سرّ الصليب في سرّ المعموديّة: قراءة في فكر الأب شميمن
الخورية سميرة عوض ملكي
إن الحقيقة الأولى والأساسية ومنبع الروحانية هي أنّ الله خلق الإنسان ملكاً وأعطاه القوّة الملوكية التي تهدف إلى أن “يُخضِع الأرض ويتسلّط على سمك البحر وطير السماء وكل حيوان يدبّ على الأرض”. وهي التي تمكّنه من جعل الخليقة كما يريدها الله أن تكون، بوصفها مملكته، التي عليه أن يسعى إلى اكتمالها وخيرها.
في العهد القديم، كان يرمز إلى مصدر الملوكية الإلهي بـِ “المسحة” التي تُظهِر أنّ الملك هو حامل السلطة أو القوّة الإلهية ومنفِّذ قراراتها، إلا أنّ الإعلان الكتابي أوضح أنّ الملوكيّة كانت تخصّ الإنسان نفسه، قبل أن تصبح سلطة خاصّة لأشخاص معينين، لأنّه مخلوق على صورة ملك الملوك، صورة مَن بيده كلّ قوّة وسلطة.
أمّا الحقيقة الروحانيّة الثانية فهي أنّ هذا الملك قد سقط وتنازل عن عرشه. فحصلَت الكارثة الكونية منذ البدء، إذ رفض الإنسان الحياةَ الحقيقيّة المعطاة له في الخلق، وفَصَل نفسه عن الله. وهكذا “دخلتِ الخطيئة إلى العالم، وبالخطيئة دخل الموت” (رو 12:5). فلا حياة سوى حياة الله ومَن يرفضها يموت. وهذا هو الموت الروحي الذي يملأ كامل الحياة بـِ”الموت” فيجعلها عزلة وألماً، خوفاً ووهماً، تعبّداً للخطيئة وعداوة، شهوة وفراغاً. فالإنسان، بسبب خطيئته، حَجَب في نفسه صورةَ الله ومجدَه الذي لا يُوصَف، فخسِر جماله الروحي، وكَسَر الأيقونة.
من هنا أصبحنا كلّنا متورطين في حرب روحانية مستعرة منذ البدء سواء أردنا ذلك أم لم نُرِد، وسواء عرفنا أم لم نعرف. فعندما نتأمّل الشرّ الكامن في نفوسنا وفي العالم الكائن خارجها، فإنّ كلّ التفاسير العقلانيّة وسائر المحاولات الهادفة إلى اختصار الشرّ في نظريات محددة وعقلانيّة ستبدو رخيصةً وسطحيّة، إذ في الواقع تعجز الكلمات عن الإحاطة بهذا السرّ الرهيب أو تلك الكارثة الكونيّة، وعن البغض الذي أشعلته الكبرياء ضد الله، وعن الإتيان إلى الوجود بواقع غريب وشرير لم يُرِده الله ولا خلقه. والأحرى أنّه لا يمكن لنا أن نعرفها معرفة تاريخية أو فكريّة، بل بواسطة الحسّ الديني، أي القناعة الداخليّة الخفيّة الكامنة فينا والتي لا يمكن لأيّة خطيئة أن تحطّمها، وهي التي تجعل الإنسان، دائماً وفي كلّ مكان، يسعى إلى الخلاص. فهذا الإنسان المبتور والمشوَّه، النازف والمستعبَد، الأعمى والأصمّ، يبقى موضع محبة الله واحترامه اللامتناهيين.
لهذا كانت الحقيقة الأساسيّة الثالثة هي إنقاذ ملوكيّة الإنسان وإعادة خلقه من جديد. وهذا كلّه يعلَن ويتجلّى ويتحقق في سرّ المعمودية الذي يجدّد الإنسان، فيعيد خلقَه ملكاً. فصلاة تقديس الماء تظهِر الكون كلّه بوصفه عطيّة الله للإنسان، ومملكة له، وأنّ زيت الابتهاج يعلِن للمنتمي الجديد إلى المسيحيّة كون الحياة الجديدة قوّةً وسطاناً وانّه في ختم المسحة المقدّسة يُلبَس ثوباً ملوكيّاً وينال ملوكيّة المسيح.
