الشهيد ميتروفان
رئيس أساقفة أستراخان
نقلها إلى العربية الأب أثناسيوس بركات
تميّز رئيس الاساقفة ميتروفان بكونه واعظاً جليلاً، إداريا قديراً، عاملاً نشيطا في كرمة الكنيسة، ورجل صلاة. كان اسمه في العالم اﭙﭭان فاسيلياﭭﺘش كراسنوبولسكي وقد أصبح مشهوراً في روسيا عندما تمّ نقله، في تموز 1916، من مينسك إلى أبرشية أستراخان. إلى هذا، فقد كان عضواً في مجلس الدوما تلك المقاطعة حيث كانت مداخلاته المتقدّة تجذب انتباهاً لافتاً.
كان رئيس الأساقفة يكدّ ليلمّ بأمور أبرشيته الجديدة قبل أن يأخذ على عاتفه مشروعين بالغي الأهمية والصعوبة: التحضير لتطويب المعظَّم في الشهداء يوسف استراخان، والترتيب لتجديد إنجازات البطريركية. هذا الأمر أعطاه مكاناً مجيداً في تاريخ الكنيسة الروسية وجعله يستحقّ أيضاً أن يحتلّ مكاناً مميزاً في قلوب الناس.
بالظاهر، كان رئيس الأساقفة يعطي انطباعا بأنه صارم. ربما كانت هذه ميزة فطرية، أو ربما كانت نتيجة تركيزه المستمر المترافق مع قوة إرادة هائلة وواقع كونه متطلباً جداً من نفسه والآخرين. لقد أخبر حافظ الكنيسة الأب ديمتري ﺴﺘﻴﭭنوفسكي “كنت خائفاً منه في البداية، فقد كان يبدو بالغ القساوة. لكن بعد أن صرت أعرفه بشكل أفضل، اقتنعت بأن ﭭﻼديكا لطيف ومتواضع… واكتشفت شيئاً آخراً: كان يصلّي كثيراً. كان يقيم القداس الإلهي أو يحضره في كنيسة الصليب. لكنه كان ينهض باكراً جداً وحتى قبل القداس ليدبر بعض الأمور”.
يتذكر مغني الأوبرا ي.ي. ﭭﺎليكانوﭪ الذي من أستراخان: “كان عليّ أن أقدّم نفسي ﻠﭭﻼديكا بسبب انتخابي كعضو في مجلس كل روسيا. ذهبت مع إحساس بالرهبّة متسائلاً: كيف سيستقبلني ﭭﻼديكا؟ إنه شديد الصرامة. لقد اغتبطت جداً عندما أني كنت مخطئاً في رأيي به. رحّب ﭭﻼديكا بي بكل دفء وأجلسني على كرسي بعد أن باركني وقام بضمي مردداً عدة مرات: “رائع، رائع، أنك أصبحت من بني المنتخبين.وعندما سنحت لي الفرصة للذهاب مرة لرؤية ﭭﻼديكا قبل بضعة أيام من مغادرتي للمشاركة دورة للمجلس، لم يراودني الخوف هذه المرة. أنا والمندوب الآخر، الدكتور رومانوﭪ، حدّثنا ﭭﻼديكا عن واجباتنا المتوقعة في المجلس. كما استفهم عن مصاريفنا: كم من المال أعطي كل منا للرحلة، هل لدينا معارف في موسكو؟ هل اخذنا معنا مظلات وأحذية للمطر في حالة هطوله؟ بكلمة واحدة، لقد استفهم عن كل شيء حتى ادّق التفاصيل”.
طفولة معذبّة
في إحدى المرات، اقترف الأب ديمتري مخالفة ما، ما جعل ﭭﻼديكا يؤنبه بشكل قاسٍ. أخبر الأب ديمتري: “لقد جُرحت من ذلك، لكن ﭭﻼديكا تفهّم هذا وأخذني بيدي وأجلسني على كرسي وجلس بنفسه مقابلي وتكلّم معي بنبرة مختلفة، بحنان وعطف: “أنا نفسي أعلم بأنني أبدو قاسياً مع الناس، ودائماً ما أفكر: ما هذه السمة السلبية؟ لكني أعزِّي نفسي بفكرة أن هذا ليس قساوة بل بالأحرى جدية وكآبة. لو كنت فقط تعرف مدى خشونة سني طفولتي وصباي وخلوهما من المسرّة. كم تعرضت لأذى الناس وخبثهم، كم تأذّيت باستمرار وأذللت. لقد تحملت الكثير من الأسى. وهكذا منذ كنت يافعاً طبع مُحياي بسخنة قاسية، ولم استطع تغييرها”.
