الكنيسة بيت الخطأة!

الكنيسة بيت الخطأة!

الأرشمندريت توما بيطار

 

يا إخوة، يسوع، دائمًا، مجتاز. الاجتياز هو سمته: “ليس لابن الإنسان مكان يسند إليه رأسه” (متّى8: 20). ويسوع، أيضًا، في وضع الاجتياز في حياة كلّ واحد منّا. لذلك، علينا، دائمًا، أن نكون يقظين، أن نكون منتبهين، لأنّنا لا نعرف في أيّة ساعة يأتي ربّنا. علينا بالسّهر والانتباه. والإنسان يحتاج إلى أن يغتنم الفرصة، وإلاّ تضيع. يسوع يأتي في حياة كلّ واحد منّا، ليعطي ذاته؛ فطوبى للّذي يلقاه مستيقظًا.

“رأى [يسوع] لاويَ بن حلفى”. عين يسوع على كلّ واحد منّا، وهو لا ينظر كما ينظر الإنسان. الإنسان ينظر إلى العينين؛ أمّا الرّبّ الإله، فينظر إلى القلب. معرفة يسوع بنا هي معرفة في مستوى الكيان. كان لاوي “جالسًا عند مائدة الجباية”، أي كان عشـّارًا، وكان منهمكًا بتحصيل المال؛ “فقال له يسوع: اتبعني”. يسوع لا يتكلّم كثيرًا، إذ لا يحبّ كثرة الكلام. كلّما عرف الواحدُ منّا الرّبَّ يسوع، مال إلى الصّمت، وقلَّ كلامه. في هذا الدّهر، الّذين يعرفون يتكلّمون قليلاً، والّذين لا يعرفون يتكلّمون كثيرًا. “فقام [لاوي] وتبعه”. لاوي، كما نعرف، هو نفسه متّى. إثر سماعه الكلمة، كلمة يسوع، قام وتبعه. الإنسان قلب، والقلب لا يحتاج إلى الكثير ليميل إلى يسوع. يحتاج إلى كلمة مُشبَعة بالنّعمة، يحتاج إلى كلمة بركة، يحتاج إلى الـْتـِفاتَة. يسوع، حين يتكلّم، يبثّ في كلامه روحًا. والّذين يحبّون يسوع، متى تكلّموا، يبثّون روحًا من عند يسوع.

“وفيما كان [يسوع] متّكئًا في [بيت لاوي]، كان عشـّارون وخطأة كثيرون متّكئين مع يسوع وتلاميذه”. إذًا، الرّبّ يسوع دخل بيتَ لاوي. دخل، أوّلاً، قلبَه، ثمّ دخل بيتَه. المحبّة، دائمًا، تحتاج إلى تعبير. الإنسان لا يحبّ بالكلام، فقط؛ بل بالفعل، أيضًا. إذا كان الرّبّ يسوع قد قبل لاويَ، فمن الطّبيعيّ أن يكون قد قبل دخولَ بيته. هذا الأمر ليس مسألة اجتماعيّة. عند النّاس، هذا يُعتبر زيارة. أمّا عند يسوع، فهذا ختم محبّة يسوع للاوي، وقبوله له. طبعًا، بما أنّ لاويَ كان عشـّارًا، فإنّ العشـّارين والخطأة كانوا هم رفقته. هؤلاء وُجدوا، إذًا، متّكئين مع يسوع وتلاميذه. بالنّسبة إلى لاوي، فإنّه دعا العشـّارين والخطأة إلى بيته، من باب إكرام يسوع. النّاس يعبّرون بطرقهم الخاصّة. المهمّ أن نرى دائمًا، وراء تعبيرهم، حركةَ قلوبهم. لا نحكمنّ على النّاس بحسب الظّاهر! إذًا، هذا بالنّسبة إلى لاوي. أمّا بالنّسبة إلى يسوع، الّذي لا يبحث عن إكرام، فإنّ اتّكاءه مع العشـّارين والخطأة كان من باب الامتداد صوبهم، حتّى يخلصوا. هَمُّ يسوع الأوّل والأخير أن يخلّص النّاس. كلّ مناسبة، بالنّسبة إليه، هي مناسبة خلاص.

