توحيد الفصح بين الشعبوية والهمّ الكنسي
الأب أنطوان ملكي
يمكن تعريف الشعبوية كنوع من الخطاب الذي يدغدغ عواطف الجماهير لكسب تأييدهم وللحفاظ على نسبة معينة تعطيهم مصداقية وشرعية. وعكس الشعبوية هو تقديم المعلومات والأرقام والبيانات بشكل يخاطب عقل الناس لا عواطفهم
لماذا الكلام عن الشعبوية؟ لأننا في فترة فصح 2015، قرأنا عدة أخبار عن احتفالات عشوائية توحّد فيها تعييد الفصح بين المسيحيين في بعض المناطق، وهذه الأخبار رافقها كلام يأتي ضمن الخطاب الشعبوي الذي يسعى إلى وحدة اجتماعية تضمن للمجتمع بعض أشكال سلامه أو أوهامه، لا ضمن الخطاب الرزين الساعي فعلاً إلى وحدة إيمانية ضمانتها المسيح
ورد على على صفحة koura.org من الفايسبوك خبر منه “ترأس الأب الياس نصار خدمة الآلام في كاتدرائية مار جاورجيوس الدهليز في أميون بمعاونة المونسينيور الماروني جورج عبود وكل من الآباء الموارنة شارل قصاص ٬ جورج عبود ٬ يوسف الزغبي وميلاد مخلوف ولفيف من الشمامسة. وخدمت جوقة الرعية في حضور حشد من الشخصيات والمؤمنين. وفي المناسبة ألقى الأب نصار عظة نوّه فيها بالوحدة المسيحية٬ والخدمة التي جمعته مع آباء من الكنيسة المارونية. متمنياً أن يلقى هذا المشهد اهتمام قادة كنائس العالم ويعملوا على توحيد الكنيسة كما الآباء فيها والمؤمنون موحدون”
في الإطار نفسه ورد على شاشة الأو تي في خبر عن صلاة مشتركة في عيد الفصح في ضهور الشوير في تقرير أعدته غريس ميخائيل، ونشرته صفحة tayyar.org. من أهم ما ورد في الخبر أن “أبناء الضهور العلمانيين هم من منظمي الحدث، وهم نموذج بتمسكهم بإيمانهم لا للطائفية”، عن لجنة توحيد عيد الفصح في ضهور الشوير يقول فريد الصباغ: “نشاطنا بضيعتنا ديني محض، ونحن اصحاب فكرة الطائفة 19 وهي التي تدعو للعلمانية، ولأن كلّ إنسان حرّ بايمانه. وليكون الوطن هو جامع كل المواطنين”. وتقول أحدى السيدات: “نحن بضهور الشوير ما اكتفينا بالوحدة الكنسية، كان عندنا على عيد الميلاد وحدة وطنية وتجسدّت بتراتيل مسيحية اسلامية بكنيسة بضهور الشوير”. خادم رعية الشوير للموارنة الأب جوزف مخلوف يقول: “لا اعتراض من رؤسائنا، ومطران الكاثوليك الحالي والذي سبق يؤيدون ذلك، وكذلك مطران انطلياس المارونية”
الشعبوية في هذا الكلام واضحة وضوح الشمس: ما علاقة العلمانية بنشاط ديني محض؟ ما علاقة الطائفة 19 باحتفال الطوائف الأخرى خاصةً إذا كانت تدعو إلى العلمانية؟ ما علاقة كل هذا بالوطن الذي هو للجميع؟ واضح أن العبارات تعكس انفصاماً خطيراً يفرغها من كل معانيها المباشرة أو التي يمكن استخلاصها
يرى الباحث الفرنسي بيير أندريه تاغييف أن الشعبوي قد لا يهدف بالضرورة إلى تضليل الآخرين لأنه يبدأ أصلاً بتضليل نفسه. فالشعبوية تزعم أن “السياسة شيء سهل ويمكن إدراكه بالنسبة للجميع وأن اعتباره معقداً يعود إلى مكيدة وضعها النخبويون لإبقاء المواطنين العاديين خارج عملية صنع القرار” [1]. هذا الوصف ينطبق تماماً على كلام الخوري الياس نصار الذي يرى أن دعوته لكهنة الموارنة للمشاركة في صلاة في كنيسته، مخالفين قوانين كنيستهم كما يخالف هو قانون كنيسته، إنما هي دعوة بطولية “رسولية” يريدها أن تضمّ العالم كلّه. كذلك ينطبق هذا التوصيف للشعبوي على كل ما ورد في تصريحات المعنيين في تنظيم هذه الاحتفالية في ضهور الشوير