لقد أثارت قصة طفولتي ﭭﻼديكا اهتمام المؤلف، إلى أن وصل إلى التفاصيل من وكيل الكاتدرائية السابق الذي كان قد سمع القصة من والدة رئيس الأساقفة. وقد كتبها بكلماتها هي: “كنت ابنة المرتل في احدى القرى، الذي كان فقيراُ لكن تقيا. لم أكن الابنة الوحيدة، وبسبب قلة المال توقفت عن الدراسة بعد أن أنهيت الدراسة في مدرسة القرية. كان ضرورياً أن أساعد والدّي في أعمال البيت والاهتمام بالأولاد الآخرين. إلى أن قرروا تزويجي مع كوني صغيرة. كانوا يتمنون لو تزويجي بكاهن. وأنا عندما حان الوقت، فكرت بأنه اذا كان لا بد من الزواج، فليكن زوجي كاهنا حتماً. في النهاية ستكون الصعوبات المادية أقل مما لو تزوجت أحداً من رتبة والدي. لكن لم يتقدم إلي أي مرشح للكهنوت يريد زوجة تزيد من فقره. لم يتحقق حلمي، فتزوجت عاملاً من العامة. كان في منطقتنا معملاً صغيراً للقرميد حيث كان يعمل زوجي. وقد تعلمت أنا أيضا الصنعة وكنت أنتج قرميداً ليس أقل جودة مما ينتجه زوجي.
كان فقرنا يسبب لي الكآبة، وقد تضرعت إلى الله ليعطيني صبيا: “آه لو كان لي ولد لأصبح حتماً إكليريكياً. سوف أكرّسه للرب. كنت مرة في كاتدرائية بلدتنا، حيث سجدت أمام أيقونة والدة الإله سائلة إياها أن تعطيني صبياً. لقد تأثرت بالصلاة لدرجة أنني أحسست بأنها سوف تستجاب. وبالطبع أعطاني الله صبيا أسمه ﭭﺎنيا. لم أستطع أن أتصّور مطلقاً أن ابني، إبن صانع قرميد، سيصبح رئيساً روحياً شهيداً، وبأن عداوة الناس سوف تؤدي به إلى هذه الميتة الشنيعة.
مرت الأيام، كبر الولد وحان وقت إرساله للمدرسة. درس في بلدتنا في مدرسة محلية حيث انكبّ منهياً دراسته بتفوق. اصطحبه والده إلى المدينة لتسجيله في مدرسة الأبرشية الإعدادية، لكن ذلك لم يكن بالأمر السهل. فالمدرسة كانت لأولاد الكهنة، وكان من الصعب على ولد من الريف الدخول، فهو ابن صانع للقرميد. إضافة إلى ذلك، مَن يكون من خارج المدينة عليه أن يجد من يرتب أمر مأكله ومنامته ومصروفه، ومن أين المال لذلك؟ لكن بشكل غير متوقع، وُجد متبرع من أجل فانيا، وهو من ضيعة معلمه الذي كان مولعاً بالصبي بسبب كدّه ومثابرته في المدرسة. لقد عرض أن يسجلّه ويؤمّن دعمه. والده وأنا كنا مبتهجين لأن ولدنا سيصبح من رجال الكنيسة.
كان فانيا يأتي إلى البيت في العطل، وانا كنت أذهب أحياناً لرؤيته، خاصةً عندما كنت أشتاق إليه. وبدأت ألاحظ تغييراً فيه. كان كئيباً، متحفّظاً، يتجنّب زملاءه الطلاب. وعندما كنت أسأله عن ذلك كان يصمت وأحياناً كان يحرّك يده بحركة تدلّ على أن الأمر ميؤوس منه. ظننت في نفسي بأنه ربما يحسّ بالوحدة لحياته بين الغرباء. وفي وقت لاحق علمت من أصحابه بأن نظراءه في المدرسة عذّبوه بقساوة. كانوا ينادونه بالفلاح، يضربونه، ويتجنبون الكلام معه. أحسّ ﭭﺎنيا بأنه منبوذ وبطبيعة الحال صار منعزلا.
