نساء حكيمات
إعداد راهبات دير القديس يعقوب الفارسي المقطّع
أخبر أحد الآباء قائلاً: كنت مرة في مدينة الاسكندرية أتجوّل في كنائسها، فدخلت إلى إحداها لأتبرّك وأسجد لذخائر قديسيها. فصادفت هناك إحدى النساء المؤمنات، يصحبها حشمها وخدمها، متوشحةً بزي الأرامل ساجدةً قرب ضريح أحد القديسين وهي تبلّ الأرض بدموعها وتتمتم باكية: “لا تتخلَّ عنّي أيها السيّد، بل ارحمني يا محب البشر أنا غير المستحقة”. وكانت تكرّر هذا القول مرات عديدة.
ومن شدّة بكائها وعويلها، استرعت انتباهي لدرجة أني تركت صلاتي متأثّراً بدموعها وحرارة توسلاتها، متفكّراً ومخاطباً نفسي: “لا بد أنّ أحداً ما يتعرضها ويزعجها بما أنها أرملة، فحضرت إلى هذا المكان المقدس تستجير بالقديسين عساهم ينصفونها”.
فانتظرت ريثما انتهت من صلاتها، ثم استدعيت أحد عبيدها وقلت له: “ادعُ لي سيدتك إلى هنا فإني أود محادثتها. فاقتربت مني بوقار، وهي تكفكف دمعها، فبحتُ لها بما جال في خاطري. فاجابتني بصوت متهدج: “إنك لا تعلم ولا تدري يا أبي القديس عظم المصاب الذي حلّ بي. لقد هجرني الرب ولم أعد أنا التعيسة أحظى بزيارته لي. فمنذ ثلاث سنوات لم أتعرّض لا أنا ولا أحد من عبيدي أو أمائي ولا أحد من أفراد عائلتي لمرض أو ضيق ما. وأعتقد أنّ الرب خذلني وأشاح بوجهه عني. نعم إن كثرة خطاياي وجسامة زلاتي هي السبب، وإنّه لعادل ومحق. ولهذا أبكي وأتضرّع إليه، عساه يعود فيتحنّن عليّ كسابق عهده، ويفتدقني كجزيل رحمته. فصلِّ من أجلي أيها الأب القديس، كي لا أُحرَم إكليل الصبر على المحن والأمراض”.
تعجبت جداً من موقف هذه السيدة التقيّة ومن إيمانها القويّ ففارقتُها بعد أن باركتها متّعظاً من أقوالها السديدة وممجداً الله.
كما حدّث شيخ آخر قائلاً:
كان هناك صديقان تاجران، أحدهما غنيً والآخر أقلّ غنى. وكان للغني امرأة جميلة جداً، فاضلة، متعقلة كما كانت تشير إلى ذلك سيرتها. لكن ما أن توفي زوجها، حتى أضمر رفيقه التاجر وكان يعلم مدى حشمة المرأة وحكمتها – أن يتّخذها زوجة له. لكنه لم يبح لها بعزمه هذا مخافة أن ترفضه أو أن تزدريه. أمّا تلك المرأة، بما أنها كانت على جانب وافر من الذكاء فقد أدركت مقصده فبادرته ذات يوم قائلة له : “إني أعلم أيها السيد سمعان – لأنه هكذا كان يدعى – ما يدور في خلدك من أفكار تخصّني. فأرجو أن تكشفها لي. وثِقْ أني سوف أجيبك عنها. تهّيب سمعان بادئ الامر، وخشي أن يبوح بما في صدره، لكنه تجرأ أخيراً وكشف لها عن مكنونات قلبه، مفصحاً عن نواياه وداعياً إياها لتكون قرينته. فقالت له: “سوف أقبل عرضك هذا بكل طيبة خاطر، شرط أن تقوم بما أشيره عليك.” فأجابها بلهفة: “تأكّدي يا سيدتي بأني سوف أتمم وأقوم بكل ما ترغبين.” فأجابت: “إذهب أولاً وزاول مهنتك في المصنع جرياً على عادتك، على أن تداوم الصوم إلى أن أدعوك ثانية إليّ. وكنْ على يقين أني لن أبرم أي قرار خلال هذه الفترة.” فوافق سمعان على طلبها، ظنّاً منه أنها سوف تدعوه في اليوم ذاته.
