ليست الحرب من الله!

ليست الحرب من الله!

الأرشمندريت توما بيطار

ليست الحرب من الله. الحرب من تغييب الله، إذا غيَّب الناس الله من حياتهم. الإنسان، إذ ذاك، تحت سلطة أهوائه كائن. “من أين الحروب والخصومات بينكم؟ أليست من هنا، من لذّاتكم المحارِبة في أعضائكم؟…” (يع 4: 1). لذا كل إنسان في غربة عن الله مساهم في الحرب الجارية. قبل أن تكون الحرب سلاحاً وقتلاً ودماراً تلقاها مناخاً بين الأفراد والجماعات. الناس مترابطون. هذه طبيعتهم. كلٌّ يؤثّر في الكل. إنسان مصاب بوباء تنتقل عدواه إلى شعب برمّته. الغضب يحرّك الغضب والعنف يثير العنف. الحياة العامة شهيق وزفير. آخذ ما يبثّه الناس في الهواء وأنفث ما هو في صدري. هذا ليس صحيحاً في مستوى الحسّيات فقط، بل في مستوى النفسيات والروحيّات أيضاً. أنانياتي تحرّك الأنانيات وغيريّاتي تحرّك الغيريّات. الخير والشرّ نبثّهما من حولنا. الخير أوكسيجين روحي. يُنعش ويريح. والشرّ ثاني أوكسيد الكربون روحي. يبعث على الضيق والاختناق. لذا أفهم ذاك الذي علّق مرّة على الأحداث المأساويّة بقوله: “هذا كلّه حصل بسبب خطاياي أنا!” ليس أحد منّا بريئاً بمعنى الكلمة. قد لا أكون حملت السلاح وقاتلت، لكنّي ساهمت وأُساهم في خلق جوّ الحرب. السلاح الذي طالما حاربت وأُحارب به هو أنانيّتي. حين لا أُبالي بإنسان أُلغيه، أُزيله من الوجود. حين لا أكون مستعدّاً لأن أسمع له وأُعينَه أُسْلمُه للألغام الفكريّة في نفسه. حين لا أرى لحاجاته، حيثما أمكنني، أُحرّك في نفسه الحسد والعداوة. حين أرى فيه مصدر إزعاج يرى فيّ مصدر تهديد. حين أقول فيه كلاماً جارحاً ويبلغه يحسب موقفي منه إعلان حرب. حين لا يراني مبالياً به يظنّني مستكبراً ويشعر كأنّي أحتقره. تنشحن نفسه ضدّي. لذا كانت أنانيّات الناس وشهواتهم الأسلحة التي تجعلهم في حالة حرب حيال بعضهم البعض. الأنانيّات والموبقات لا تهضمها النفس البشريّة، لديّ ولدى الآخر. تبقى آثارها فيها كسمّ، كردّات فعل عميقة، كطاقة سالبة، وأحياناً طوال العمر. وهذا يلوّث الجوّ الروحي في العالم كما تلوّث الإشعاعات الذرّية البيئة وتقتل الحياة فيها.

بخلاف ذلك تجد المحبّة تبني واللطف يزيل الألغام والاتضاع يحرّك الحسّ بالإلهيّات… ومن ثمّ بالإنسانيّات. أما الصلاة فتبعث جوّاً من الإيجابيات. يرتاح الناس. يتعاطفون. يتفاهمون. تنحدّ التأثيرات السالبة. بنعمة الله تعود الأمور إلى شيء أو إلى الكثير من الانتظام والمؤالفة. يعود الإنسان إنساناً. يبادر إلى الحسنى ويكفّ عن أن يكون جملة ردود أفعال وضحيّة لها.