بعد التثبّت من هذا ماذا نفعل؟ وكيف نحقق هذه الملوكيّة؟ يقودنا هذا السؤال إلى البُعد الآخر، أو بالأحرى إلى عمق سرّ المعمودية نفسه، أي الموضوع المركزيّ الذي يحتلّه صليب المسيح فيها.
إذا كانت ملوكيّتنا تُعاد لنا في سرّ المعموديّة، كما ذكرنا، فإنّها تُعاد على الصليب وبواسطة ملكٍ مصلوب. بالمعمودية نموت حقاً، ثمّ نقوم مع المسيح. وهنا تُطرَح الأسئلة الأساسيّة: كيف نموت على شبه المسيح؟ وكيف نقوم معه ثانية على مثال قيامته؟ ولماذا يكون هذان الأمران مدخلنا الوحيد إلى الحياة الجديدة في المسيح ومعه؟
يكمن جواب هذه الأسئلة في حقيقة جوهريّة، وهي أنّ موت المسيح كان موتاً إراديّاً: ابذل نفسي لأستعيدها. ما من أحد ينتزعها مني، ولكني ابذلها برِضاي. فلي القدرة على بذلها، ولي القدرة على استعادتها” (يو 17:10-18). لم يكن المسيح خاضعاً للموت إذ كان منزّهاً عن الموت البشريّ، إلا أنّه أراد أن يموت، واختار أن يموت، وقرّر أن يموت. وهذه السمة الإراديّة التي تتّصف بها طبيعة ذلك الموت، موت مَن هو غير مائت، هي التي تجعله موتاً خلاصيّاً، وتملؤه بالقوة المخلِّصة.
لقد كان الفرح المسيحي الفريد بإبادة الموت واضحاً جداً في الكنيسة الأولى: “ابتلع الظفر الموت… فأين شوكتك يا موت؟.. قام المسيح ولم يبقَ ميت في قبر”. لكن كيف لنا أن نفهم هذا ونحن لا زلنا خاضعين للموت، إذ بعد موت المسيح لم يتغيّر أيّ شيء على صعيد الموت البيولوجي؟ لأن الموت لم يتحطّم ولم يُبَد، بل بقي هو الناموس الطبيعي الذي لا يستطيع أيّ إنسان أن يفرّ منه، سواء أكان قديساً أم خاطئاً، لأنّه المبدأ العضوي لوجود العالم نفسه. وهذا التساؤل قد يحصر المفهوم المسيحي للموت بحقيقة واحدة ألا وهي موت الجسد وخلود النفس، وما هذا إلا بهرطقة.
ما لا يفهمه الإنسان المعاصر، وما قد صار أعمى وأصمّ عنه، هو هذه الرؤية الأساسيّة للموت، ومفادها أن الموت البيولوجي ليس كاملَ الموت، ولا جوهره النهائي. فالموت، بحسب الرؤية المسيحية، هو قبل أيّ شيء آخر، حقيقة روحانية يمكن أن يشترك فيها الإنسان وهو حيّ، ويمكن أن يتحرّر منها وهو راقد في قبر. فالموت هو وحده معطي الحياة. ليس الموت اللفظة المناقضة للخلود بل هو اللفظة المناقضة للحياة الحقّة “التي كانت نور الناس”. غير أنّ الإنسان قادر على رفض هذه الحياة وهكذا يموت، حتّى أن خلوده نفسه يصير موتاً أبدياً. وإذا لم نستعِد هذه الرؤية المسيحية، وهذا الإحساس بالموت بوصفه قانون الخطيئة الرهيب لحياتنا، فلن نستطيع أن نفهم مغزى موت المسيح من أجلنا ومن أجل العالم، فقد أتى المسيح ليحطّم ويبيد هذا الموت الروحي بالذات، ويخلّصنا منه.
إذاً، المسيح رغب في أن يخلّص الإنسان ويحرّره من الموت الذي استبدله بحياته، ويعيده إلى الحياة التي فقدها بالخطيئة. وهذه الرغبة هي المحرّك والقوّة لحبِّه الكامل لله والإنسان، ولطاعته الكليّة لمشيئة الله، وهما الأمران اللذان انقاد الإنسان إلى الخطيئة والموت عندما رفضهما.
