X

بحث في التراث الأرثوذكسي

أن نصير “رعية مع القديسين”

رئيس الأساقفة نيكن ركلتسكي

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

يكلّم الرسول بولس الأفسسيين منادياً إياهم بـِ”الْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ فِي أَفَسُسَ، وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ”، قائلاً لهم بأنّهم بعد أن صاروا مسيحيين “فَلَسْتُمْ إِذًا بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلاً، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ اللهِ،مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ، الَّذِي فِيهِ كُلُّ الْبِنَاءِ مُرَكَّبًا مَعًا، يَنْمُو هَيْكَلاً مُقَدَّسًا فِي الرَّبِّ الَّذِي فِيهِ أَنْتُمْ أَيْضًا مَبْنِيُّونَ مَعًا، مَسْكَنًا ِللهِ فِي الرُّوحِ.” (أفسس 19:2-22).

هذا الدرس من معلّم إيماننا العظيم يتعلّق بكلّ الجنس البشري، بمَن فيهم نحن الخطأة، وهو نفسه لنا جميعاً: رهبان وعلمانيين وكهنة وأساقفة، متعلّمين وأميين، فقراء وأغنياء، رجال ونساء، شيوخ وشبّان، وبتعبير آخر، لكل البشرية.

كل واحد منا، إذ يعبر هذه الحياة الأرضية القصيرة، عليه أن يعمل على نفسه، أن يجعلها مسكناً للروح القدس. علينا جميعاً أن نعبر بوابات الموت ومن ثمّ نرث إمّا الحياة الأبدية المباركة، حياة المحبة والفرح، أو الحزن الأبدي والعذاب الذي لا ينتهي.

ولكي لا نفتكر أنه بسبب نقص تربيتنا اللاهوتية أو عدم استعدادنا لاستيعاب أسرار المعرفة الروحية أو عدم درايتنا بتوجيه قلوبنا نحو التحوّل إلى رعية مع قديسي الله وأبراره، تقدّم لنا الكنيسة في القراءة الإنجيلية لليوم نفسه مقطعاً عن كيف ينبغي الاقتراب من الله. هذا ظاهر في المثل عن المرأة البسيطة التي لم يُذكَر حتّى اسمها. فالإنجيل يورِد قصتي شفاء النازفة الدم وإقامة ابنة ياييرس.وعلى أساس الاختصار الملحوظ في سرد الإنجيل لحياة ربنا يسوع المسيح، يمكننا إعادة تكوين الصورة الكاملة:

شفاء المرأة النازفة جرى بعد أن ذاع صيت تعاليم يسوع المسيح والمعجزات العظيمة التي قام بها في كل اليهودية، وصارت الجموع تتبعه حيثما يذهب وتنظر إليه كمعلّم كبير وصانع عجائب، ما أن عاد من بلاد الجدريين، بعد أن أخرج جيش الشياطين من الممسوس إلى قطيع الخنازير الذي غرق في البحر جزاءً لأهل تلك الديار الذين خالفوا الناموس الموسوي. من ثمّ “طَلَبَ إِلَيْهِ كُلُّ جُمْهُورِ كُورَةِ الْجَدَرِيِّينَ أَنْ يَذْهَبَ عَنْهُمْ، لأَنَّهُ اعْتَرَاهُمْ خَوْفٌ عَظِيمٌ” (لوقا 37:8).الظاهر هو أنهم كانوا يسلكون في الفوضى وقد خشوا أن الرب سوف يشجبهم في خطايا أخرى، ويتلف ملذاتهم الخاطئة.

لكن معاملة الناس للرب اختلفت في اليهودية: “وَلَمَّا رَجَعَ يَسُوعُ قَبِلَهُ الْجَمْعُ لأَنَّهُمْ كَانُوا جَمِيعُهُمْ يَنْتَظِرُونَهُ. وَإِذَا رَجُلٌ اسْمُهُ يَايِرُسُ قَدْ جَاءَ، وَكَانَ رَئِيسَ الْمَجْمَعِ، فَوَقَعَ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ، لأَنَّهُ كَانَ لَهُ بِنْتٌ وَحِيدَةٌ لَهَا نَحْوُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَتْ فِي حَالِ الْمَوْتِ” (لوقا 41:8-42).

عندما ذهب الرب إلى بيت ياييرس جرى حدث يمكننا تصوّره أمام أعيننا. تبع الجمعُ الربَّ وكأنّهم يصارعونه بشكل غير رسمي. هؤلاء كانوا بالأساس شعباً فضولياً يقاتل ليحظى بأن يرى عن كثب هذا الرجل الشهير أو ليسمع شيئاً عنه أو ليشهد معجزة، والجمع بلا رحمة في فضوله. أمر مشابه حدث في زمن لاحق للقديس يوحنا كرونشتادت. حيثما يذهب كان الناس يركضون إليه حتى يكادوا يسحقونه. كانت الشرطة تُبعِد الجموع عن القديس يوحنا، لكن بالطبع، السيّد ليس عنده شرطة مرافقة وبالتالي كان كلّ الناس يصرخون إليه، ويتدافعون طمعاً بفرصة الاقتراب منه. السيّد على ما يبدو تحرّك ببطء وراء ياييرس محتملاً بتواضع زحمة الشعب.