لذا كانت الحرب مؤشّراً إلى النقص وإلى الحاجة لثلاثة أمور: التوبة والمحبّة والصلاة. بلى أنا قادر على أن أُساهم في إيقاف الحرب بسلوكي في هذا المثلّث الروحي. ليست الحرب، في أعماقها، مسألة سياسيّة بل مسألة روحيّة. الكلام السياسي واجهة. الواقع الروحي لشعب ما، للقادة السياسيّين فيه، هو المَنبت. الحرب والسِلْم ينبثقان من القلب والقلب إلى القلب يولِّد بنياناً أو يولّد هدماً. دورنا في تزكية أو إيقاف ما يجري ليس بقليل. ليس لنا كمؤمنين ما نتعزّى به أو ما نُعزّي به سوى التوبة والمحبّة والصلاة. ليس ما يُصلح العالم أن يتولّى الأذكياء والاختصاصيّون الأمور على نحو مكين بل أن يساهم كلٌّ حيال نفسه ومن موقعه في العودة إلى الله بالتوبة. السلام عودة إلى الله. “في العالم سيكون لكم اضطراب، ولكن لا تخافوا أنا قد غلبتُ العالم…”. “سلامي أُعطيكم لا كما يعطيكم العالم”. الجسد المفكَّك من الخليّة المفكَّكة. لذا بالمحبّة التي نتعاطاها فيما بيننا تتماسك الخليّة وتقوى مناعة البدن ونحارب الميكروبات الروحيّة بشكل أفضل. وإذا كان الكل مرتبطاً بالكل، وهذه طبيعة البَشَرة، فإن انوصل أحدنا بالله في الصلاة فإنّه بالله ينوصل بالآخرين وتسري نعمة الله فيما بينه والناس. الصلاة تعيد ربط الناس بالناس لأنّها تربطهم بالله. يصير الله معنا وفيما بيننا. صلاة، ولو قصيرة من القلب، قد تحدث تغييراً يُعتدّ به في الموازين. يفتح الله قلب إنسان في قلب الحرب. ليس ما يحرِّك إنسانيّة الناس أكثر من الصلاة. الله، إذ ذاك، يدخل في الصورة. كل قلب في يد الله. الصلاة لغة الله للناس. بها يتحرّك روح الربّ فينا. طلبة البار تقتدر كثيراً في فعلها.

عزيتنا في زمن الحرب تأتي من تيقّننا أنّ الخلاص بالإنسان باطل. وحده الربّ الإله المخلِّص يعزّي. لذا نلجأ إلى المعزّي، روح الحقّ. نعود إليه بقلب واجف، بألم، بخوف. المهم أن نعود إليه. “تعالوا إليّ يا جميع المتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أُريحكم”. نتّضع. نصرخ. نتوب. أخطأنا أمام السماء وأمامك. لست مستحقّاً بعد أن أُدعى لك ابناً. قلبٌ مجروح. عين دامعة. نفس مكسورة. أقوم وأعود إلى أبي. تنقلب المقاييس. كان ينبغي أن نُسرّ ونفرح لأنّ أخاك كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوُجد. من هناك، من تلك العودة، تأتي التعزية الحقّانية. هذا ما يأتي بالمسرّة أن تجد التوبةُ والمحبّة والصلاة موقعاً لها في قلبك. ربما نكون قد خسرنا الكثير بسبب الحرب والدمار والقتل والتقتيل. إذا كان قد قيل: “ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه؟” فإنّنا متى ربحنا أنفسنا والإخوة فإنّنا، إذ ذاك، نكون في التعزية الحقّ ولو خسرنا العالم. ليس العالم بغيتنا في كل حال. “لا تحبّوا العالم ولا الأشياء التي في العالم”. بغيتنا الملكوت، عالم الله. بغيتنا الله والناس، أن يكون لهم موضع في قلوبنا كما لنا نحن، أيضاً، موضع في قلب الله. القلب أثمن من كل شيء. ما كانت الحرب في الأساس لتكون لو كان للناس مكان في قلبي وقلبك. يوم طَردتُ أخي من نفسي، من محبّتي، شرّدته فصار ضارباً في الأرض هائماً على وجهه في عِلَل النفس. عاديته للاسبب إلاّ لأنانيّتي. ملكوت الحبّ الإلهي في داخلكم. هذا فردوسنا. هذا عالمنا الثابت. هذا وطن الأوطان عندنا! يوم يسري الحبّ بيننا نكون في سلام عميق ولو غلّفتنا حروب الأرض. ويوم نفرغ من المودّات الإلهية يسودنا القلق والحرب الباردة ولو ساد الأرضَ سلامُ الناس.

عن “نقاط على الحروف”، عدد 33 سنة 2006، في 13 آب 2006

 

Leave a comment