وهكذا، لا موت في حياة المسيح لأنّ ليست لديه رغبة في الحصول على أيّ شيء سوى الله، ولأنّ حياته كلّها هي في الله، وفي محبة الله. إنّ رغبته بالموت التي تتجلّى فيها المحبة بوصفها حياة، والحياة بوصفها محبّة، يزيل من الموت شوكته، أي الخطيئة التي تسبّبت بالعزلة، والانفصال عن الحياة، والظلمة، واليأس والموت.
لكن يبقى أيضاً السؤال: ماذا يعني كلّ هذا لنا ولحياتنا في الكنيسة وفي العالم؟ في الواقع، نحن لا يمكن لنا أن نعرف المسيح إلا إذا رغبنا في أن نجابه ونصارع الخطيئة والموت، وهما المجابهة والصراع النهائيان اللذان جعلاه يترك حياته من أجل خلاص العالم. فالمسيح هو حقّاً مخلّص العالم لكن ليس مخلّصاً من العالم، هو يخلّص العالم بتحريره من “هذا العالم”، وبإظهاره أنّ هذا “العالم”، أي عالم الشر ليس جوهر العالم وطبيعته، بل مظهر أو شكل لوجوده. قد كشف السيد المسيح على الصليب فسادَ “هذا العالم” وشرَّه، وسيبقى هذا الكشف إلى الأبد حكماً على “هذا العالم” ودينونة له. لكن في الوقت نفسه، يتيح الصليب إمكانيّة قبول العالم بوصفه خليقة الله وموضع محبته واهتمامه غير المحدودين. وهذا هو معنى العالم “المصلوب بالنسبة إليّ”، ففي داخل الإيمان المسيحي والنظرة المسيحية إلى العالم يكون رفض العالم وقبوله متواجدَين معاً ومتعاضدَين ومتداخلَين بشكل يبلغ حدّ التناقض: الرفض هو الطريقة الوحيدة للقبول، والقبول هو الذي يكشف معنى الرفض وهدفه الحقيقيين.
إذاً، “أن يكون العالم مصلوباً بالنسبة إليّ، وأن أكون مصلوباً بالنسبة إلى العالم” هو الوصف والتحديد الحقيقيان لملوكيتنا التي نستعيدها في المسحة الملوكيّة، وننالها من الروح القدس. “كلّ شيء لكم، وأنتم للمسيح، والمسيح لله” (اكو 23:3). كلّ شيء لنا: العالم لنا من جديد ويمكننا أن نسود عليه. كلّ دعوة بشريّة مباركة ومقدّسة وكلّ منها فريدة لأنّ كلّ إنسان فريد. كلّ شيء مقبول ما عدا الشر والخطيئة.
ففيّ أنا، وفي إيماني وحياتي وعملي، يمكن أن تصير هذه العقيدة، أي “عقيدة “أن أُصلَب بالنسبة إلى العالم” حياةً، وأن يصير صليب المسيح قوّةً. إذ ما من فكرة أو عقيدة يمكن أن تخلّص العالم، ولكنّ العالم يهلك أو يخلص في كلّ إنسان. وهو يخلَّص كلّما قَبِل إنسانٌ الصليب، ورضي أن يكون مصلوباً بالنسبة إلى العالم. وهذا يعني ثباتاً وتمييزاً متواصلاً، وصراعاً مميتاً من أجل أن تنتصر دعوة الإنسان فيه وهكذا يُجعَل كلّ شيء معرفةً لله وشركة معه، فيعكس ويعبّر عن صلاح ملكوت الله وحقيقته وجماله.
أخيراً، القوّة الملوكيّة والحقيقيّة التي يمنحها المسيح للبشر هي القوّة التي تمكّنهم من ان يتجاوزوا ويتغلّبوا على غائيّة هذا العالم، وحدوده الطبيعيّة، وآفاقه المغلقة. إنّها القوة التي تمكّنهم من جعل العالم إلهياً من جديد، بدل جعل الله “دنيوياً”.