مرة، في آخر سنيه المدرسية، تعرّض لمزحة ثقيلة. كان في ملعب المدرسة “زحليقة” من الجليد، وفي إحدى الاستراحات قاموا بجرّه إليها ودفعوه فيها. تزحلق رأساً على عقب وطار إلى شباك ناظر المدرسة. تناثرت الألواح محدثة فوضى عارمة في غرفة الدرس. نجح الأولاد الأشرار في إلقاء اللوم كله على ﭭﺎنيا. إتُّهم بأنه مثير للشغب وتقرر طرده. لسؤ الحظ، كان كفيله قد مات للتو ولم يكن هناك أحد للتوسط من أجله. فانحنيت أمام المدير متوسلة إليه أن لا يطرد الصبي. أعفي من الطرد لأنه كان أفضل تلميذ ولأن ما تبقّى من الفصل الأخير كان أشهراً قليلة.
بعد ذلك، دخل ﭭﺎنيا معهد اللاهوت حيث أصبح قادراً على إعالة نفسه من مدّخرات الدروس الخصوصية التي كان يعطيها. كان من حظي الكبير ان أشاهد أخيراً اليوم السعيد الذي كنت قد حلمت به والذي كان أبوه المريض ينتظره بفارغ الصبر. في ذلك اليوم أصبح ولدي كاهناً. كانت تلك فرحة استثنائية لأن حلماً قد تحقق.
ترمّل ابني الكاهن بعد بضع سنوات. ثم أتت الأكاديمية والحياة الديرية، ورفعه الله إلى أعلى درجة: لقد أصبح رئيس كهنة. قبل رسامته، طلب مني أن أجلب له أيقونة عائلتنا القديمة لوالدة الإله (عذراء التوبة) التي كان يحبها كثيراً ويصلّي أمامها يومياً.”
وفي الختام طلبت الأم طلباً أخيراً: “إذا كان لا بد وسيأتي وقت يكون من الممكن ان تُنقَل رفات ابني إلى مكان آخر، فأتوسل اليكم أن تضعوهأ قرب مدفن القديس يواصاف وأن تدفنوني بالقرب منها.”
من المحتمل جداً أن نجد سبب القسوة الظاهرية عند ﭭﻼديكا في ظروف سنواته المبكرة المؤلمة التي تركت أثراً غريباً في طبيعته الحقيقية. كان بسيطاً في حياته الشخصية وغير متطلب. ويتذكّرالإيبوذياكون يوحنا بوبوﭪ، الذي كان يعرفه الجميع ﺒﭭﺎنيوشا، كيف كان ﭭﻼديكا يرسله غالباً ليعطي المال للعائلات الفقيرة.
رئيس موهوب
عندما افتتحت أعمال مجمع “كل روسيا” في آب سنة 1917، انتخب ﭭﻼديكا ميتروفان ليقوم عملياً بكل المهام. لقد قام بإعطاء المحاضرات فيما كان نشاطه وتصميمه غريبين. يتذكر د. رومانوﭪ “كنا مندهشين باستمرار من قدرة هذا الرجل على العمل لعدة ايام، فهو يعمل ويبقى يعمل”.
كان رئيس الأساقفة متكلّما أساسياً في قضية إصلاح البطريركية. لقد أدّى دفاعه الملتهب إلى إثارة جدل حاد دام ستة وعشرين يوماً، كان على رئيس الأساقفة خلالها أن يتحمّل نقداً مراً من المعارضة. عندما سوي أمر الجدل أخيراً على نحو مرُضٍ، كان فرحاً جداً لدرجة أنه قبّل كل مندوبي أستراخان .
