الأقمار الثـّلاثة

الأقمار الثـّلاثة

الأرشمندريت توما بيطار

 

يا إخوة، نعيّد، اليوم، للآباء القدّيسين الأجلاّء، معلّمي المسكونة: باسيليوس الكبير، وغريغوريوس اللاّهوتيّ، ويوحنّا الذّهبيّ الفم. لعلّكم تعلمون أنّ لكلّ واحد من هؤلاء المعلِّمين عيدًا خاصًّا به. لكن، في وقت من الأوقات، كانت هناك أحزاب، في كنيسة المسيح، تُقدِّم الواحدَ على الآخر. وبنتيجة ذلك، ظهر القدّيسون الثّلاثة لأحد الأساقفة؛ وأعلموه بأنّهم، عند الله، متساوون. لهذا السّبب، جرى التّعييد للثّلاثة معًا في هذا اليوم. ما أهمّيّة هؤلاء المعلِّمين الممتازين؟! أهمّيّتهم تكمن في أنّ الرّبّ الإله ارتضى أن يُوجَدوا في وقت كانت الكنيسة خلاله في أمسّ الحاجّة إلى تثبيت. المسيحيّة، في القرون الثّلاثة الأولى، كانت مُعرَّضَة لأن تبتلعها الهرطقات. كانت هناك حركات فكريّة، وفلسفيّة، ودينيّة عديدة؛ وكان سهلاً جدًّا أن تختلط تعاليمُ المسيحيّة بتعاليم هذه الفلسفات والهرطقات؛ فأنعم الرّبّ الإله علينا بالعديد من المعلِّمين الّذين سبقوا المعلِّمين الّذين نعيّد لهم، اليوم، ومنهم مَن كان لاحقًا لهم. لكن، كان لهؤلاء الثّلاثة دور بارز جدًّا في تثبيت الإيمان الأرثوذكسيّ وتوضيحه، في كنيسة المسيح. ولعلّ من المفيد أن نشير إلى بعض الأمور الّتي امتاز بها كلٌّ منهم.

