قديسون لأنطاكية
الأب أنطوان ملكي
الانتقال إلى الأخدار السماوية عبارة تعني الموت. لا يبدو أن لهذه العبارة ترجمة حرفية توازيها في اللغات غير العربية. فالخدر لغةً هو المكان الذي تستتر المرأة فيه بالبيت، أي المكان الذي لا يراه العموم. وبما أن السماء ليست مفتوحة للعموم، يمكن اعتبارها خدراً. تبقى فكرة الانتقال وتحديداً إلى السماء. نحن نستعمل صفة “المنتقل عنّا” في خدمة الجناز، لكننا لا نحدد إلى أين انتقل الراقد، بل نرجو أن يكون ذلك إلى الأخدار السماوية.
مع ذلك، في تقليدنا الأرثوذكسي نعرف عن انتقال ثلاثة هم النبيين إيليا وأخنوخ ووالدة الإله. التحدي هو في الآية “وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ” (يوحنا 13:3). فهذه الآية منعت الكنيسة الأرثوذكسية من تطوير الاعتقاد بانتقال العذراء مريم إلى السماء إلى عقيدة كبتوليتها وولادتها للإله. أمّا النبيان إيليا وأخنوخ فقد نُقلا دون أن يقول الكتاب المقدّس إلى السماء. “نُقِلَ أَخْنُوخُ لِكَيْ لاَ يَرَى الْمَوْتَ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ نَقَلَهُ” (عبرانيين 5:11).
يذكر القديس غريغوريوس بالاماس أن الله حمل أخنوخ ولكنه يجزم بأنه لم ينقله إلى الأخدار السماوية لأنه ما من إنسان صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء. القديس ثيوفيلاكتوس البلغاري يقول بأننا نعرف أن أخنوخ نُقِل حياً ولكن لا نعرف شيئاً عن مكانه لأن الكتاب المقدس لا يذكر ذلك. أمّا النبي إيليا فيذكر كتاب الملوك الثاني في نص السبعينية بأن إيليا “حملته مركبة وكأنه إلى السماء“. هذا الكلام يؤكده القديس يوحنا الذهبي الفم: “إيليا صعد وكأنه إلى السماء لأنه كان عبداً، أما المسيح فصعد إلى السماء نفسها لأنه كان السيد“. القديس كيرللس الأورشليمي يقول “هذا (أي إيليا) وكأنه إلى السماء، بينما المسيح فمباشرة إلى السماء“. مثلهما القديس فوتيوس يشرح: “إيليا كعبد حُمِل إلى العلو في الهواء، لكن ليس إلى السماء، بل كأنه إلى السماء. الرب كضابط للكل صعد لا وكأنه إلى السماء، بل حقيقة إليها“. يقتبس أفثيميوس زيفاغنوس من ثيودوريتس القورشي “أمَرَهم (أي السيد أمر الملائكة) بأن يفتحوا الأبواب الدهرية كما لم تُفتَح من قبل للطبيعة البشرية. إذ ما من إنسان سبق له أن عبر بها. مع إن إيليا العظيم صعد، لكن وكأنه إلى السماء، وليس إليها“. ينشد القديس أندراوس الكريتي: “إن إيليا صعد مرة بمركبة الفضائل وكأنه إلى السماء ورُفِع فوق الأمور الأرضية. فاعتبري يا نفسي هذا الصعود“. ومثله يشير رومانوس المرنّم: “إيليا جالساً على مركبة نارية، صعد، وكأنه إلى السماء، كما هو مكتوب، لكنه لم يبلغ إليها“.
إذاً، كل هذه الأقوال الآبائية تؤكّد أن ما من أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل منها، أي يسوع المسيح. ونضيف هنا والدة الإله التي هي أهم مَن يُعطى صفة الانتقال ويعيّد لانتقالها مع رقادها. يحكي التقليد عن فتح قبرها وعدم إيجاد رفاتها فيه. في الكثلكة هذا الانتقال تحوّل إلى عقيدة أمّا عندنا فلم يرقَ إلى هذا المستوى بدليل أن الغالبية الساحقة من الأديار والكنائس التي تعيّد في الخامس عشر من آب، وهي إحصائياً الأولى عدداً في كل العالم الأرثوذكسي بما فيه بلادنا، كلّها مسماة بالرقاد لأن رقاد والدة الإله ثابت ومعروف. الكلام عن الانتقال مرتبط بتقليد يحكي عن خلو قبرها من الرفات. تقبل الأرثوذكسية هذا التقليد بدليل تعدد الإشارات إليه في الليتورجيا.
إن رقاد البشر ثابت. ونحن نستعمل عبارة “الرقاد” ونشدد على الرقاد لأننا نرجو من بعده القيامة. إن الموت الذي نعاينه هو انفصال النفس عن الجسد ما يؤدي إلى فساد هذا الجسد. ومع أننا نستعمل في أفشين التريصاجيون والجناز عبارة “المنتقل عنّا“، فبها نعني، كما يعلّمنا الإنجيل، أن الميت انتقل عنا إلى حيث الانتظار. يخبرنا إنجيل الغني ولعازر أن الانتظار يكون إمّا في حضن ابراهيم أي في الراحة أو في الهاوية. بحسب الآباء، الهاوية هي مكان عقلي حيث التذوق المسبق للجحيم. جميع الموتى ينتظرون القيامة العامة، البعض ينتظرون في الراحة والبعض الآخر ينتظر في الهاوية. مهمّ التمييز أنّ حضن ابراهيم والهاوية ليسا الفردوس والجحيم، أي أن حضن إبراهيم ليس الأخدار السماوية، بل هو انتظار له.