أين الهمّ المسيحي؟
بدايةً، الوحدة المسيحية لم تعد سؤالاً بل هي مسعى فعلي تلتزم به كل المجموعات المسيحية في كافة مناطق العالم. فالانقسام ليس حكراً على لبنان والشرق الأوسط، وإن يكن أبناء الشرق الأوسط يتحسسون جسامة الانقسام أكثر من غيرهم بسبب من تركيبتهم الاجتماعية، حيث نسبة الزيجات المشتركة بين الأرثوذكس والموارنة مرتفعة وحيث يلتقي الروم الأرثوذكس والكاثوليك في كثير من الأصول والفروع العائلية. على الأكيد، لا يتوقع أحد من الكاثوليكي الإسباني أو من الأرثوذكسي اليوناني أن يعرفا قيمة الانقسام المسيحي وتأثيره على الحياة اليومية والعمل الرعائي في سلوك المسيحيين، حتى ولو كانوا أساتذة في اللاهوت. من هنا، قد يكون ضرورياً أن يكون حضور مسيحيي المناطق المختلطة أكبر في جلسات الحوار
لكن الأخبار كالتي وردت أعلاه تطرح أسئلة عن مدى النفع الذي قد تقدمه لقضية الوحدة المسيحية. فالوحدة المسيحية هي القضية وليس توحيد تاريخ الفصح، واختزال الوحدة بتوحيد العيد هو مقاربة دهرية لا تمتّ إلى الإيمان بصلة
تقتضي المقاربة الدهرية لأي أمر أن يكون معياره هذا الدهر. ولكي لا نطيل الشرح وندخل في صلب الموضوع، المقاربة الدهرية لتعييد الفصح تجرّده من العمق في معانيه الروحية وتأخذ ما يطفو على الوجه منها لتضعه في قالب قابل للتبدل بحسب الأفراد والمجموعات والمجتمعات. فأن يصير عيد الفصح عيد البيض قد لا يتعدّى كونه ضعفاً تربوياً قد يكون في خلفيته دهرية إنما هي بالغالب سطحية. أما تصوير الاختلاف بين الشرق والغرب في تاريخ التعييد للفصح على أنه أسوأ من الانقسام أو كأن كل ما في الانقسام هو تاريخ العيد، فهو خطر ومذوّب للحق. فالغرب انشقّ عن الشرق في 1054 ميلادية، واعتمد التقويم الغريغوري في 1594. فيكون عدد التعييدات بعد الانشقاق في نفس التاريخ 540 أما التعييد في تاريخين مختلفين فهو 421. هل كان هناك وحدة خلال ال540 سنة المذكورة؟ لا لم يكن؟ لماذا لم يجد الناس أزمة في الأمر؟ لأن الهمّ كان الوحدة وليس التعييد
كلّ المتحمسين اليوم لتوحيد العيد أسبابهم اجتماعية لا لاهوتية. طبعاً، أسباب اختلاف تواريخ العيد ليست لاهوتية. الأمر اللاهوتي الوحيد في شأن تاريخ العيد هو قانون المجمع المسكوني الأول الذي يمنع التعييد مع اليهود أو قبلهم، وهذا ما خالفه الغرب ما يزيد على الستين مرة في ال421 سنة الماضية. وحتّى الأسباب الاجتماعية التي يوردها المتحمسون لتوحيد العيد في بلادنا، رفضها الموارنة لأنهم يرون أن وحدتهم الداخلية أهم من الوحدة الاجتماعية. فقد سمح البابا يوحنا بولس الثاني لكاثوليك الشرق بأن يعيدوا مع الأرثوذكس إذا ارتأوا ذلك، وهذا ما حصل في عدة أماكن كوادي النصارى وصافيتا في سوريا وضهور الشوير في لبنان. أما الموارنة فكان رأيهم ما نفع أن أعيّد أنا والمسيحي الآخر في لبنان في يوم لا يعيّد فيه