِيَّ حَسَبَ الْكِتَابِ:«تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ». فَحَسَنًا تَفْعَلُونَ. وَلكِنْ إِنْ كُنْتُمْ تُحَابُونَ، تَفْعَلُونَ خَطِيَّةً، مُوَبَّخِينَ مِنَ النَّامُوسِ كَمُتَعَدِّينَ.” (8:2-9). تظهر هاتان الآيتان بكل و  ضوح أن المحاباة ضد المحبة، لا بل أكثر من ذلك أنها تعدٍّ على المحبة التي هي الناموس الملوكي.

“ليس عند الله محاباة”، هذا ما يقوله الرسول بولس إلى أهل رومية (11:2)، وهو يدينها لأنّها تقلّل من قيمة الناس الذين مات المسيح من أجلهم. ففي المعمودية، يولّد الكلّ ولادة جديدة فيصبحون كلّهم أعضاء في جسد المسيح الواحد. والإيمان الحقيقي مرتبط بالمحبة للكلّ دون تمييز أو تحيّز (سواء في العائلة أو الرعية أو الأبرشية أو المجتمع)، لأنّ ربّ المجد لن يحابي أحداّ في السماء بل سيمجّد كلّ واحد بحسب أعماله دون النظر إلى مركزه أو شهاداته أو ثروته أو عائلته أو انتماءاته أو أيّ من القدرات العالمية لديه. من هنا أن تعلّق الإنسان أو انشداده إلى المظاهر لا يغني ولا يخلّص، خاصةً إذا دفع هذا الميل إلى محاباة المتقدمين في هذا العالم. وحده الانشداد نحو المسيح وتطبيق وصاياه يرفعان، كما يقول القديس ديمتري أسقف روستوف أن أيَّ متعة أرضية، وأيّ عشق بشري لا يعطي النفس عزاءً مطلقاً لا نهاية له، وفرحاً وبهجة، بالمقدار الذي يعطيها إيّاه عشق الله ومحبة القريب.

Leave a comment