في الأشهر اللاحقة، قام ﭭﻼديكا ميتروفان بعدة رحلات مطولة إلى موسكو لحضور دورات متلاحقة للمجلس. في سنة 1918، كان عائداً في بداية الصوم الكبير إلى أستراخان فوجد أن الحرب الأهلية قد سبقته إليها. كان البولشفيون قد احتلوا الكرملين. وقد سُدَّت عدة مداخل وكان المؤمنون يحتاجون إلى إذن خاص لدخول الكرملين للصلاة في الكاتدرائية. وبالرغم من تلك الظروف استمر ﭭﻼديكا بإقامة الخدم بانتظام.
تصاعد التوتر مع اقتراب الجيش الأبيض والقوات البريطانية. بعد قداس عيد القديس ﭭﻼديمير (15 تموز)، أعلن ﭭﻼديكا انه سيقام زياح كنسي حول الكرملين، وبأن كل المؤمنين في المدينة سوف يتضرعون بفم واحد وقلب واحد إلى الله لحفظ المدينة من إراقة الدماء. كان ذلك حدثا لا يُنتسى، إذ ترك تأثيراً روحياً ومعنوياً كبيرين عندما التفّ المشاركون في الزياح حول الكرملين، وقد حمل ﭭﻼديكا أيقونة والدة الإله فوق رأسه وصرخ متوسلاً : “أيتها الفائق قدسها والدة الإله خلصّينا. وفي الواقع، فقد مرّت ثورة اليوم الواحد في المدينة في الشهر اللاحق بدون إراقة دماء.
في تلك الفترة جرى تمردّ حتى داخل الكنيسة. فقد حرص النظام الجديد على قيام حركة ديمقراطية في محاولة منه لإضعاف تأثير الكنيسة. ومن المحزن أن أسقفاً جديداً تابعا ًﻠﭭﻼديكا ميتروفان، وهو الاسقف ليونتي (تسارﻴﭭﺴﻜﻲ)، أصبح ضحية هذه الفكرة وذهب إلى حد محاولة قلب الشعب ضد رئيس الأساقفة الذي وقف بصلابة أمام تلك البدعة المؤذية.
مع تنامي الحرب واحتلال أستراخان موقعاً استراتيجياً، سيطر البولشفيون على الكرملين أكثر فأكثر، واحتلوا تدريجياً مساكنالإكليروس ثم طردوهم فأصبح رئيس الأساقفة، عملياً لوحده. حاول المؤمنون إقناعه بالمغادرة، يقيناً منهم بأنه من الخطر عليه البقاء بين من حملوا تجاهه الضغينة. تناهى إلى سمع سكرتيره ما كان يقوله آمر الكرملين مازاكوف”لماذا نسرف في اتّباع قواعد السلوك مع رئيس الأساقفة؟ فهو مناصر علني للقيصرية وعضو في الدوما القيصرية. لقد قام بمسيرة شعبية كبيرة في تموز تحت غطاء زياح كنسي. لقد كان هذا إظهاراً لقوة هي ضد الثورة، ونحن كالأغبياء أغلقنا أعيننا. كان يجب أن يكون مصفوفاً منذ زمن بعيد على الحائط (إشارة إلى إعدامه بالرصاص).
عندها أيقن ﭭﻼديكا بأنه على وشك أن يُطرد بالقوة، فوافق على أن يترك ويقيم في احد أديرة المدينة.
جلب وصول كيروﭪ، في شهر كانون الثاني مزيداً من التوتر إذ كان مصرّاً على “تنظيف” المدينة من كل القوى المعادية للثورة. بدا ﭭﻼديكا، حتى ذلك الوقت، هادئا ظاهريا. لكن بعد ان وقع ضحايا في صفوف أبناء الكنيسة، صار يبدي علامات قلق من أنه إذا استمر ألأمر على هذا فسوف يبيدون كل الإكليروس. ومع ذلك فأنه رفض بوضوح مغادرة المدينة واغتاظ ممن يقترحون مثل هذا الأمر: “لن أغادر رعيتي. أنا أحمل على صدري صليب المخلص الذي سوف يوبّخني ويدينني بسبب جبني وتهاوني. أرغب بأن أسألكم: لماذا لا تهربون أنتم؟ هذا يعني أنكم تتمنون شرفكم أكثر مما أتمنى انا درجة رئاسة اسقفيتي؟ اعلموا بأنني بريء أمام بلادي وشعبي!”
