X

بحث في التراث الأرثوذكسي

إنكار الذات والاعتراف

الأب افرام كرياكوس

حديث مسجّل من 1996

 

ننطلق في هذا الحديث من الدعوة التي أتت على لسان الرب يسوع “من أراد أن يتبعني فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني” (متى16: 24 – مرقس8: 34). ماذا يقصد الرب من عبارته هذه ”أن ينكر الإنسان نفسه”؟
إن هذه الآية من المقاطع الإنجيلية التي تُقرأ في أعياد الصليب. هناك بعض الملاحظات الأولية التي تتعلق بهذه العبارة كما أتت في النص:
1. الملاحظة الأولى هي أن الرب في هذا المقطع يتوجّه ليس فقط إلى التلاميذ بل إلى كلّ الجموع، إلى الناس كلّهم، ولذلك لا حجة ولا مبرّر لما يقوله البعض: إن هذه العبارة دعوة فقط لفئة من الناس مثلاً للرهبان، الذين يأخذون هذا الشعار في حياتهم، ولكن هذه الدعوة لم تُقل فقط للرهبان والمكرسين بل لكلّ الناس الذين يتبعون الرب.
2. الملاحظة الثانية هي أن مرقس الإنجيلي يستخدم كلمة “يتبعني” ولا يقول كلمتى “يأتي ورائي”. إنّه يستخدم هذه الكلمة التي استخدمها يسوع نفسه عندما دعا تلاميذه لأول مرة، مما يجعلنا نفهم أن هذا الكلام موجه لكلّ مَن يريد أن يتشبّه بالرب يسوع في كلّ مراحل حياته، الذي يريد أن يتبع الرب في كلامه وفي أعماله عليه أن يتبعه أيضاً حتى النهاية في آلامه وموته وقيامته، يقول الرسول في (رؤيا14: 4) “هو يتبع الخروف حيثما ذهب” أن يتشبه بمعلّمه في كلّ شيء (أي التلميذ).
3. الملاحظة الثالثة: قبل أن نحاول أن نفهم القصد من هذه الدعوة، تساعدنا الملاحظة على ذلك، كما تعلموا أن الرب لا يفرض الدعوة علينا فرضاً طالما يقول من أراد إنه يترك الحرية، وهكذا الذي يستخدم هذا السبيل يجذب الآخر أكثر، أمّا الذي يفرض الأمور فرضاً فلا يجتذب الآخر، فالآخر يتجاوب بقناعة والنتيجة تكون أفضل وعمله يكون بحماس.
بعد هذه الملاحظات ندخل إلى معنى العبارة بحد ذاتها، إنكار النفس، ولا بدّ من شيء من التأمل والتفسير حتى تدخلنا إلى المجال الروحي.
مثلاً، يقول المفسّر ثيوفيلكتوس: دعا الجمع على مسمع الحاضرين كلهم وقال أنه لا يخلص أحد إن لم يمت من أجل الخير ومن أجل الحقيقة، فهذا المفسر يُدخل عنصر الموت. إن لم يمت من أجل المسيح، والرأي نفسه يقوله القديس يوحنا الذهبي الفم، ويُضيف استشهاداً من إنجيل يوحنا 12: “إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى حدها ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير، من يحب نفسه يهلكها ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية”، طبعاً الموضوع حساس وقاسي، فهذه الدعوة تتطلب تأملاً وتمييزاً من أجل الفهم، وهي قاسية بمعنى أنّها جذرية أي تطال الإنسان في عمقه ولذلك هنا يستشهد المفسر القديس بأن يطال الموت الإنسان نفسه، ولا بد هنا أن نذكر الآية التي وردت فقط عند لوقا (24: 6) الذي يقول: “إن كان أحد يأتي إليّ ولا يبغض أباه وأمه وأخوته وحتى نفسه لا يقدر أن يكون لي تلميذاً”. فهذا ما يهمّنا هو موته نفسه. تعني هذه الآيات التي تتعلق بالموضوع نفسه، وهي واضحة ومعبرة وجلية، ربما لا تحتاج إلى تفسير وشرح بل إلى تأمل. ولكن نحن نحاول أن نقارب قدر الإمكان مقاصد الرب وما نستطيع أن نفهم منها.