أوّلُ هؤلاء الثّلاثة القدّيسُ باسيليوس الكبير، الّذي كان إنسانًا مثقَّفًا بثقافة الدّنيا. في ذلك الزّمان، كان الّذين ينالون حصّة وافرة من التّعليم قلّة. باسيليوس حظي بنصيب وافر من التّعليم الدّنيويّ. وفي تلك الفترة، الّتي كان فيها منكَبًّا على تعاليم الدّنيا، كان بعيدًا، إلى حدّ ما، عن كنيسة المسيح. كان مأخوذًا بالعلم، والمعرفة، والكتب، والفلسفات؛ فدخلت في الصّورة أختُه مكرينا، وكان لها دور بارز في تغيير وجهة نظره، وفي هدايته إلى الرّبّ الإله؛ فاهتدى، وصار غيورًا على كنيسة المسيح، حتّى إنّه اعتبر أنّ السّنوات الّتي أمضاها في تحصيل علوم الدّنيا كانت سنواتٍ ضائعة. وكان يتحدّث عن العلم كأنّه يُسكـِر الإنسان، لكنّه لا قيمة له. بعد أن اهتدى بكلّ معنى الكلمة، راح يبحث عن المعرفة الّتي من فوق، الّتي من عند أبي الأنوار. وهذا جعله يندفع إلى حياة التّوحّد، إلى الحياة الرّهبانيّة؛ فعاش كراهب لبعض الوقت. وهو الّذي وضع قوانينَ للحياة الرّهبانيّة المشتركة، ما زالت مفيدة وذات قيمة كبيرة إلى يومنا هذا. إذًا، عاش كراهب، بكلّ معنى الكلمة. أراد أن يستقي المعرفة الإلهيّة من الصّوم، والصّلاة، والنّسك، والكأس المقدّسة. سكن فيه روح الرّبّ، وبات يلهج بالكلمة الإلهيّة بشكل أخـّاذ. وقد دافع عن إيمان الكنيسة، في ذلك الزّمان، دفاعًا طيّبًا. في زمانه، كانت هرطقة آريوس لا تزال منتشرة. دافع عن الإيمان القويم، وحدّده بدقّة، لم يسبق للّذين سبقوه أن حدّدوه بها. إذًا، هذا إنسان صار ناسكًا؛ وصار مدافِعًا عن إيمان الكنيسة، ومعلِّمًا فيها؛ وصار، أيضًا، أسقفًا على مدينة قيصريّة. وكانت له شخصيّة مميّزَة. روح الرّبّ فيه كان قويًّا جدًّا. لذلك، دخل في صراع، لا فقط مع الهراطقة الآريوسيّين وسواهم، بل أيضًا مع الأباطرة، الّذين كان بعضهم يميل إلى هذه الهرطقات. كان صلبًا في موقفه، على الرّغم من كلّ المحاولات الّتي قام بها الأباطرة للقضاء على أبرشيّة قيصريّة، وعلى مقاومته. من ناحية كونه أسقفًا، كان ممتازًا، ومنظِّمًا جيّدًا، وإنسانًا لا يعرف معنى الرّاحة. ولأجل مجد الله، كان باسيليوس إنسانًا ضعيفًا بحسب الجسد، مريضًا بشكل شبه دائم. حتّى إنّه، كما يقول عن نفسه، لم يمرّ عليه يوم واحد من دون آلام جسديّة مُبرّحة. ومع ذلك، كانت نفسه قويّة جدًّا، ولم يُثـْنِه ضعفه الجسديّ، ولا آلامه الجسديّة عن التوثّب في عمل الله، وفي خدمة الله، وفي خدمة كنيسة المسيح. كان جبّارًا، بكلّ معنى الكلمة؛ أو، بالأحرى، روح الرّبّ فيه كان جبّارًا. لهذا، أضحى باسيليوس مثالاً جيّدًا للأساقفة، عبر تاريخ الكنيسة. إذًا، عندنا ناسك ممتاز، ولاهوتيّ ممتاز، وأسقف ممتاز، وكاتب مُفوَّه! كانت الكلمة تجري على لسانه فيّاضَةً، كما في كتابه عن الخلق في ستّة أيّام، مثلاً، وفي رسائله الّتي كتب عددًا كبيرًا منها، مدافِعًا فيها عن الإيمان القويم. وله، أيضًا، تُعزى عجائب كثيرة، حتّى إنّ هناك مَن يُحصي ما لا يقلّ عن ثلاث مئة عجيبة جرت به. إذًا، هذا إنسان سكن فيه روح الرّبّ، وفعل فيه بشكل ممتاز. وكلّ ذلك فعله القدّيس باسيليوس في سحابة من العمر لم تتجاوز الخمسين عامًا، إذ رقد في سنّ الخمسين، وكان معتَلاًّ! لكنّ روحه لم تنثلم! لم تنجرح بما عاناه من آلام وأتعاب. وقد رقد، أخيرًا، عام 379 م، بعد شهادة جبّارة أدّاها لروح الرّبّ، في كنيسة المسيح. هذا إنسان يعادل جيشًا من الخدّام، في كنيسة المسيح. الرّبّ الإله قادر بإنسان واحد أن يُحيي أمّةً برمّتها.