مضى يوم واثنان وثلاثة دون أن تبدو منها أية إشارة إلى دعوته، أو حتى على الاهتمام به. أمّا هو فصّبر نفسه رغم الجوع الذي كان قد بدأ يعضه – بسبب حبه الشديد لها.
بعد أسبوع تقريباً وبالتحديد في اليوم الرابع، استدعته تلك المرأة الفاضلة بعد أن بلغ إلى حالة من الشقاء والبؤس يرثى لها خاصة بعد أن انهارت قواه حتى لم يعد يقوى على السير بنشاط. فجهزّت له مائدة وزينتها بالأطايب من الطعام وفرشت إلى جانبها سريراً وقالت له: “هاك المائدة، وهاك السرير، فاختر أيّهما تشاء.” فأجابها ذاك: “أتوسّل إليكِ يا سيدتي أن ترحميني وتعطيني ما يسدّ رمقي، فقد أوشكتُ على الهلاك ولم أعد أستطيع الاحتمال أكثر من ذلك. أنا لم أعد أبالي بالزواج ولا أحس بأيّة شهوة أخرى غير شهوة الطعام تلهبني.” فأجابته تلك المرأة الحكيمة قائلة: “ها قد فضّلت الطعام عليّ، وتساميتَ على شهوتك ورغبتك أمام جوعك! فتعلّم إذن أيّها السيد الكريم أن تجابه أفكار الشهوة التي تعتريك بالصوم فتزول عنك للحال. وصدّقني أنه بعد وفاة بعلي، لا أرغب ثانية الاقتران برجل آخر، بل أبغي البقاء أرملة أرضي الله ما تبقّى لي من الحياة.”
وللحال أحسّ سمعان بتوجع ونخس في قلبه، وانتابه شعور بالانسحاق الداخلي لدى سماعه كلماتها وادراكه مقصدها فقال لها متعجبا من حسن تصرفها: “الآن علمت أن الرب سرّ وارتضى أن أرتدع على يدي أرملة حكيمة مثلك، وأن يخلصني بواسطة مشورتك. فبماذا تشيرين عليّ أن افعل؟ فأجابته: “لقد دبّر الله لك هذه الطريقة ليلقنّك أصول الفضيلة، وإذ وجد بين حناياك قلباً محباً ونفساً نقية تصبح بعد قليل مقراً يستريح فيها، ويحّولك إلى إناء مختار تعمل ارادته. وثقْ أيّها السيّد بأنّه لن يوجد شخص آخر نظيري يصدقك القول. فاسمع ما يقوله الرب في كتابه المقدس: “إن لم ينكر أحد أباه وأمه وإخوته وامرأته وأولاده وحتى نفسه، لا يستطيع أن يكون لي تلميذاً. إذاً فليبتعد أحدنا عن الآخر حباً بالله ورغبة في نهج سبل الفضيلة، وهكذا نكون قد أنكرنا ذواتنا ورغبتنا وتعالَينا فوق شهواتنا الارضية محبة به فقط. ثم إنه يوجد بالقرب من منطقتنا دير خاص بالرهبان، فان كنت ترغب حقاً في نيل الخلاص وسلوك طريق الكمال، فلج إلى هذا الدير وترهَّبْ فيه حاملاً الصليب، وكُنْ على يقين أنك سوف تلقى الله هناك، وسوف تعيش معه وتحت ظلّه حياة ملائكية سامية.
وهكذا ترهّب سمعان فعلاً في ذلك الدير وأمضى حياته ممارساً الفضائل والكمالات الإنجيلية حتى أصبح راهباً مثاليّاً، ووصل إلى قامة روحية عالية، وحاز ذهناً صافياً ونفساً نقية إذ كان يستطيع أن يرى أموراً غير منظورة متمتعاً بموهبة البصيرة الروحية. ثم رقد بالرب في ذلك الدير رقود الأبرار القديسين مملوءاً من الأجور السماوية.