X

بحث في التراث الأرثوذكسي

الوثن الجديد

الخورية سميرة عوض ملكي

كان أنبياء العهد القديم في زمانهم صوت الله الصارخ الداعي إلى التوبة وشجب الخطيئة. وكانوا فمه الناقل كلمته المجروحة إلى شعبه الآثم الخائن الذي تركه ونسيه، واستسلم لعبادة الآلهة الأخرى وإغراء أصنام الأوثان. ونورد هنا، على سبيل المثال، ما قاله الرب للنبي إرمياء: “ها قد جعلتُ كلامي في فمك… تذهب وتتكلّم بكلّ ما آمرك به… تقول للشعب… دعواي على كل شرّهم لأنّهم تركوني وسجدوا لآلهة أخرى” وأيضاً “أمّا شعبي فقد نسيني أياماً بلا عدد”.

إنّ مَن يتأمّل ويتمعّن بهذه الكلمات الإلهية يتبيّن له أن الوثنية ليست محصورة بعبادة الأصنام فقط وإنّما تتجاوزها إلى نسيان البشر لله وعبادة أي شيء سواه. والتأكيد على هذا جاء على لسان الرب يسوع حين قال: “لا تعبدوا ربّين الله والمال”. فهل المال ربّ أو صنم؟

فلا يظن أحد، إذاً، أكان مؤمناً أو غير مؤمن أن زمن الوثنية قد مضى. لأن البشر عاشوا وما زالوا يعيشون كالوثنيين، على حدّ قول الأرشمندريت صوفروني. وذلك لأن العطش غير المرتوي إلى العلم التقني (دون الدخول في سلبياته أو إيجابياته) هو أزمة إيمانية مأساوية بكل ما في الكلمة من معنى. لأنّ انغماس هذا الجيل في متاهات إغراء الواقع الافتراضي إلى حد الإدمان المزمن سيطر على أكثر اهتماماته وبات يأخذ كل أوقاته. فأينما ذهبت وحيثما توجّهت أو مع مَن جلست، صغاراً او كباراً، آباء او أمّهات أو أولاد، لا ترى للأسف إلا عيوناً شاخصة إلى الشاشات، من هواتف أو لوحات إلكترونية أو تلفزيونات أو غيره، على الرغم من انتشار المعرفة حول مساوئ ومخاطر عدم الاعتدال في استعمال هذه الآلات.

أوليسَ هذا الإدمان على التكنولوجيا والإفراط باستعمالها وثناً جديداً يدعو إلى نسيان الله وتغييب ذكره، عن قصد أو عن غير قصد. وكما أنه لا يستطيع أحد أن يركض وهو مكبّل كذلك لا يمكن للنفس المضطربة أو المرتبكة بأمور مادية أن تعيش إيمانها الأصيل بالثالوث القدوس، الذي هو إله المحبة، المعبّر عنه في حياة تُعاش بروح الصلاة والوصايا الإلهية.

لقد كان الأنبياء يتألّمون حين كانوا ينقلون كلمة الرب والشعب يستهزئ بها لأنه لا يريد أن يتخّلى عن إغراء آلهة الأوثان. لهذا نرى قول النبي إرمياء ينطبق على شعبنا الحاضر المتعلّق بالتكنولوجيات الحديثة والمأخوذ بها عن كلمة الله: “أَبَوْا قُبُولَ التَّأْدِيبِ. صَلَّبُوا وُجُوهَهُمْ أَكْثَرَ مِنَ الصَّخْرِ. أَبَوْا الرُّجُوعَ. أَمَّا أَنَا فَقُلْتُ: إِنَّمَا هُمْ مَسَاكِينُ. قَدْ جَهِلُوا لأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا طَرِيقَ الرَّبِّ، قَضَاءَ إِلهِهِمْ” (إرمياء 3:5-4). وندعوهم معه: “أَنْتُمْ أَيُّهَا الْجِيلُ، انْظُرُوا كَلِمَةَ الرَّبِّ” ولا تصلّبوا وجوهكم أكثر من الصخر.

admin:
Related Post