طريق جلجلته
أتت ساعة الرعب في 25 أيار عشية عيد الثالوث الأقدس. كان ﭭﻼديكا يتحضّر لخدمة اليوم التالي عندما أتوا للقبض عليه مباشرة بعد منتصف الليل. في تلك الليلة تمّ توقيف الأسقف أيضاً.
سجن الأسقفان في مبنى التشيكا المحلي. عن طريق احد الحراس، كان الايبوذياكون بوبوﭪ قادراً على جلب بعض الطعام والبطانيات للسجينين. كان كل المؤمنين مقتنعين ببراءتهما وقد حاولوا إيجاد طريقة للحصول على إطلاق سراحهما. لكنه كان من الواضح أن السلطات لم تكن مهتمة بإثبات ذنب ضحيتها. في تلك الظروف، كان همهم إبعادهما عن الناس. لقد أبقى دوكتوروﭪ، قاضي الاستجوابات، المؤمنين على علم بحالة السجينين، والايبوذياكون كان يأتيهما يومياً بالطعام.
في صباح أحد الأيام رُفضت رزمة بوبوﭪ. كان ذلك في 23 حزيران، عيد أيقونة سيدة ﭭﻼديمير. أمسك الحارس بهدوء بيد بوبوﭪ وقاده إلى الشباك في غرفته. نظر الايبوذياكون خارجاً فرأى عربة مكدسة بالجثث، ففهم ما يجري. علمت كل المدينة خلال ساعتين بخبر إعدام السجينين.
بعد علمهم، مصدومين بخبر الإعدام، اندفعت مجموعة من أبناء الابرشية والدموع في مآقيهم إلى التشيكا لالتماس جثة الرئيسين الروحيين. لاحقاً، كتبت امرأة: “ألقت والدة ﭭﻼديكا بنفسها بشكل هستيري على أقدام الحارس متوسلة اليه ليسمح لها بالدخول إلى المفوض أتارباكوﭪ، لكننا أُبعدنا بلا شفقة. الأمر الوحيد الذي رأيناه هو العربة المكدّسة حتى أعلاها بالجثث وهي تقف تحت الشمس. غادرنا والحزن يجتاحنا مقتنعين بأنه سوف يتم أخذ الرئيسين الروحيين مع الباقين إلى مكبّ النفايات حيث سيدفنون كالكلاب”.
صادفت المرأة الحزينة تعزية غير متوقعة. استطاع الأب ديمتري التعرّف إلى الرجال الذين كانت وظيفتهم التعيسة تقضي بنقل الجثث. وافق الرجال بسرية شديدة، ولقاء مبلغ كبير أن يسلموا جسدي الشهيدين في مكان تمّ الاتفاق عليه مسبقاً تحت شرط صارم بأن يدفنا قبل الفجر.
حوالي الساعة الواحدة منتصف الليل، فيما كانت المدينة نائمة، توجّه السائقون إلى عملهم يجرّون وراءهم العربات إلى ضواحي المدينة. توقفّت عربة قرب الجسر الأحمر بينما كان جسدا الشهيدين ينقلان إلى عربة أخرى يجرها حصان كانت تنتظر.
قرب دير العناية وقف حشد من الناس بجانب قبر حُفر حديثاً. كان كلا الفقيدين في الثياب الداخلية. أصبح من الممكن الآن رؤيتهما بوضوح على ضوء مصباح مغطى بوشاح. كانت قميص ﭭﻼديكا ميتروفان ملطخة بالدماء عند الصدر والكمّين، كان صدغه مسحوقا من جهة اليمين، والقسم الباقي من لحيته كان منزوعا، الفم كان ممزقاً، أما مفاصل اليد اليمنى فكانت مليئة بالكدمات. قامت النساء بقص القسم الملطخ بالدماء من القميص. كان الأسقف ليونتي قد قضى بسبب الجروح الثلاثة في قلبه وصدره، إذ قد تمّ قتله بوابل من رصاص بندقية. كان كلاهما قد ألبس ثياباً قد أعدّت لهما. أُلبس ﭭﻼديكا ميتروفان حلّة كهنوتية. نزع حافظ الكنيسة صليبه وقدّمه من أجل ﭭﻼديكا ميتروفان وكان قد ربط بسلسلته صندوق معدني يحوي عرضاً مفصلاً لظروف الموت والدفن. وقد تمّ إيجاد بطرشيلاً للأسقف ليونتي، إذ لم يكن ممكناً الحصول على تابوت او حلة كهنوتية مناسبة بسبب العجلة.