“فلمّا رأى الكتبةُ والفرّيسيّون أنّه يأكل مع العشـّارين والخطأة…”: الكتبة والفرّيسيّون كانت عيونهم على يسوع. وهم رأوا يسوع يأكل مع العشـّارين والخطأة من الخارج، ولم يدخلوا بيتَ متّى؛ إذ إنّهم ما كانوا يخالطون الخطأة والعشـّارين. إذًا، هم وقفوا خارجًا، وأخذوا يراقبون الدّاخلين والخارجين، وكان لهم هَمٌّ واحد: أن يُوقعوا بيسوع. الفرّيسيّون كانوا يعتبرون أنّ الله معتزِل، أي إنّه لا يخالط الخطأة. الخطأة نصيبهم القطع، نصيبهم الفرز! الفكرة، عندهم، كانت أنّ الله سوف يقطع الخطأة، ويحرّر العالم منهم. حتّى يوحنّا المعمدان، في ما يبدو، لم يكن خاليًا من فكرة قطع الخطأة. هذه الفكرة كانت شائعة بين النّاس. حين جاء الخطأة إلى يوحنّا ليعتمدوا، قال لهم: “الفأس قد وُضعت على أصل الشـّجر، فكلّ شجرة لا تصنع ثمرًا جيّدًا تُقطَع وتُلقى في النّار” (متّى3: 10). طبعًا، من الممكن أن يُفهم هذا الكلام باعتباره يشير إلى الدّينونة. لكن، يمكن، أيضًا، أن يُفهم باعتباره يشير إلى قطع الخطأة، منذ الآن. وثمّة مَن يظنّ أنّ هذا كان سببَ تردّد يوحنّا، فيما بعد، في شأن يسوع. يسوع كان رحيمًا تجاه الخطأة. أمّا الاتّجاه العامّ، فكان غير ذلك.

إذًا، بالنّسبة إلى الكتبة والفرّيسيّين، بصورة خاصّة، الإنسان البارّ لا يؤاكل الإنسان الخاطئ، ولا يجلس إليه، بل يقطعه، ويقطع كلّ علاقة به. عند الفرّيسيّين، لم يكن هناك تمييز بين الخاطئ والخطيئة. أمّا بالنّسبة إلى يسوع، فالخاطئ شيء، والخطيئة شيء آخر. لا بدّ من التّمييز بين الأمرين. كلّ واحد منّا، في الحقيقة، يدين الآخرين، لأنّهم يرتكبون إثمًا، أو ما يظنّه هو أنّه إثم. إذًا، كلّ إنسان يدين الآخرين على هذا الأساس يكون كالفرّيسيّين. نحن لا يحقّ لنا أن ندين أحدًا، على الإطلاق. إنّما لنا أن ندين الخطيئة في أنفسنا وفي الآخرين. الآخر ليس برسم الإدانة، بل برسم المحبّة، برسم الرّحمة. خطيئته برسم الإدانة، لا شكّ في ذلك. وطبعًا، إذا كنّا لندين الخطيئة دون الخاطئ، فلا بدّ لنا من أن نوجَد مُحبّين للخاطئ. هذا ما يحدث، تمامًا، حين يكون إنسانٌ مريضًا. الإنسان المريض نحبّه أكثر، لأنّه مريض، ولا نحبّه أقلّ. لكنّنا نكره مرضه، ونسعى لشفائه منه. هذا إذا كان عندنا قلب، وإذا كنّا نحبّ. إذًا، كلّما استرسل الإنسان في إدانة النّاس، كانت محبّته محدودة، لا بل معدومة. وعلى العكس، كلّما وجّه الواحد منّا ناظرَيه إلى الخطيئة بالإدانة، وجد نفسه وقد تحرّك قلبه حبًّا للإنسان الخاطئ. هنا، في الحقيقة، يكمن الحدّ بين مَن هو ليسوع ومَن ليس ليسوع. مَن كان ليسوع، فإنّه يحبّ الجميع، “لأنّ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله” (رو3: 23). إذ ذاك، إن نحن أحببنا؛ فإنّنا سنوجَد، بصورة تلقائيّة، كارهين الخطيئةَ في الآخرين وفي أنفسنا. وهذا أوّل الطّريق إلى التّحرّر من الخطيئة. إذًا، يسوع آكل العشـّارين والخطأة، لأنّه كان يحبّهم. ولأنّه كان يحبّهم، كان يهتمّ بشفائهم، ومساعدتهم. كان رحيمًا تجاههم. هذا منطق آخر، هذا منطق إلهيّ. هذا هو المنطق الّذي علينا أن نقتنيه، في كلّ حين، وفي كلّ حال.

