ماذا عن القدّيسين؟
الأرشمندريت كاسيانوس عيناتي
الطريق الإنجيليّ الوحيد، على مثال القدّيسة مريم المجدلية، لردم الهوّة بين الجسد القائم من بين الأموات والجسد المائت، يكمن فقط في أجيج نارِ حبٍّ مجنون. وفي هذا الحب يترسّخ إيمان بأنّ بين المسيح وبيننا لُجة، ليست بجحيم وإنما هي رأفة نرتمي فيها ونحن نصلّي من أعماق القلب إلى الاسم الأزلي “الذي قبل أن كان ابراهيم، أنا كائن” (يو58:8). وفي الإيمان يثبت الرجاء بأنه بين “الأنا كائن” في جسم المسيح القائم و”الأنا كائن” في جسمنا المائت هناك أنّات الروح القدس تشفع فينا بحال لا توصف. وإذا ما ضاعفنا صلواتنا وتشارك فيها القلب والذهن معاً، فهي تحملنا إلى خارج ذواتِنا، فوق الخليقة كلّها، في ضوء اليوم الأول وينبثق عنها حرارة تنبعث في جسدنا لتنقل إليه أشعة اليوم الثامن، قوة القيامة العامة نفسها. هكذا اجتاز القديسون الفتور البشري وانتقلوا من برودة الموت الثاني التي تلفح الأجساد دون أن تدري. وبذلك فإن غير المستطاع، وغير الملموس، أصبح ملموساً ومستطاعاً في حِفظ الرجاء وحراسته. فالسؤال يبقى كيف نكون قديسين؟ الجواب يعطيه الإنجيل الذي يدعونا لنكون حارّين ويتركنا أحراراً في أن نكون باردين. فالخيار إذاً هو في المسيح أو في “ضد المسيح”، في الحياة الجديدة أو في الموت الثاني. فالنتيجة ستكون حتمية؛ و”ضد المسيح” بإبادته الشر بالشر والخطيئة بالخطيئة، يحضّر بشكل متناقض مع هدفه مجيءَ المسيح الذي يضع حدّاً نهائياً للشر وللخطيئة؛ ويحطّم الموت بموته ويفتح الباب الذي لا يُغلق.
القداسة هي رهن حريتنا وحريتُنا تتجلى بمقدار حبنا للقريب. الله أحبّنا وصار إنساناً مثلنا. وربط إنسانيتنا بألوهته بواسطة حبّ عميق لا تستطيع أية فلسفة بشرية أن تعبّر عنه. هذا الرّباط وطّده الرب في سرّ القدّاس الإلهي. وأعطانا بالمعمودية حق الإشتراك فيه وأصبح صليبُه وموتُه صليبَنا وموتَنا إذا تذّكرنا وصيته، ولكن قيامته تبقى رهناً بإرادتنا. فبمقدار ما أميت الموت وانقلعت شوكة الخطيئة من أجسادنا، ففتور إرادتنا الذي يسلب منا حريّة الاختيار الصحيح، يزيد من تمزيقنا ولا يبني إلاّ سرير موتِنا الثاني.
أن نتّبع القديسين، لا يكون فقط بالذكر والحكمة البشرية الواهنة ولكن في تحويل القلب في أصعب اللحظات، في تجارب الجسد والذهن المريرة بواسطة الصلاّة الحارة في صحوة إيماننا ويقين الرجاء إلى قلب العالم الواحد. نزهد بالعالم لندرك قلبه ونحبه من كلّ قلبنا وفي القلب. ومن هناك نستقي الحب الذي يروي العالم. بهذه الطريقة زهد القديسون بروح العالم ليحيا قلب العالم بحبّهم له. تشبّه القديسون بالمسيح فأحبّوه كما هو أحبّ، وعاشوا معه كما عاش هو، واتّحدوا معه في شركة حبّه الأزلي مع أبيه وروحه القدوس، فماتوا معه ليصلوا إلى ذروة مجد الحب، إلى “التألّه” بنعمته الإلهية. وهكذا يستحيل الزمن إلى حياة أبدية ويمتلئ المكان بالأنوار الإلهية غير المخلوقة وتفيض العظام المائتة بينابيع الرأفة والمحبّة التي تبشّر بالنهاية السعيدة. هذه النهاية حاضرة وخفيّة في كلّ كائن حيٍّ أتى إلى الأرض، هي الحياة الأبدية النابعة كما يقول الإنجيل من معرفتنا للآب بأنه الإله الأزلي والذي أرسله هو يسوع المسيح (يو3:17) الذي جعل من حياتنا اليومية حياة أبدية.