إليزابيت

إليزابيت

إعداد راهبات دير مار يعقوب الفارسي المقطع، دده – الكورة


إليزابيت، زوجة أنسطاسيوس الفخّاريّ أو أنسطاسيوس أو أبوستوليد، هي امرأة فاضلة تقيّة جدًّا  حوّلت بيتها مكانًا للتسبيح، فبدا شبيهًا بدير صغير. اعتادت أن توقف أولادها الستّة يوحنّا وباسيليوس وألكسندروس وحنّة وبربارة وأولغا سبع مرّات في اليوم أمام الأيقونات المقدّسة  لتلاوة المزامير. لم تكتفِ بذلك، بل درجت على إيقاظهم بعد منتصف الليل للصلاة، في الوقت الذي تكون فيه عيونهم مثقلة بالنعاس. يا لتقى هؤلاء الأولاد، ويا امحبّتهم كبيرة لوالديهما!! كان باسيليوس الأكثر حماسًا بين إخوته للنهوض ليلاً للصلاة، مؤثرًا محبّة المسيح سيّده على كلّ شيء آخر، لذا لم يكن استعداده يكلّفه إلاّ قفزة واحدة جدّيّة لينتصب بكلّ نشاط، نافضًا عنه كسل النوم. وأمّا إخوته الباقون، فكانوا يعبّسون ويتذمّرون قائلين: “ماذا نقوم نعمل، يا أمّنا في مثل هذه الساعة؟!”. فكانت تجيبهم، باستغراب وتعجّب، “طبعًا من أجل الصلاة يا أولادي!”. إنّها لخطوة مباركة لفاسيلي الصغير في سعيه الدؤوب، والقاسي، في مجال الحياة الروحيّة، التي دعاها الآباء بـ “فن الفنون وعلم العلوم”.

اضطرّ أنسطاسيوس أن يترك أولاده للعمل بعيدًا خارج البلاد، تاركًا إليزابيت وحدها مع أولادها الستّة. عانى باسيليوس كثيرًا من فراق أبيه، الذي كان يكنّ له محبّة عظيمة، فأصبحت والدته الآن موضع محبّته الوحيد.

أمّا إليزابيت، المرأة القدّيسة، فقد اعتادت على الصلاة ووجهها يسبح بالدمع المنسكب على وجنتيها كمن ينبوعين لا ينضبان. كانت تهتمّ النهار كلّه، وبعناية فائقة، بالأعمال المنزليّة، ولكن ما إن يحلّ المساء، حتّى تبدو على عجلة من أمرها، لكي تُرقد أولادها، ثمّ… تتفرّغ لصلواتها. فبعد أن يناموا تنسحب بهدوء، حابسة أنفاسها، لتبلغ الغرفة الملاصقة لغرفة صغارها. اختارت لها قلاّية حقيرة داخل إحدى التجاويف في الصحراء جعلتها كنيسة لها حيث تمضي لياليها في السهر والصلاة، لتنعم في ظلّها بأويقات من العذوبة والفرح السماويّين، فباتت موضعها المفضّل. كان الليل خاصّتها، تخلد فيه إلى عزلتها، حبيسة، منسيّة، تصلّي لمسيحها وسيّدها. أحبّت في هذا الكوخ المعتم النور المنبعث بأشعّته المرتجفة المنبعث من خلال نافذة صغيرة تكاد لاتُرى، وضوء قناديل الزيت الخافت، والمتراقص في زجاجاتها الحمراء، ناشرًا بريقها على الأيقونات، ومضفيًا عليها دفئًا وحنانًا. كانت اليزابيت تبقى ساعات طويلة ساجدة متوسّلة بدموع حرّى من أجل خلاص أولادها وأخصّائها، إلاّ أنّ النعاس كان يفاجئها، منقضًّا عليها، حتّى لا تعود تقوى على مقاومته، فيغلبها النوم وهي جاثية على أرض قد ابتلّت من انسكاب دموعها، لتصير موحلة.