الكتبة والفرّيسيّون لاموا يسوع. وإذ لاموه، أدانوه، جعلوه خاطئًا؛ لأنّ الفرّيسيّين يعتبرون أنّ الطّيور على أشكالها تقع: الخطأة يعاشرون الخطأة! “قالوا لتلاميذه” – وكأنّهم يحاولون أن يقلّبوا التّلاميذ على المعلِّم – “ما بال معلّمكم يأكل ويشرب مع العشـّارين والخطأة”؟! التّلاميذ، إذًا، كانوا يتحرّكون من الدّاخل إلى الخارج. هنا، علينا أن نفهم أنّ التّلميذ لا يلوم معلِّمه في شيء. التّلميذ الأصيل هو الّذي يعتبر نفسه تحت الحكم، لا فوق الحكم. في الحياة الرّهبانيّة، مثلاً، ليست خطيئةٌ أسوأَ من أن يدين الرّاهبُ رئيسَه! هذه أسوأ الخطايا، لأنّها تذهب بالنّعمة الإلهيّة، بصورة كاملة! التّلميذ الأصيل يقول: “أنا لستُ في وضع مَن يحكم على رئيسي. إنّما هو يحكم عليّ”. متى شعر بذلك، فإذ ذاك، يكون في الأمان؛ وإذ ذاك، ينال بركة من فوق. التّلاميذ، هنا، لم يتفوّهوا بكلمة. سمعوا، فقط؛ ولم يأخذوا، طبعًا، بالكلام الّذي قيل، إلاّ ربّما يهوذا الإسخريوطيّ، الّذي كان يدّخر موقفًا شكّاكًا من جهة المعلِّم. “فلمّا سمع يسوع، قال لهم…”. كيف سمع يسوع؟! وكيف قال لهم؟! يسوع يسمع الكلام، حتّى قبل أن يُقال. هو كان في الدّاخل، وأغلب الظّنّ أنّهم هم كانوا في الخارج. هذا يعني أنّه خرج إليهم، فيما كانوا يحدّثون بعض التّلاميذ، وقال على مسمع من تلاميذه: “لا يحتاج الأصحّاء إلى طبيب، لكن ذوو الأسقام”. إذًا، العشـّارون والخطأة هم مرضى، ويجب أن يُعاملوا كمرضى. أمّا الأصحّاء – وليس أحد صحيحًا – فهم الّذين يدّعون أنّهم في العافية، وليسوا كذلك. هؤلاء الّذين يدّعون العافية، كالفرّيسيّين والكتبة، باقون في الخارج، ولا يريدون أن يدخلوا، ولا يريدون أن يكون لهم نصيب مع المعلِّم؛ لأنّهم يعتبرون أنفسهم أصحّاء! هذه دينونتهم: أنّهم لا يعرفون حقيقة نفوسهم. حتّى بعد أن قال لهم يسوع هذه الحقيقة، لم يقبلوها. يسوع لم يأتِ ليدعو صدّيقين، بل خطأة، إلى التّوبة (لو5: 32). كأنّ البيتَ الّذي دخله يسوع، بيتَ لاوي، صار هو الكنيسة. والفرّيسيّون والكتبة قائمون في خارج البيت، لا نصيب لهم في كنيسة المسيح. أمّا الّذين هم في الدّاخل، فهم الّذين يعرفون أنفسهم أنّهم خطأة! هؤلاء لا يلوّثون يسوع بخطيئتهم، كما يظنّ الفرّيسيّون والكتبة، بل هو الّذي ينقّيهم بنعمته. هو أخذ خطيئتنا، وأعطانا أن نتنقّى منها.

خلاصة القول هي أنّ كلّ مَن ظنّ، بيننا، أنّ له فضيلةً، وتصرّف على هذا الأساس؛ كانت فضيلتُه رذيلةً؛ لأنّ الّذي يظنّ نفسه أنّه صاحب فضيلة لا بدّ من أن يغزوَه الغرور، والمجد الباطل؛ ولا بدّ من أن يجد نفسه ديّانًا للآخرين! الفضيلة الحقّ تأتي من معرفة الذّات، من أن يعرف الإنسان خطيئة نفسه. والفضيلة، أيضًا، تأتي من التّوبة، بعد أن نكون قد أخذنا في معرفة ذواتنا. يسوع جاء من أجل الّذين يعرفون أنّهم خطأة، ويطلبون التّوبة. فإذا ما سلكنا على هذا النّحو، يكون اجتياز يسوع بنا قد تتوّج بسكناه في حياتنا؛ فنصير له تلاميذ؛ وإلاّ فنحن، أيضًا، نبقى خارجًا، على غرار الكتبة والفرّيسيّين. آمين.

عظة حول مر2: 14- 17 في السّبت 21 آذار 2009

Leave a comment