ورد على إحدى الصفحات الإلكترونية خبر يقول أن جماعة أقامت صلاة ونشاطاً بِمُناسبة ذكرى انتقال أحد الإخوة “إلى الأخدار السمّاويّة“. يوحي استعمال عبارة الانتقال إلى الأخدار السماوية بأن الجماعة حسمت أمر قداسة المنتقِل. هذا الحسم، وللأسف، خطر على الكنيسة. هذه الحالة ليست وحيدة، وإذا تمّ التغاضي عنها فهي قابلة للانتشار.
فمِن فترة مرّ على صفحات التواصل الاجتماعي صورة–أيقونة للمثلّث الرحمات الميتروبوليت بولس بندلي وحول رأسه الإطار الذهبي. أيضاً قرأنا دعوات عديدة إلى إعلان قداسة البطريرك الياس الرابع لأنه شهيد تمّ اغتياله. ومثل هذه الدعوات تأتينا أحياناً من زوار اليونان حيث يُسألون عن متى سوف تعلن أنطاكية قداسة الأرشمندريت اسحق الأثوسي. ومثلها دعوات إلى إعلان شهادة مطران حلب المُغَيَب بولس يازجي أو الأب باسيليوس نصار كشهيدين.
نسمع أن المجمع الأنطاكي عيّن لجنة لدراسة مشاريع القديسين لا نعرف شيئاً عن نشاطها تماماً كما لا نعرف شيئاً عن نشاطات المجمع الأخرى. الإعلام الرسمي هو فقط لتغطية نشاطات البطريرك، أما المجمع واللجان فيكفينا بيانان مقتَضَبان كل سنة. هذا الأمر لا يمكن أن يسير مع لجنة القديسين على هذا المنوال. ضروري أن يكون لهذه اللجنة وسيلتها لإشراك المؤمنين في عملها كونهم جزءاً من ضمير هذه الكنيسة ووجدانها. من جهة أخرى، على اللجنة تهيئة المؤمنين لأي نتيجة قد تتوصّل إليها، فلا يتكرر ما جرى مع القديس يوسف الدمشقي، حيث لم يُعرَف عنه إلا عند إعلانه، فباتت أنطاكية تتعامل معه وكأنه عبء عليها.
قد يكون الإنسان، علمانياً أو كاهناً، صاحب موهبة تسلّمها من الروح القدس وأنماها. فهذا ملأ صفحات كثيرة، وذاك أنتج فكراً متألّقاً، وآخر صنع صدقات كثيرة. راهب نسك بحسب التقليد، كاهن دافع بغَيرة عن الكنيسة، رئيس حمل الطائفة على كتفيه، وآخر أعطي أن يختفي أو يموت في ظروف ملتبسة. كل هذه مواهب قد يكون لها أثر أو قد لا يكون. المهم أن تعكس صورة الله الحقيقية. هذا موضوع يزداد الحكم فيه تعقيداً وصعوبةً مع تزايد شعبية الراقد، لهذا اختارت الكنيسة تاريخياً الا تبحث بهذا الأمر مباشرة بعد الرقاد بل أن تترك للوجدان الشعبي أن يعمل لفترة.
هذا أمر يتطلب قديسين ليحكموا فيه، وإلا تنتهي الكنيسة مختَبراً للنفسانيات والدعاية. إن العوامل التي تعرّض هذه العملية للتعقيد كثيرة، منها روحية التنافس مع الغرب التي تؤدّي إلى تبنّي مقاييس الغرب في تحديد القداسة، حتّى من دون محكمة ومحامي شيطان.
ختاماً، كلنا نعرف أن أنطاكية ينقصها قديسون وأنها بحاجة إليهم أكثر من غيرها ليتشفّعوا بها وبوحدتها وبفكرها الممزق، لكن هذا لا يبرر التسرّع أو التفرّد في إعلان قداسة هذا الراقد أو ذاك، فاللياقة والترتيب والحق يقضون بأن الأمر بيد لجنة القديسين ومن بعدها المجمع، على الرجاء.
مراجع مفيدة
Dcn. Peter Mikhalev. Did Enoch and Elijah (Elias) Ascend into Heaven? Translated by Jesse Dominick. Pravoslavie.ru. 8/2/2017
Δ. Παναγόπουλου. Ο Δεύτερος Πρόδρομος της Παρουσίας Χριστού. Επιμέλεια: Θωμάς Φ. Δρίτσας. 20/7/2013. http://www.orp.gr
Fr. John Breck. Dormition or Assumption? Reflections in Christ. https://oca.org/reflections/fr.-john-breck/dormition-or-assumption. August 1, 2008