X

بحث في التراث الأرثوذكسي

الآلام

الأب افرام كرياكوس

 

حديث في قاعة كنيسة سيدة النياح، رأس بيروت، 19/3/1996

أُحب أن أنقل شعوري: عندما آتي إلى هذا المكان أشعر بجو عائلي وبجو كنيسة، كأننا فعلاً جالسون تحت خيمة الاجتماع يظلل علينا روح الرب. في هذا الإطار ممكن أن أتكلم. أتذكر هذا المكان منذ العام 1960، ابتدأت حياتي الكنسية في هذا المكان، وهو يعني لي الكثير. جميلٌ أن يأتي الإنسان إلى المكان نفسِه ويشعر باستمرارية الكنيسة التي تستمر فينا ومن دوننا.
الموضوع المطروح علينا في هذه السهرة هو موضوع الآلام وطُلب مني أن أتكلم بشكل تأمل حوله، وهو يأتي في وقته لأننا في أسبوع الصليب ونتهيأ لإستقبال والإشتراك بآلام وموت وقيامة الرب يسوع.
سأركّز في هذا الإطار على نقطتين ممكن أن تكونا إنطلاقاً للتأمل وبعض الأسئلة – أولاً: إذا تأمل أحد في الكلمة – كلمة آلام – التي هي في الأصل اليوناني – والفرنسية – والإنكليزية – معناها: “passions, pathy” الكلمة الأصلية معبّرة جداً وهي تتجه في معناها في اتجاهين، كما والترجمة العربية تعبّر عن إتجاهين: الأول الأهواء والثاني الآلام والأوجاع.
في بعض الترجمات تستعمل كلمة أهواء وأخرى كلمة آلام “منذ شبابي أهواء كثيرة تحاربني…. أو آلام كثيرة…” المهم أن الأصل في هذه الكلمة يعبّر عمّا يعانيه الشخص في داخله، عمّا يشعر الإنسان في أعماقه ويتوجّع من أجله، وفي الوقت نفسه المعنى الثاني يعبّر عن الهوى، أي هذا الريح الذي يعصف بالإنسان ويرميه إلى حيث يريد أو لا يريد. كما تعلمون، آباء الكنيسة وخاصة القديس يوحنا السلمي تكلّموا كثيراً عن الاهواء وقالوا أن الأهواء إيجابية وسلبية. الإيجابية هي التي وضعها الله في الإنسان من أجل غاية ممدوحة والسلبية هي التي أتت نتيجة للخطيئة. هذه الحالة التي يعيشها الإنسان فيها شيء من التوجع والمعاناة، وفي الوقت نفسه فيها الهوى، كثيرون منا، إن لم نقل كلنا، يمر بحال أهوائي. أي عندما يتسلط الهوى على الإنسان فيستعبده ويصبح مجنوناً به ويؤخذ باللذة، يطير عقله، ولكن عندما يؤخذ بالهوى الإيجابي الذي هو هوى روحي، عند ذلك يشعر بالألم. فالألم يرافق المعاناة الروحية – الشوق الإلهي – بينما يغيب هذا النوع من الألم من التوجّع الذي تكلّم عنه كثيراً القديسون. يغيب في الحالة الأولى حيث يتلذذ الإنسان بالجسد ولكن النتيجة عكسية، فالهوى الجسدي يخطف الإنسان ويذيقه المرارة، يذيقه الفراغ. أما الهوى الروحي وإن كان يُكتسب بالآلام والتوجّع عبر الأنين الداخلي فيؤدّي إلى سلام وفرح كما يقول الكتاب “هذا الحزن الذي يؤول إلى فرح”.
ما أريد أن أقول في هذه النقطة، خاصة في عصرنا اليوم: كيف نستطيع أن نواجه هذا التيار، هذا السباق، الركض وراء اللذة الجسدية؟ كيف نستطيع أن نواجهه أو بالأحرى نحن في الكنيسة كيف نستطيع أن نستبدله بالهوى الروحي، أي أنّ الإنسان، خاصة الشاب، اليوم لا يستطيع أن يتجنّب الهوى الجسدي إلا إذا استبدله بهوى روحي وعن ذلك يتحمل آلامه إذا أتُخذ بالشوق كما أُخذ باللذة، إذا ارتضى أن يستبدل لذة جسدية بلذّة روحية، والرب هكذا ارتضى أن يكون هناك وجع، وأريد أن أؤكّد كما تربّينا الكنيسة أنّه لا بدّ من الألم لكي نفهم سبب تمسّك كنيستنا بالنهج النسكي في العالم، وهذا النهج ذو طابع إنجيلي محض. ما من إحساس كهذا الشوق – هذه الحرارة التي يمكن أن يشعرها الإنسان المسيحي تجاه الرب.
ثانياً: النقطة الثانية هي قضية الموت، الموت هو الألم الأكبر أي هو العدو الأكبر في كيان الإنسان، هو التحدي الأكبر والآلام هي معبر إلى الموت والقيامة.
حسب إيماننا وخبرة الكنيسة، المسيح وحده قد أمات هذا الموت بموته على الصليب. الموت أمر ضد طبيعة الإنسان الأصلية، هو انفصال غير طبيعي للجسد عن النفس ولذلك أتى المسيح لكي يُصلح طبيعة النفس، طبيعة الإنسان الأصلية، ونحن مدعوون عبر حياتنا أن نتمثّل بخبرة المسيح، أن نشارك آلامه وموته حتى نحظى بقيامته، والطريق هي الآلام أو الصلب، ولذلك يقول الرسول بولس: “هناك الذين صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات” “أنا صُلبت للعالم والعالم صُلب لي” هذا يعني أنّ في حياتنا آلام طوعية وآلام كرهية، بإرادتنا أو بالرغم من إرادتنا.
الآلام الكرهية: الصعوبات، الأمراض… إذا تقبلّناها تصبح معبراً للخلاص، هذه هو إيماننا وكذلك الآلام الطوعية: أي عندما يضبط الإنسان أهواءه من أجل المسيح، عند ذلك يفتح المجال، كما يقول القديس غريغوريوس بالاماس للصليب: “لا نستطيع أن نُصلب من أجل العالم حسب قول الرسول، لا يستطيع الإنسان أن يحمل الصليب إلاّ بمعاينة الله” أي إن لم يذق الإنسان حلاوة الرب لا يرتضي بسهولة حمل الصليب ولا يحمله كما يجب.
من هنا أعود إلى النقطة الأولى وأقول إن لم يكن هناك هذه الحرارة، الدفء في القلب للمسيح وللكنيسة لا يستطيع إنسان أن يتحمل آلام هذه الحياة. لا بد أن تكون هذه الشعلة، إذا أردنا أن نربح أنفسنا وأنفس أبنائنا، لا بد أن نهيء، أن نخلق فيهم هذه الحرارة، هذا الشوق إلى الرب، عند ذلك يرتضي الواحد أن يتحمل كل ألم ولا يعود يخاف منه بل يعبر إلى الخبرة التي تتجاوز الألم وهي الخبرة السابقة للقيامة.
كل من صَبَر على ألمه في هذه الحرارة إلى الرب يتذوّق مسبقاً هذا الفرح. أنه مُعطى لنا في هذه الحياة أن نذوق شيء من الفرح الأبدي، شيء من قيامة المسيح هذا هو عمل الروح القدس فينا، إنه عربون الحياة الأبدية، من لم يتذوّق هذا الفرح في قلبه لا يستطيع أن يحمل صليب الرب في هذه الحياة.

admin:
Related Post