الإيمان بالإنجيل
القديس نقولاي فيليميروفتش
ترجَمته عن الفرنسيّة بتصرّف السيدة مايا اسطفان*
1- يقول الرَبّ: “توبوا، وآمنوا بالإنجيل” (مرقص 1: 15). التّوبة الحقيقيّة لا تعني مُجَرَّدَ الحُزنِ على الخطايا المرتَكبَة، بل تعني كذلك تَحوُّلاً كُلِّيًا من الظُّلمة الى النّور، ومن الأرض إلى السماء، ومن الذّات إلى اللّه.
2- من غير هذا التحوّل الكُلّيّ، ليسَت التوبة إلاّ استهزاءًا بالله، وبأنفسنا. إلاّ أنَّ الله لا يُهزأُ بِهِ. الرّبُّ يُحِبُّ التّائبين، ولكنه يَصفَعُ بيدٍ من حَديد غير التّائبين، أو مَن يتوبُ توبةً جزئيًة مُلتَوية. فإذا جَرَحَ، جُرحُهُ عميق، ولا أحدَ سواهُ تعالى يستطيع أن يُضَمِّدَه.
3- أمّا الغرَضُ من التّوبة، ومن الإيمان بالإنجيل، فيوضحُه الكلام التالي من الكتاب المُقَدَّس جوابًا عن السّؤال: ما هو الإنسان؟ يقول داود النّبيّ : “أنا دودةٌ لا إنسان” (مز7:21). ماذا ينبغي أن يكون الإنسان؟ “أنا قلتُ إنّكم آلهة وابناء الله العَليّ” ( مز 6:81، يو34:10). إذًا، الغرَض من التّوبة، ومن الإيمان بالإنجيل هو أن تتحوَّل الدّودة إلى ابن الله.
4- ما معنى أن نؤمِن بالانجيل؟ هو أن نؤمن بالبشارة الّتي أتاها الرّسول السماويّ لجنس البشر ، وهو الإله ابن الإله. بتعبير آخر، هو أن نؤمِن بالسيّد المسيح وبما أعلَنَهُ لنا. ما أعلنه المسيح لنا هو أعظمُ إعلانٍ منذُ بدء العالم. هذا الإعلان وحدَه قادرٌ على تحويل “الإنسان الدّودة” الى “الإنسان الإله”، إلى إبن لله.
5- إذاً، أَلَم يُعلِن أحدٌ هذه البشارة قبل المسيح؟ أحقًّا لم يُعلن أحَدٌ هذه البشارة من بين كلّ هؤلاء العقلاء، والفلاسفة، والمعلّمين، والمشرِّعين، والملوك، والأنبياء؟ أجل، لا أَحَد. على كلّ حال، كان يستحيل على أحدٍ منهُم أن يعرف البشارة أو أن يُعلِنَها. ولماذا؟ لأنّهم كانوا أرضيّين من بَني الأرض، وأقوالُهم أرضيّة (يو31:3). تكلَّموا عن السّماء، حسبَ زعمهم، فيما أعيُنهُم تحدّقُ في الأرض، وآراؤهم أرضيّة.
6- لهذا كانت الأديان والفلسفات ما قبل المسيحِ كلُّها مظلمة، ومتشائمة، فيها مبالَغة وتَقَلُّب. هذا ما نجدُه في حضارة الإغريق، كما في الهند، ومصر، وبلاد فارس، والصّين، وفي المكسيك عند الإنكا Incas وعند الوثنييّن المعاصِرين. لا يستحقُّ أيُّ هذه الأديان والفلسفات إسمَ “البشارة”. لقد حُفظَ هذا القول لهوميروس، وهو الحليم الهادئ بين شعراء العصور القديمة : “خيرٌ للإنسان أن يكون كَلبًا في هذا العالم، من أن يكون مَلِكًا في الجحيم”. كإنسانٍ أرضيّ، ابن هذه الفانية، لم يستَطِع أن يُبصِرَ بأجلى وضوح، ولا أن يجِدَ تعبيرًا أدَقّ.
7- وحدَه “الّذي نزل من السّماء، ابن الإنسان، الّذي هو في السماء” (يو 13:3) استطاع أن يَشهْدَ للعالم بأمور السّماء، وبالإلهيّات، وبالحقائق الروحيّة الّتي في العالَم الآخر، عالم الرّوح الّذي يحيط بالله وبالنفوس البشريّة بعد موت الجسد. “إننا نتكلّم بما نَعلَم ونَشهَدُ بما رأينا” (يوحنا3-11) يمكن القول إنّ شهادَتَهُ في الأمور الرّوحيّة كلّها ناتجة عن الخبرة. فهو لا يَشهَدْ بحسب المنطق الأرضيّ، ولا وفق استنتاجات العقل البشريّ، ولا وفق ما للإنسان الأرضيّ من حكمة وفلسفة، بل يشهَد بحسَب “ما عرفناه، وما رأتْ عيونُنا”. إنّه الرّسول السماويّ للحقيقة السماويّة. “أنا لم آتِ إلى العالَم إلاّ لأشهَدَ للحقيقة” (يو 37:18). ولا يمكن للإنسان الأرضيّ أن يشهَدَ شهادة صادقة لهذه الحقيقة. أمّا هو فيسمّي شهادَته “بشارة”.