لم يكن باسيليوس ليعرف النوم حيث يرقد في غرفته المجاورة لقلاّية أمّه، إذ لم يكن يحتمل سماع بكائها. كان دائم التفكير بجسامة ألمها، لماذا تنتحب بهذا الشكل، ولكن، وبما أنها لم تخبره سبب حزنها صار يتألّم هو، أيضًا، لألمها، فأثّر فيه أيّما تأثير، لا بل أضناه وعذّبه. حبّذا لو يعلم مصابها لأسرع لنجدتها، ولكنّه، كطفل، لم يكن لديه سوى قلب مفعم بالمحبّة يطفر نحوها، ويعبّر عن حبّه لها بدموع كانت تهزّ كيانه في وحدته بالقرب من الحجرة التي كانت تصلّي فيها. لم تغادره الأفكار بشأن أمّه حتّى وهو في المدرسة، إذ يتصور أمامه دموعها الليليّة المنسكبة، فيقضُه الحزن، ويأخذه البكاء دون توقّف، ورأسه غارقًا بين ذراعيه لكي لا يلاحظه أحد، وقلبه ينفطر ألمًا وحزنًا. لم يكن ليسمع، أبدًا، الجرس المنذر بانتهاء الدرس، ولا تلفته ضجّة الأولاد المندفعين إلى ساحة المدرسة. فلاحظه المعلّم، يومًا، ورأى الأسى باديًا على وجهه، فاقترب منه، واضعًا يده على كتفه، وسائلاً إيّاه: “فاسيلي، ما بك؟ أأنت تبكي؟”. ارتجف باسيليوس من هذه المباغتة، وأخذ يتمتم بضع كلمات متلعثمة وغير مفهومة: “يؤلمني رأسي … وهناك وجع في بطني ….”. ويعود في اليوم التالي ليبكي، أيضًا، ويخلق الأعذار، متعلّلاً بأعراض مرضيّة يعاني منها، وهكذا لم يكن يمرّ يوم إلاّ والطفل يشكو من ألم ما.

أقلق هذا الأمر المعلّم، فاصطحب الولد إلى أمّه مستفسرًا وقائلاً: “ممّ يشكو ابنك، يا اليزابيت؟ إنّه دائم البكاء، وفي كلّ يوم يشكو من ألم جديد، فتارة من صداع رأسه، وأخرى من معدته، ولا أدري غدًا من ماذا. ربما يجب عرضه على طبيب”. فهمت اليزابيت، لتوّها، بأنّ ما يعانيه ابنها ليس مرضًا جسديًّا، وإنّما هناك أمر آخر، ألم غامض يخفيه عنها دون شكّ. انتظرت الأمّ ابتعاد المعلّم، لحتضن ولدها، قائلة: “يا فاسيلي، يا صغيري، ممّ تشكو؟ أين يؤلمك؟”. فأجابها: “لست متألّمًا، وإنّما أبكي لبكائك. إنّي أكتئب جدًّا عندما أسمع نحيبك كلّ ليلة، فهل تبكين، يا أمّي، لأنّنا فقراء؟ أمن أجل هذا تحزنين؟”. ردّت إليزابيت بابتسامة رقيقة: “مسكين أنت، يا فاسيلي. كلا، يا ابني، أنا أبكي من أجل خطاياي. أصلّي، وأتوسّل، إلى المسيح لكي يخلّصنا جميعنا. يخلّصني أنا، يخلّص العالم، ويخلّصك أنت بالتحديد… أصلّي لك أكثر من الجميع. أنت، يا فاسيلي، لست كباقي الأولاد، فأنا أرى ظلال النعمة الإلهيّة ترتسم على محيّاك، وهناك ما يشير إلى أنّ الله قد انتقاك، لتكون له، يومًا، إناء مختارًا يسير في دربه، ولهذا، فأنا أتضرّع إلى خالقي لكي يجعلك، بحسب تدبيره ومشيئته، من أخصّائه. الحياة العالميّة، يا ولدي، لاتقدّر بشيء بالنسبة للأخرى السماويّة الأكثر سموًّا. لا يضلّنّك هذا العالم، ولا يغرّنّك بمجده، فتضيع. انظر إلى اهتماماتي كم هي كثيرة! إنّها ترهقني وتضنيني. ليتك تصير راهبًا أو كاهنًا! أجبني، يا ولدي، على ما أريد أن أسألك إيّاه أمام هذه الأيقونات المقدّسة. أتعدني بأنّ تكرّس ذاتك بالكلّيّة لله محبّة به؟ نظر فاسيلي إلى عينيّ أمّه الطافحتين بالحنان، ورأى دموعها تغسل وجهها المحبوب، فبقي صامتًا هنيهة مفكّرًا، ثمّ أجاب بتصميم: “نعم، يا أمّي، أعدك”. امتلأت اليزابيت فرحًا لدى سماعها جواب ابنها وقالت: :آه، يا فاسيلي ولدي المحبوب! عليك، إذًا، من اليوم، فصاعدًا، أن تحرص على أن تكون أكثر يقظة من باقي الأولاد، وأن تصلّي أكثر، وأن ترافقني ليلاً للصلاة. نظر الطفل إلى أمّه من خلال أهدابه المبلّلة بالدمع، مجيبًا إيّاها: “نعم، يا أمّي”. هذا ما قاله فقط.

 

هذا مقطع من كتاب عصفور غلفيريا L’oiseau de Guelvéri. الذي تترجمه راهبات الدير إلى العربيّة، وهو للكاتبة Presbytére Anna Vie de Jérôme d’Egine, Géronda et Saint Ancien. Collection: la lumière du Thabor. Edition: L’âge d’homme.

Published
Categorized as قصة

Leave a comment