السّيادة لله وحده!
الأرشمندريت توما بيطار
يا إخوة، يوحنّا، بتعامله مع الرّبّ يسوع، كان مثاليًّا؛ لأنّه، كإنسان واقف بإزاء الله، عرف نفسه، ووقف عند حدّه، وارتضى أن يمّحي، ارتضى أن يكون هناك سيّد واحد هو الرّبّ يسوع المسيح؛ فقد قال، صراحةً، إنّ فرحه مرتبط بصوت الختن. يكفيه أن يسمع كلام الله: “ففرحي هذا قد تمّ. وله [أي للختن]ينبغي أن ينمو، ولي أن أنقص“. يوحنّا كان مجرّد شاهد. قُطب الاهتمام هو يسوع؛ فيوحنّا مثاليّ، بالنّسبة إلى النّاس؛ لأنّه يعطي نفسه مثالاً طيّبًا لطبيعة العلاقة الّتي يجب أن يكون عليها كلّ إنسان، بتعامله مع ربّه.
يسوع قال، مرّة، هذا القول: “لا تدعوا لكم سيّدًا على الأرض، لأنّ سيّدكم واحد في السّماء” (متّى23: 8- 9). قد يظنّ بعضنا أنّ هذا الكلام يشير إلى الملوك، والرّئاسات، وذوي الرّفعة. هذا صحيح.لكنّ مدى القول الإلهيّ أبعد من ذلك بكثير. كلّ واحد منّا، في الحقيقة، يعاني مشكلة الرّئاسة، مشكلة السّيادة؛ يريد أن يكون سيّدًا. وهذا شيء ناتج من عطب الإنسان، منذ السّقوط. ليس المقصود، فقط، أن يطمحالإنسان إلى الرّئاسات، في قومه؛ بل أن يكون موقف كلّ واحد منّا موقفًا على مثال موقف يوحنّا: موقفالامّحاء بإزاء السّيّد. المتزوّجون، مثلاً، يعانون مشكلة الرّئاسة، يعانون مشكلة السّيادة! في المجتمعالرّجوليّ، الرّجل يعتبر نفسه سيّدًا في بيته: سيّدًا على امرأته، سيّدًا على أولاده! نفسيّته نفسيّة سيادة. لذلك، كلّ إنسان يحتاج، في الحقيقة، إلى أن يتعلّم كيف يُفرغ نفسه من هذا المَيل، من هذا الاستعداد لأن يكون سيّدًا. السّيادة، بين النّاس، في الحقيقة، لها ثلاثة أبعاد:
أوّلاً، الإنسان الّذي يرمي إلى السّيادة هو إنسان يميل، بسهولة، إلى الكبرياء. بكلام آخر، يعبد نفسه.نظرته إلى نفسه نظرة عظَمة.
ثانيًا، لأنّه كذلك، فهو يطلب مشيئة نفسه، في كلّ حال. يطلب، دائمًا، أن يُطاع؛ يطلب، دائمًا، أن يُعترَف بفهمه، برجاحة عقله، بحكمته، ولو لم يكن لا على فهم، ولا على رجاحة عقل، ولا على حكمة…
ثالثًا، لأنّه متكبّر ويعبد نفسه، ولأنّه متمسّك بفرادته ويطلب أن يُطاع؛ يقع في أحزان كثيرة.
إذًا، الوقوع في الأحزان، في الحياة، سببه تمسّك الإنسان بصورته عن نفسه أنّه سيّد. المتّضِع لا يطلب مشيئة نفسه؛ ومن ثمّ، لا يطلب أن يُطاع، ولا يطلب ما لنفسه، بل ما لسيّده. لذلك، لا يحزن، بل يقبل كلّ شيء. الحزن، في الحقيقة، عائد، في الدّرجة الأولى، إلى كون الإنسان عابدًا لذاته. حين يكفّ الإنسان عن الإصرار على التّمسّك برأيه، ويصير مستعدًّا لأن يُسلم إلى ما لربّه؛ إذ ذاك، لا يحزن لشيء، بل يقبل كلّ شيء، ويفرح؛ مستمـِدًّا الفرح من سيّده، لا من ذاته. يوحنّا استمدّ فرحه من يسوع: “فرحي هذا قد تمّ” [لأنّ السّيّد أخذ محلّه في حياة العالمين، وأنا شهدت لذلك؛ لقد كان كلّ همّي أن يُعرَف أنّه هو السّيّد؛ أمّا أنا، فلست بشيء]. لذلك، يوحنّا سيق إلى قطع الهامة وفي قلبه فرح! حتّى الموتُ لم يكن، بالنّسبة إليه، مجالاً للحزن، بل مجالاً للفرح. طبعًا، هذا يذكّرنا بما قاله الرّسول المصطفى بولس، مرّةً، إنّه يفرح بآلامه وأتعابه، وإنّه يحتسب الموت ربحًا. لِمَ ذلك؟! لأنّ بولس “أفرغ نفسه وأخذ صورة عبد“، على مثال معلّمه.لذلك، لم يبقَ هناك سبب للحزن. كيف يحزن الإنسان، إذا كان كلّ ما يفعله وكلّ ما يأتيه يدخل ضمن دائرة معلّمه؟! ما دام الأمر مرتبطًا بإرادة معلّمه، فهو يفرح. يحزن، فقط، حين يرتبط الأمر بإرادته هو، حين لا يحصل على ما يريد، حين لا يتحقّق ما تشتهيه نفسه!
من هنا، يا إخوة، إنّ مشكلة الإنسان الأولى أنّه يظنّ نفسه سيّدًا، ويتصرّف كسيّد، ويريد أن يسود بين النّا س، ولو بين عدد قليل منهم. فالمطلوب، لكي يرتاح الإنسان، أن تكون عيناه مسمّرتَين على المعلِّم.فرح العبد هو أن يكون مشمولاً بمحبّة سيّده ورضاه عنه. والإنسان الّذي يستعبد نفسه لله يستمدّ فرحه من عشرة ربّه.