بدأ الاب ﭭﻼديمير بخدمة الدفن. رتّل كل المجتمعين تراتيل الجناز وذرفوا دموعاً سخية على الفقيدين الجديدين. كانت تباشير الفجر على وشك البزوغ عندما رتلوا “فليكن ذكرهما مؤبداً”. وُضع ﭭﻼديكا ليونتي أولاً في القبر وفوقه ﭭﻼديكا ميتروفان. تمّ لفّهما كليهما بملاءات وأودعا الثرى. لاحقاً، تمّ نصب شاهدة فوق القبر مكتوب عليها: “رئيس الأساقفة ميتروفان والأسقف ليونتي، في 23 حزيران 1919”. زار المؤلف القبر مرتين سنة 1935 بصحبة رئيس الأساقفة تادروس لإقامة التريصاجيون. دُمرت شاهدة القبر سنة 1930 بسبب تدفق الحجاج. شاهد المؤلف قطعاً من الشاهدة مجمعة بعناية كومة واحدة بيدين تقيتين. هذه القطع اختفت الآن ولم يبقَ أية علامة ظاهرة. فقط، تحت الأرض، وعلى عمق 4-5 أقدام، تكمن علبتان تحويان مقاطع مكتوبة تشهد على المأساة المروّعة.
كتب حافظ الهيكل البيان التالي حول حكم الإعدام: “استطعتُ أخيراً مقابلة شاهد عيان لإعدام الأسقفين. كان رجل متوسط العمر اسمه تريكوف اخبرني بأنه، ليلة إعدامهما، كان هو في نوبة حراسته خارج حجرات السجناء. حوالي الساعة الثالثة ليلاً أتى الكومندون فولوكوف آمر شيكا وضابط الخدمة إلى الزنزانة التي كان الأسقفان محتَجَزين فيها. دخل الآمر إلى الزنزانة وشاهده تريكوف يلكز رئيس الأساقفة بحذائه. سمع صوتا “انهض” ثم شاهد السجين ينهض يرتدي قلنسوته لكن الآمر أمسكه من ياقته صارخاً: “انزعها ففي ذلك العالم الآخر تستطيع تدبر أمرك وأنت ترتدي …” (هنا ذكر قطعة من الملابس الداخلية). باشر الآمر بإمساك السجين من يده وسحبه باتجاه الباب. في الساحة أسرع في الخطى، ممسكاً ضحيته وجاراً إياه وراءه.
كان رئيس الأساقفة ميتروفان حافياً وبثياب النوم. مشى بضعة خطوات ثم تعثّر وسقط أرضاً. ركض تريكوف نحوه منهضاً إياه وقاده مع فولكوف إلى الممشى حيث حصل الإعدام. كان يقف هناك ثلاثة رجال مع بندقياتهم، عندما رآهم رئيس الأساقفة باركهم بيديه الإثنين كما يفعل رئيس الكهنة مما جعل فولكوف يلطمه على يده اليمنى بقبضة مسدسه ثم شدّه من الجزء لحيته الأيسر جاذباً رأسه بقوة حادة نحو الأسفل. وفي هذا الوضع أطلق النار على صدغه الأيسر.
لم يصدق المؤمنون اتهامات البولشفيين الباطلة التي ادعت بأن الأسقفين كانا مشتركين بمؤامرة مناهضة للثورة. بل ندبوا الشهيدين وقامت الكنيسة بالصلاة لأجلهما وما زالت إلى الآن. هذه هي أفضل شهادة للحقيقة التاريخية. “تقوّلوا عليّ بألسنة غاشة ” (مزمور2:108)، لكن “كثيرة هي أحزان الصديقين” (مزمور19:33) ولأجل ذلك “الصديقون يرثون الأرض وفيها يستقرون إلى الأبد” (مزمور29:36).