8- إنّ الرّسول السماويّ حامِل البشارة يشهَدُ أنّ الله واحدٌ في التّناغُم الأبديّ للثّالوث، الآب والابن والروح القدس.
ويشهد أنّ الله ليس مجرّد خالق، ولكنّه الآب أيضًا، أي هو الأقرب والأعزّ بين الوالدِين لجميع الّذين يرغبون في أن يصبحوا أبناءَه. ويَشهد أنّ الله الآب هو الحُبّ الجوهريّ، الّذي أرسلَ ابنه الوحيد إلى العالَم، بداعي محبّته لجنس البشَر، لكي يَخلُصَ به العالم (يو3: 16-17). ويَشهَدُ أنَّ نَفسَ الإنسان لها قيمة تفوق بأشواطٍ كلَّ ما ينتمي الى العالَم المادّيّ (متى 16:26)، وأنّ العالَم الآخَر فيه أجنادٌ من صفوف الملائكة. هؤلاء يؤثّرون على النّاس في مأساة هذا العالم تارةً بحالٍ منظورة، وتارةً أخرى بحالٍ غير منظورة، ولكن من دون انقطاع. ويشهد أنّ الأبرار يضيئون كالشمس، بعد موتهم، في دُنيا الآخِرة (في 15:2)، وأنّ ابنَ الله نَزَلَ الى الأرض ليجعل “النّاس الدّيدان” أبناءً لله وآلهة، بمشيئة الآب ونعمته. تَلي هذا دينونَةُ الله العادلَة، ثُمَّ القيامة من بين الأموات، فالحياة الأبديّة. ثمّ أمورٌ كثيرة، كلٌّ منها أشدَّ سعادةً من الأخرى.
9- لقد دعا المسيح النّاس إلى الإيمان بهذه البشارة، “توبوا وآمنوا بالإنجيل (البشارة)” (مر15:1). هذا يعني أنّه دعاهُم للإيمان بهِ وتصديقه، والإيمان بكلّ كلمة يقولها. ذلك أنَّه ليس من سبيل لأن يقِف النّاس على حقيقة المسائل الجوهريّة بشأن الحياة والوجود إلاّ بقَبولِهم الشّاهد الأمين للحقائق السّماويّة والرّوحيّة. فإما أن نؤمِن بالمسيح، وإما نبقى تائهين في أعماق الحياة الدّاكنة العاصفة، ونحن، في تِيهِنا هذا، نُصدِر التّوقّعات والنّظريّات حول ضفاف النّهر، وحول الشواطئ الأرضيّة المحاذية للأعماق الّتي غَرِقنا فيها. حتى أيّامنا هذه، لا نعرف طرقًا أخرى سَلَكها النّاس على مدى تاريخ مملكة النّمل البشريّة.
يتّضح لنا بالتّالي أنّ الإيمان المسيحيّ لا مثيل لَهُ بين ما في العالم من أديان ومعتقدات أخرى. فالأديان الأخرى آتيَة من بَني الأرض الدُّنيويّين، يتكلّمون في العالم الرّوحي بمقتضى تحليلهم الخاصّ الفِطريّ، أو بما تُمليه عليهم أرواح الشّر. لم يَقُلْ أحدٌ من مؤسّسي الدّياناتِ الأخرى إنّه نَزَلَ من السماء، ولا إنّه أُرسِل من الآب، ولا إنّه يشهد لما في السّماء بما عرفناه، وما رأتْهُ عيوننا، ولا حتى إنّه عائدٌ إلى السّماء. لذا لا يمكن أن نُساوي بين شهادة المسيح، والدّيانات أو المذاهب الأخرى في هذا العالم الواسع.
* من “الإيمان و الحياة بحسب الإنجيل، بشرى الخلاص في الكنيسة الأرثوذكسيّة، ( مقتطفات من”مئويّة ليوبوستينيا” Lioubostinia)” ترجَمته عن الفرنسيّة بتصرّف السيدة مايا اسطفان، مراجعة راهبات دير رقاد السيدة – كفتون، المصدر الأساسي:
«Centurie de Ljubostinia» in Vélimirovitch, St Nicolas. La foi et la vie selon l’Evangile. Editions l’Age d’Homme (10 mai 2007). Col.Grands Spirituels Orthodoxes du XXe siècle. Traduit du serbe par Zorica Torzic.