إلى جانب القدّيس باسيليوس الكبير، عندنا القدّيس غريغوريوس اللاّهوتيّ. هذا كان، في بداية مسيرته، يسلك في ظلّ القدّيس باسيليوس، وكان صديقًا له. وقد درسا معًا؛ وكانا، وفق الكتابات الّتي وصلتنا، كأنّهما روح واحدة. لقد تأثّر القدّيس غريغوريوس جدًّا بالقدّيس باسيليوس وبشخصيّته، وأخذ عنه الكثير. لكنّه، في آن معًا، كان كثير التّذمّر؛ لأنّ القدّيس باسيليوس كان قويًّا إلى درجة جعلت القدّيس غريغوريوس يشعر بأنّه مقموع. لذلك، لم يكن بارزًا، في بداية الأمر. لكنّه كان شاعرًا مسيحيًّا ممتازًا، وكانت له رسائله وكتاباته.  غير أنّه تجلّى، في الحقيقة، بعد رقاد القدّيس باسيليوس؛ لأنّه، فيما كان مغمورًا في مكان ما من آسيا الصّغرى، إذا به يُستدعى إلى القسطنطينيّة، الّتي كانت كنائسها كلّها، في ذلك الوقت، في قبضة الآريوسيّين الهراطقة. وصل القدّيس غريغوريوس إلى القسطنطينيّة، وكان له صديق يملك بيتًا رحبًا؛ فاجتمع حول القدّيس بعض الّذين كانوا لا يزالون على الأرثوذكسيّة، محافظين على الإيمان القويم، وكانوا قلّة. سُمّي المكان “كنيسة القيامة”. هناك، تفوّه القدّيس غريغوريوس بأعظم ما ورد من مقولات لاهوتيّة. وهو صاحب الخطب اللاّهوتيّة الخمسة، الّتي تُعتبَر أبرز الخطب الخاصّة باللاّهوت الأرثوذكسيّ. وبسببها، عُرف القدّيس غريعوريوس بـ”اللاّهوتيّ”. وبذلك، يكون هو اللاّهوتيَّ الثّاني، بعد يوحنّا الحبيب، الّذي كان اللاّهوتيَّ الأوّل. ولفظة “لاهوتيّ” تعني أنّه عرف الله معرفة يقينيّة، عرفه في خبرته، عرفه في نوره. لهذا السّبب، لقب “اللاّهوتيّ” كان لقبًا مميّزًا، لا يعطى لأيٍّ كان. هناك، فقط، ثلاثة أشخاص يُعرفون، في الكنيسة الأرثوذكسيّة، باللاّهوتيّين: يوحنّا اللاّهوتيّ، وغريغوريوس اللاّهوتيّ، وسمعان اللاّهوتيّ الجديد. إذًا، عظمة غريغوريوس تجلّت، بشكل ممتاز، في القسطنطينيّة، في تلك الفترة من الزّمن. وبعد حين، بنعمة الله، قويت الأرثوذكسيّة على الآريوسيّة، حتّى تغّيرت الأمور بالكامل، وعادت السّيادة للكنيسة الأرثوذكسيّة وللتّعليم القويم. هذا حصل، بشكل خاصّ، بعدما تملّك ثيودوسيوس الأوّل، الأمبراطور الكبير، على القسطنطينيّة؛ وبعدما عُقد في القسطنطينيّة المجمع المسكونيّ الثّاني سنة 381 م. وقد اختير غريغوريوس رئيس أساقفة على القسطنطينيّة. لقب “بطريرك”، في ذلك الزّمان، لم يكن قد شاع. لكنّ غريغوريوس ما لبث أن قدّم استقالته من رئاسة أسقفيّة القسطنطينيّة، وانصرف ليكتب الشـّعر المسيحيّ الجميل، الممتاز. ويُظَنّ أنّه رقد في مطلع التّسعينات من القرن الرّابع للميلاد، حوالَي العام 392 م. إذًا، نحن ندين للقدّيس غريغوريوس بتثبيت الأرثوذكسيّة بهذه الخطب العظيمة، وبهذه الأشعار الممتازة، الّتي تكلّم فيها روحُ الرّبّ الّذي كان فيه.

ونأتي، أخيرًا، إلى القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم. وهو أعظم واعظ، في تاريخ كنيسة المسيح. لم يتكلّم أحد في الكتاب المقدّس كما تكلّم القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم. بدأ حياته راهبًا في بيته؛ وبعد ذلك، راهبًا في جبال أنطاكية إلى الجنوب. عاش في نسك شديد. ومن كثرة تشدّده على نفسه، ساءت صحّته، و”انضربت” معدته؛ فاضطرّ إلى النّزول إلى أنطاكية. وقد صار كاهنًا فيها. في ذلك الزّمان، لم يكن شائعًا أن يعظ الكاهن. لكنّ الأسقف فلاﭬـيانوس كان يُفسح في المجال للقدّيس يوحنّا لكي يعظ؛ فوعظ بعضًا من أبرز مواعظه في التّماثيل، في أنطاكية بالذّات، في أصعب مرحلة مرّت فيها المدينة. كان بارزًا، ومحبوبًا جدًّا. وكانت عظاته، أحيانًا، تطول حتّى إلى السّاعتين، وكان النّاس يندهشون من كلامه، حتّى إنّهم كانوا يقاطعونه، ويصفّقون له. واجتمع عدد من الكتبة، الّذين راحوا يسجّلون مواعظه. برز يوحنّا إلى درجة أنّه صار معروفًا، وذاع صيته، في كلّ الأمبراطوريّة. فلمّا حدث تغيير ما في القسطنطينيّة، وكانت هناك حاجة إلى رئيس أساقفة جديد عليها، وقع اﻻختيار عليه. وهناك، تجلّى بكلّ معنى الكلمة. بقي إنسانًا فقيرًا في عيشه: كان لا يأ كل إلاّ القليل؛ ولا يهتمّ، أبدًا، بالدّعوات الّتي تُوجَّه إليه؛ ولا يدعو أحدًا إلى مائدته؛ لأنّه كان قد التزم الفقر الرّهبانيّ. بالإضافة إلى أنّه انبرى ليبيع الكثير من مقتنيات دار رئاسة الأسقفيّة، ليوزّع على الفقراء والمحتاجين. وكان يعمل على استئصال الفساد من الكنيسة، في ذلك الزّمان. الّذين يحبّونه كانوا كثرًا، وكذلك الّذين يكرهونه. وقد دخل في صراع مع الأمبراطور، والأمبراطورة، بشكل خاصّ. هذه أرادت أن تصنع لنفسها تمثالاً، فانتقدها علنًا. لم يكن القدّيس يوحنّا يبالي، إلاّ بالحقيقة الإلهيّة. كان مستعدًّا لأن يتصدّى لأيٍّ كان: للأباطرة، ورؤساء الكهنة، وكلّ البارزين من النّاس. همّه، أوّلاً وأخيرًا، أن يثبّت كنيسة المسيح، وأن يقول كلمة الحقّ فيها. لذلك، عانى معاناة شديدة. وأخيرًا، نُفي؛ وعاش في المنفى بضع سنوات. وقد رقد، في الحقيقة، فيما كانوا ينقلونه من مكان إلى آخر، لأنّهم شاؤوا له أن يموت من التّعب. رقد في العام 407 م. لكنّ ما خلّفه من تعليم، وما تركه من سيرة بقي نورًا تستنير به الكنيسة، جيلاً بعد جيل، إلى اليوم.

