من كتاب “علم الطب الروحي”

من كتاب “علم الطب الروحي”

للميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس (قيد الترجمة)

 

أتذكّر ما قاله المسيح: “ولكن متى جاء ابن الإنسان ألعله يجد الإيمان على الأرض” (لو8:18). يبدو أن المسيح نفسه يتساءل إن كان سيجد الإيمان عندما يأتي على الأرض.

من المؤكد أنه سوف يجد معاهد لاهوت، حيث تدرّس مواضيع علم اللاهوت الأكاديمية وحيث يتلقى أساتذة اللاهوت التدريب الذهني. بلا شك، سوف يجد نشاطاً كنسياً، وقداديس جميلة في أيام الأعياد وحركة ليتورجية قوية. إنه سوف يجد بالتأكيد جماعات رهبانية واسعة يلتقي فيها برؤساء ورئيسات أديرة رائعين، الذين مثلهم مثل كل شيء آخر، يكونون واثقين في أنفسهم ومكتفين بذواتهم. إنه سوف يجد أديرة يتحدث فيها الرهبان منذ الصباح حتى المساء عن المحبة، ولكنهم غير قادرين في الواقع على أن يُصلبوا من أجل إنسان واحد. إنه سوف يجد بالتأكيد مسيحيين فخورين بهويتهم المسيحية ويجاهدون في طريقهم لكي يكملوا عمل رسالتهم. وبلا شك سوف يجد مجموعات مسيحية منظمة تشتغل بالعمل الاجتماعي.

إلا أن السؤال يظل باقياً: “متى جاء ابن الإنسان ألعله يجد الإيمان على الأرض؟” هل سيجد الإيمان؟ إننا عندما نقول الإيمان، فإننا نعني في المقام الأول الشركة والحياة. الإيمان هو “رؤية وإدراك القلب”. هل سيجد محبة مسيحية؟ هل سيجد أناساً مستعدين للتضحية بأنفسهم من أجل إخوتهم في الإنسانية؟ هل سيجد راهبات، مثل القديسة ماكرينا، ملتهبات كل يوم بمحبة المسيح؟ هل سيجد أساقفة مثل القديس غريغوريوس النيصي، مملوئين تواضعاً ومحبة لله وحساً روحياً مرهفاً، التي هي مواهب ظاهرة بوضوح في روايته عن سيرة أخته؟ هل سيجد مسيحيين مشتعلين بنار حلول الروح القدس؟ بحسب تعليم آبائنا، تكون كل الفضائل عديمة النفع ما لم يكن الروح القدس موجوداً في قلوبنا. لم تخلص الخمس عذارى الجاهلات، على الرغم من كونهن عذارى، لأنهن لم يقتنين المحبة، التي هي أهم كل الأمور وهي نعمة الله في قلوبهن. بالتالي، عندما يأتي المسيح على الأرض هل سيجد “آثاراً للإيمان محفورة من قِبَل الله”، “ذبائح عقلية”، أناساً يكونون مسكناً لله الثالوث، هياكلاً للروح القدس؟

ينبغي ألا يكون هذا السؤال محل اهتمام المسيح ولكن محل اهتمامنا نحن المسيحيين بالدرجة الأولى، نحن الذين تعودنا على الحياة بطريقة سطحية وجعلنا الحياة المسيحية طقسية وذهنية.

* * *

يكتب القديس مرقس الناسك أنه لا ينبغي بنا التطلّع إلى الكمال في الفضائل البشرية، لأن الشخص الكامل لا يوجد فيها: “لأن كماله مخفي في صليب المسيح”. لا يكون المرء كاملاً عندما يتعيّن عليه فعل العديد من الأعمال البشرية، ولكن عندما تكون لديه القدرة والقوة على أن يُصلَب، وأن يُصلَب باستمرار، وأن يحيا سرّ صليب المسيح. ما هو أكثر من ذلك، أن القديس مرقس الناسك يقول أن هذا الكمال سريّ ومخفي داخل صليب المسيح. هذا هو سر الموت الجالب للحياة.

* * *

المحبة هي مناخ الصليب السلامي. المحبة هي نور الصليب. الذي يُصلَب ويتحرر من الأهواء يحبّ بحق، ويقتني حياة حقيقية داخله. هذه المحبة هي تعبير عن القيامة التي تأتي من الصلب الإرادي. إننا عادة ما نظن أن نهاية الحياة تساوي صفراً. لكن العكس هو ما يحدث. كما أنه في الحساب توجد أرقام أخرى تحت الصفر: -1، -2، إلخ، هكذا تحت الصليب توجد حياة أخرى. ونستطيع أن نقول بكل ثقة أن حياة الفشل البشري تلك والتي هي تحت الصفر هي الحياة الحقيقية. ينبغي علينا أن ندرك أن هذه المحبة تأتي مباشرة من الأبدية، من الجحيم الذي استقبل المسيح، الذي نقل لنا النور الأبدي.

* * *

يضيء النور كلّ شيء. لا يستطيع أيّ ظلام أن يخفيه. يستطيع نور الشمس أن يخترق السحاب ويخلق استنارة وفرحاً. يحدث نفس الشيء مع الشخص المصلوب إرادياً. المحبة النبيلة لا تخاف أحداً. ليست بخيلة. إنها تعطي بدون تقتير. تحترم حرية كل البشر. تنيرهم دون أن تحرقهم. حتى لو أحرقتهم فإنها تنتج ذهباً، حيث يتغير الشخص الآخر إلى ما هو أفضل. لا تطلب المحبة النبيلة مكافأة. إنها لا تعرف كيف تنتظر، ولكنها تعرف كيف تُقدّم. لا تقوم المحبة النبيلة بإعطاء المقابل ببساطة، ولكنها تأخذ الخطوة الأولى نحو الشخص الآخر. تأخذ المحبة الفشل البشري وتصنع منه مجداً. إنها تحوّل الجحيم إلى فردوس. تشبه المحبةُ النبيلة محبةَ المسيح. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: “لقد تزوّج الله الطبيعة التي كانت زانية”.

* * *

Leave a comment