نفهم أنه على الإنسان أن يدخل دائماً في صراع وفي حرب ضد الأهواء والملذات والشهوات. هذه الحرب وهذه المقاومة لها طابع الاستمرار، أي علينا أن نكون مجنّدين باستمرار، لذلك يقول (لو9: 23) “إن أراد… يحمل صليبه كلّ يوم ويتبعني”. ما قلناه من ملاحظات هو استمرارية حتى الموت، أن نتبع الرب حتى الموت وفي الوقت نفسه أن يكون لنا هذا الموقف موقف الإنكار والنفور من نفسنا الفاسدة، أن يكون هذا التطلع إلى هذا السبيل في أنفسنا هو تطلع كره وبغض ليس فيه مراعاة وليس فيه مسايرة ولا مساومة. الشيء الذي يناقض تعليم الرب، علينا أن ننبذه، نقطعه قطعاً ولا نساوم كما يقول الرسول في (رو6:6) أن نتبرأ من الإنسان القديم ومن جسد الخطيئة.
هذا جانب، أي أنه طريقة، لفهم العبارة وهو الموقف العدائي لكل شيء سلبي خاطئ موجود في أنفسنا طالما الإنسان مجبول بالخطيئة (بالخطايا ولدتني أمي…)
يمكن أيضاً أن نفهم العبارة على أنها دعوة للإنسان ليتواضع وينسحق، أو كما يقول بولس الرسول (في 2: 7 – 18) ليفرغ ذاته “…أفرغ ذاته ووضع نفسه حتى الموت موت الصليب…”
إذاً يمكن أن نفهم إنكار الذات بمعنى إفراغ الذات، فالله تنازل من عرشه لكي يصبح عبداً، فكم نحن علينا أن ننزل من كبريائنا ونصبح خاضعين لمشيئة الله. أيضاً هنا على شبه المسيح، كتلاميذ أمناء للسيد، يقول القديس الذهبي الفم بعبارته حيث يدل على الموت المهين “تعلمون أن الصليب يستخدم للعقوبة، وعليك أن تحمل في ذهنك ذكر الموت وأن تستعد كلّ يوم للذبح…”
كثيرون من الآباء يشدّدون على ذكر الموت والدينونة لردع الإنسان عن عمل الخطيئة، فكلّ هذه القساوة في اللهجة، كما في أحد الدينونة، كلّها تستخدم هذه الصورة لتنبيه الإنسان من نتائج عمل الخطيئة، ولكن كما نرى هنا دعوة أيضاً إلى هذا التواضع كما يقول القديس دوروثاوس في كتاب التعاليم الروحية “أن يحسب الإنسان نفسه كالتراب يدوسه الجميع”، هكذا لا يعود يتكبر ويأتي دائماً في سلوكه من تحت وليس من فوق وأن يحسب نفسه لا شيء، وهذه لاهوتياً تعني أن أصلنا لا شيء، فالله خلقنا من العدم، وهو الذي يجعلنا شيئاً وهو قادر على ذلك، فالذي ينكر نفسه وينسحق يفتح مجالاً لأن يفعل الروح فيه، علينا أن نتراجع ونفتح مجالاً، فتح هذه المجال يتطلب هذه الخطوة (إنكار الذات) ويضيف (ويتبعني) هذا حتى لا يتعب الإنسان ويجاهد إلا من أجل المسيح عارفاً أن كلّ هذا من أجل المسيح، في (مر8: 35) “من أراد أن يخلص نفسه…” هذه الكلمة: من أراد، هي للتواضع وليست مستعملة لإضافة معنى جديد وكأن الرب يريد أن يلطّف كلامه القاسي الذي استخدمه، فيظهر للإنسان أنه سوف يربح كثيراً أو شيئاً كبيراً، ولذلك يقول: أن الذي يفعل هكذا، أي ينكر نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل يحصل على الخلاص، أما الذي يتراخى ويدخل في شهواته ونطاق التنعّم راحة الجسد، هذا الإنسان، إذا استمرّ يصل إلى الهلاك. أما الذي يسلك السبيل الآخر، أي يلجم نفسه فيصل إلى الحياة كما يقول الرسول بولس في رسالته لأهل كورنثوس: “كل مجاهد في سبيل ملكوت السماوات يضبط نفسه في كلّ شيء…”