الموارنة في الغرب وعددهم أكثر من نصف الموارنة في العالم. هذا سؤال لا يمكن طرحه على الأرثوذكس المتحمسين لتوحيد العيد لأن ما يجري هو أن الكاثوليك يأتون إليهم وليس العكس. وقد يتباهى بعضهم ظاناً أنه غلب الكاثوليك، وهذا موقف أسوأ من موقف مَن يرفض توحيد العيد. فمَن يرفض التوحيد قد يكون غيوراً على الكنيسة أو قد يكون غيرَ محب للآخرين، أما مَن يرى أنه غلب الكاثوليك إذ عيّدوا معه فهو مراءٍ يقول غير ما يضمر
كل التواريخ هي اصطلاحات. الوحدة الحقيقية تتخطى الكلام. الوحدة الحقيقية هي في الحق والحق هو تعليم الكنيسة كما سلّمه الرب للرسل والرسل للآباء، أما أخطاء الأفراد والجماعات أو فضائلهم فتأثيرها أن تخفي الحق أو تظهّره لا غير. لقد توصّل الأرثوذكس اليوم إلى القناعة بأن الحروب الصليبية يجب ألا تمنع الوحدة المسيحية، لكن في المقابل ينبغي أن يتخلّوا فعلياً عن العقلية التي أدّت إلى قيام هذه الحروب. المشاكل التي يواجهها العالم اليوم، من تلك التي يطرحها العلم إلى تلك التي تستغلها الأنظمة السياسية مروراً بكون المسيحيين هم المجموعة الأكثر تعرضاً للاضطهاد في القارات الخمس، سواء رأى الناس أن أسبابها أخلاقية أو غير ذلك، كل هذه المشاكل جعلت المسيحيين من كل الطوائف يعترفون بوجوب توحيد خندقهم في وجه كل المحاولات التي تسعى لمسح وجه المسيح عن هذا العالم وتسليمه إلى ضده. لكن توحيد الخندق لا يعني وحدة الكنيسة إلا إذا عاد الفهم العقائدي اللاهوتي واحداً ومشتركاً
فقد المسيحيون الوحدة لأسباب لاهوتية والوحدة تعود عندما يعود المسيحيون إلى الاتفاق حول هذه الأسباب. السياسة لا تصنع وحدة وتاريخ الكنيسة يثبت أن كل المحاولات التي استعان فيها أحد الأطراف المسيحية بالحكّام للتوصل إلى وحدة أنتجت رداً عكسياً، منذ أول انشقاق في انطاكية إلى كل ما جرى في أوروبا على يد الجرمان ومن ثم الهنغار والبولنديين وصولاً إلى الأوزتاشي في كرواتيا وإلى ما يحاوله أوكرانيو الغرب اليوم
يجري اليوم في العالم نشاطات كثيرة محورها الخدمة المشتركة ونتائجها تدفئ القلوب. وفي المقابل تقوم نشاطات عديدة لا تبث إلا الاشمئزاز والقلق. مطلوب موقف واضح من الرئاسات الكنسية، لأن الشعب بغالبيته تنقصه الثقافة الإيمانية. كاهن ضهور الشوير قال أنّ لا اعتراض من الرؤساء وسمّى مطراني الروم الكاثوليك والموارنة ولم يذكر مطران الأرثوذكس. هل هذا يعني أن موافقته مضمونة أو أن الاحتفال أُقيم من غير علمه؟ هل استحصل خوري أميون على إذن من مطرانه قبل أن يتكرّم بدعوة كهنة الموارنة؟ في الحالين، إذا كان الأمر جرى من دون معرفة الرئاسة الكنسية الأرثوذكسية، فتكون المخالفة مضاعفة ويجب أن يُصار إلى وضع حد لها. أما إذا كان الاحتفالان أقيما بموافقة الرئاسة، فسلسلة الأسئلة تطول، بدءً من العلاقة مع الكنائس الأرثوذكسية الأخرى، وصولاً إلى مستقبل الأرثوذكسية في بلاد لا تعرف شيئاً عن مستقبلها
[1] أمير طاهري. “تقديم الشعبوية باعتبارها سياسة”. جريدة الشرق الأوسط، الاربعـاء 24 رجـب 1428 هـ 8 اغسطس 2007 العدد 10480. http://archive.aawsat.com