إذًا، عندنا، هنا، ثلاثة أقمار تلألأت في فضاء كنيسة المسيح. هؤلاء كان لهم تأثير هائل في الكنيسة، وفي المؤمنين. واحتفالنا بهم، اليوم، هو شكران لله، في الدّرجة الأولى، على أنّه لا يترك كنيسته، وأنّه يعطيها ما تحتاج إليه في الوقت المناسب، ويرسل الرّعاة الموافقين حيث ينبغي. الرّاعي الصّالح، عندنا، نعمة من عند الله. لذلك، قيل: “اطلبوا من ربّ الحصاد أن يرسل فَعَلَةً إلى كرمه” (لو10: 2). ونحن على ثقة بأنّ الرّبّ الإله كان، وما زال، وسيبقى، يرعى كنيسته مباشرة. نحن لا نخاف على الكنيسة، لأنّ الرّبّ الإله هو بشخصه يرعاها، ويهتمّ بها. المهمّ أن نعرف كيف نسلك متعاونين مع روح الرّبّ، حتّى يتجلّى عمله فينا. فإن لم نفعل، إن لم نكن طيِّعين لله؛ فإنّ الرّبّ الإله يؤدّبنا: أحيانًا، بالأساقفة؛ وأحيانًا، بغير الأساقفة. المهمّ أن نفهم أنّنا، بتعاوننا مع روح الرّبّ، نساهم في إنهاض الكنيسة. وهذه مسؤوليّة كلّ واحد منّا. على كلّ واحد منّا أن يساهم في إنهاض كنيسة المسيح: أوّلاً، في نفسه، في سلوكه بأمانة من جهة الوصايا الإلهيّة؛ وثانيًا، من جهة غيرته على الآخرين، في كنيسة المسيح، من جهة محبّته لهم، وبذله ذاته من أجلهم. لا يظنّنّ أحد أنّ الكنيسة هي عمل الأساقفة أو الكهنة، فقط! لا، أبدًا! الكنيسة كلّنا يعمل فيها، وكلّنا يسعى فيها للشـّهادة بكلمة الإنجيل، وللسّلوك في أحكام الله، ولحفظ الأمانة للرّبّ يسوع المسيح. هذا هو مسيرنا، وهذا ما علينا أن نتمسّك به، حتّى يكون لنا نصيب في ما فعله الأقمار الثّلاثة: باسيليوس الكبير، وغريغوريوس اللاّهوتيّ، ويوحنّا الذّهبيّ الفم، الّذين ثبّتوا الإيمان في الكنيسة. ونحن، أيضًا، علينا أن نعمل على حفظ الإيمان، وتثبيته، إلى قيام السّاعة.

آمين.

عظة ألقيَت في عيد الأقمار الثلاثة، السّبت 30 كانون الثّاني 2010، حول  متّى5: 11- 23

 

Leave a comment