طبعًا، هناك مشكلة، في كنيسة المسيح، هي مشكلة خدّام الكنيسة: البطاركة، الأساقفة، الكهنة، الشـّمامسة. هؤلاء، أحيانًا، يتستّرون باسم الله، ويستعملون سيادة الله ليمدّوا، في الحقيقة، سلطانهم هم. بدل أن يستعبدوا أنفسهم ليسوع، يستعملون يسوع، ويستعبدونه لأهوائهم… باسمه! يتكلّمون بسلطان يدّعون أنّه، في كلّ حال، من عند الله. ليس البطريرك، ولا الأسقف، ولا الكاهن أسيادًا على أحد. هم، دائمًا، يشيرون إلى يسوع؛ هم، دائمًا، يشهدون ليسوع، ويُفرغون أنفسهم، كيوحنّا؛ لكي يُفسحوا في المجال ليسوع أن تكون له السّيادة على النّاس. لذلك، الخادم، في الكنيسة، هو إنسان سعيُه، في كلّ حين، لإفراغِ نفسه، وطَلَبِ ما لسيّده، والتّنقّي من مشيئته الخاصّة. حين يشعر، في أعماقه، بالفرح لأنّ مشيئة سيّده تتمّ فيه وفي الآخرين؛ إذ ذاك، يكون قد تنقّى. نحن نغرق، أحيانًا كثيرة، في بحر الكلام؛ فنتكلّم بما لا نشعر به؛ ونتداول ما لا يكون، بالضّرورة، حقيقةً في نفوسنا. في أكثر الأحيان، نكون باطنيّين: نفرح بما لأنفسنا، ولا نفرح كثيرًا بما لله. نفرح بالكلام! لكن، في أعماق قلوبنا، بسبب عدم نقاوتنا، لا نفرح، بل نحزن؛ لأنّنا نطلب مجد أنفسنا، لا مجد الله! نطلب أن يُقال فينا حسنٌ، لا أن يُسبَّح الله! هذه مشكلة خدّام الكنيسة، أنّهم يصادرونسيادة الله، ويتصرّفون كأسياد، وعليهم أن يفعلوا العكس. عليهم أن يُفرغوا ذواتهم من كلّ كرامة ذاتيّة؛ وأن يطلبوا، في كلّ حين، التّواري؛ حتّى يكون الرّبّ يسوع المسيح وحده هو السّيّد عليهم، وعلى كلّ النّاس الّذين يخدمونهم!
خلاصة الكلام أنّ كلّ واحد منّا، بغضّ النّظر عن الموقع الّذي هو فيه، عليه أن يكون خادمًا ليسوع، وخادمًا ليسوع في الآخرين، أيضًا. لذلك، لا يتسيّد على أحد، ولا يطلب مجد نفسه. الإنسان المؤمن بيسوع هو إنسان مبذول. الزّواج النّاجح لا يمكن إلاّ أن يقوم على امّحاء كلٍّ من الزّوجين، بتعامله مع شريكه:الزّوج عليه أن يمّحي بإزاء زوجته، يطلب ما هو لها: لا لأهوائها، بل ما هو ليسوع فيها؛ وهي عليها، بدورها، أن تُلغي نفسها، وتطلب ما ليسوع في شريك حياتها. إذا فعل الزّوجان ذلك بأمانة، وكانا يستمدّان، أبدًا، الكلمة من السّيّد، من الإنجيل الكريم؛ إذ ذاك، يُصبح زواجهما مسيحيًّا. حين يكون المسيح هو السّيّد، في البيت؛ إذ ذاك، يكون الزّواج مسيحيًّا. لا يكون الزّواج مسيحيًّا لأنّ طقوسًا تُجرى! وحيث لا زواج مسيحيًّّا، بكلّ معنى الكلمة، يكون الزّواج بشريًّا، أهوائيًّا؛ وتكون الحياة، بعامّة، قائمةً على طلب كلّ إنسان ما لنفسه. وهذا يعني أنّ كلّ إنسان سوف يَلقى نفسه مصطدِمًا بالآخرين. إذا كان كلّ واحد ليطلب ما لنفسه، فأمرٌ طبيعيّ جدًّا أن يصطدم الواحد بما للآخر: الزّوج بزوجته، والزّوجة بزوجها، والعمّال برئيس العمل،ورئيس العمل بالعمّال… النّاس كلّهم يصطدمون أحدهم بالآخر. وهذا كلّه يولّد حزنًا. والتّراث، إذ ذاك، يكون تراث حزن. ويحتمل النّاس بعضهم بعضًا! نحن لسنا مدعوّين، أبدًا، إلى أن يحتمل أحدنا الآخر. نحن مدعوّون إلى أن يحمل أحدنا الآخر! ونحن نحمل بعضنا بعضًا بالحبّ، فقط؛ بالامّحاء بإزاء الّذين معنا والّذين لنا. إذ ذاك، نحملهم، نحمل آلامهم، وأتعابهم، وسعيهم؛ وهمّنا أن يصير يسوع هو المقيم فينا وفيهم معًا!
متى كان قطب الاهتمام، بالنّسبة إلينا، هو يسوع؛ إذ ذاك تستقيم الأمور، وإلاّ لا تستقيم، أبدًا. ومتى استقامت الأمور، كان لنا فرح، وكان لنا سلام. إذ ذاك، فقط، يكون المسيح، بالرّوح، معنا وفيما بيننا!
المسيح قام.
* عظة حول يو3: 22- 22 في السّبت 25 نيسان