الآن إذن حسب هذه الآية (35) الذي يميت شهوات نفسه يصل إلى الخلاص وإلى الحياة، يعني يصل إلى الرب، ويدخل في صلة معه لأنه قبلاً كان في عدم صلة وفي انفصال، فيدخل في صلة مع الله وفي محبته، وهنا يأتي قول للقديس اسحق السرياني الذي يختص بنكران الذات “هذا هو نكران الذات أن يصمد الإنسان مثابراً على الصلاة”. هنا القديس يفتح مفهوماً جديداً للعبارة “محبة الله هي إذاً نكران الذات” أي أن نحب الله بنكران الذات وربطها بالصلاة. أيضاً يذكرنا هذا القول بأن الصلاة هي التغلّب على المشاق إلى أن نصمد… نكران الذات، الصلاة هي موت لأفكار مشيئة الجسد ومن يصلي بالحقيقة يساوي من مات فيه العالم .
القسم الثاني الإعتراف: وهو على صِلة مع هذه الدعوة. خلاصة ما تقدّم، أي إذا أردنا أن نلخّص ما قلناه في القسم الأول، نقول أن الإنسان متعلّق بذاته متمسك بنفسه ورأيه، بماله وممتلكاته بموقفه وكرامته… إلخ ودعوة الرب هي أن يخرج من نفسه ويخدم الله، يخدم الآخر، ويحب الآخر، فعند ذلك يلتقي مع الرب. إذاً، إن لم يخرج الإنسان من نفسه كلّ شيء يرتبه في حياته من أجل نفسه، فهذا الإنسان لا يعرف الله، إنه يلتقي بالمسيح عندما يخرج من نفسه ويلتقي بالآخر، يتدرب على خدمة الآخر ومحبته ومحبة المسيح ويتعود على الالتصاق به ويصبح كما يقول بولس الرسول في رسالته إلى أهل كورنثوس عن الذي يلتصق بالرب. وأيضاً، هذه هي الحياة الروحية أن نحيا بالرب ونعيش بالروح مع المسيح في جسدنا وننبذ كلّ أهوائنا من أجل ذلك يسمّيه القديسون إعلاناً في الجسد.
هذه الحياة ونحن عائشون بروح الله خارج هذا العالم تتمّ عن طريق تعب الصلاة، في صمود هذا الحوار مع الرب، هذا الجهاد في اقتلاع أنفسنا عن العالم حتى في جسدنا، فالإنسان مهتم بكل ما هو مادي، فإذا تخلى عن المنظور يستطيع أن يكون مع اللامنظور، أي مع المسيح الذي يمنح أجسادنا رجاء القيامة، هذا الذي يريد كلّ واحد منا ليس فقط أن يخرج من جسده ومن أهوائه لكن يريد أن يقر كلّ واحد بضعف نفسه وجسده. مَن لا يريد أن يخرج من نفسه ويعود هو الإنسان الذي لا يكشف عن نفسه وهو الإنسان المتعلّق بنفسه، أما الذي يكشف عن نفسه فهو الإنسان الذي يعبد الله ولا يخاف أن يعترف وأن يكشف نفسه ويدخل في مغامرة ويتخطى نفسه. من هنا أنّ الاعتراف يفرّح ويريح، لأن الإنسان يخرج من نفسه ويلتقي مع الآخرين. فبالاعتراف نصل إلى الشركة من جديد ونكتشف الله، هذه هي أهمية الاعتراف، حتى أن القديس اسحق السرياني قال: “الذي يعترف بخطيئته أهم وأعظم من الذي يقيم الأموات”، فهو يخرج من الموت ويلتقي بالمسيح وعندما يلتقي في شركة المحبة هذه يعيش القيامة ونعلم أن الروح يفعل فينا فيجعلنا أحباء إلى الأبد.

admin:
Related Post