لكنّه توقّف فجأة وسأل بسلطان: “مَن لمسَني؟” وقد نطق بهذه الكلمات بقسوة فساد الصمت. الجميع توقفوا وأنكر ذلك كل الذين كانوا يزحمونه. من ثمّ، بطرس والتلاميذ الآخرون، بهدف تنفيس خوف الجمع وحيرتهم، قالوا بشيء من التأنيب: “أيها السيد، إن الجموع يزحمونك وأنت تقول مَن لمسني”. الرب بمعرفته غير المحدودة كان يعرف مَن لمسه ولماذا، لكنّه رغب في أن تعترف مرتكبة هذه اللمسة وتعلن نفسها أمام العالم، وكيف ولماذا لمست السيد وصارت معلمة لكل الجنس البشري حول كيف ينبغي مقاربة السيد.

“قَدْ لَمَسَنِي وَاحِدٌ، لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّ قُوَّةً قَدْ خَرَجَتْ مِنِّي”، قال الرب لتلاميذه المرتبكين. هنا، بقرب السيد كانت المرأة المباركة. إذ رأت أنه ليس بمقدورها الاختباء وأحسّت أنّ الربّ يشير إليها ويعتيها بكلامه “جَاءَتْ مُرْتَعِدَةً وَخَرَّتْ لَهُ، وَأَخْبَرَتْهُ قُدَّامَ جَمِيعِ الشَّعْبِ لأَيِّ سَبَبٍ لَمَسَتْهُ، وَكَيْفَ بَرِئَتْ فِي الْحَالِ” (لوقا 47:8).

لقد أعلنت للعالم، ولنا نحن الخطأة، كيف أنها لاثنتي عشر سنة عانت من مرض رهيب، ونزف دائم، وكيف صرفت ثروتها على الأطباء الذين لم يقدّموا لها الشفاء، وكيف وقعت في الفقر وهي مريضة. لكن الأخبار بلغت أذنها بأن الذي يحرِّر من الألم أتى إلى العالم وآمنت من كل قلبها بأنه هو الإله الحقيقي القادر على كل شيء وهو مَن يستطيع أن يعمل لها ما لم يستطع كل الأطباء أن يفعلوه، فهو الإله الكلي المعرفة الممتلئ محبة وتحنناً، وأنها غير مستحقة أن تدخل في اتصال مباشر معه وتحكي معه، ولكي تحصل على الشفاء منه يكفي أن تلمس هدب ثوبه لأن كل ما هو معه وكل ما له كان مستنيراً بالنعمة الكلية القدرة. وهكذا بذلت جهداً عظيماً لشق طريقها عبر الحشود المحيطة به، وبتقوى صلاتية لمست طرف ردائه، وللحال شفيت. بحسب ناموس العهد القديم (لاويين 25:15)، فإن امرأة في هذه المحنة كانت تُعتَبَر نجسة ولا ينبغي أن تلمس أحداً. لكن لمس هذه المرأة لثوب المسيح لم يكن عادياً بل كان مُشبَعاً بالصلاة.

الإثبات على أن ما كان يدور في فكر هذه المرأة هو ما اعترفت به أمام السيد وشفيت، هو في كلمات الرب: “ثِقِي يَا ابْنَةُ، إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ، اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ” (لوقا 48:8). هذه كانت المرأة الوحيدة التي استحقت أن يدعوها الرب “ابنة”. للآخرات قال الرب “يا امرأة عظيم إيمانك” (متى 28:15). في حادثتين أخريين، سمّى الرب النساء بنات ولكن بشكل مختلف: المنحنية الظهر لثمانية عشرة سنة التي شفاها في الهيكل سمّاها “ابنة ابراهيم” (لوقا 16:13)، وعند اقتياده إلى الصلب، رأى نساء أورشليم فتوجّه إليهنّ بهذه الكلمات “يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ”  (لوقا 26:23). هذه المرأة المباركة استحقت اسم “ابنة” من الرب. بالإجمال، في حياته على الأرض، نادى الناس “أولاد” فقط في الحوادث التي كشف فيها ستار ألوهته. وهكذا قال للمفلوج : “ثِقْ يَا بُنَيَّ. مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ” (متى 2:9)، ومن ثم لحيرة سامعيه شرح أنه هو مَن عنده سلطان حلّ الخطايا، أي الله. ثم سمّى زكّا ابن إبراهيم بعد أن اعترف زكّا بإيمانه وتوبته (لوقا 8:19). قبل آلامه، تحدّث إلى تلاميذه عن ألوهته قائلاً: “يَا أَوْلاَدِي، أَنَا مَعَكُمْ زَمَانًا قَلِيلاً بَعْدُ” (يوحنا 33:13). وعندما ظهر لتلاميذه بعد قيامته دعاهم مباشرة أبناءه “أيها الأولاد هل عندكم شيء من المأكول؟” (يوحنا 5:21).

بهذه الطريقة، بتسمية المرأة التي شفاها “ابنة”، يظهر أنها بالحقيقة تمتلك الإيمان الخلاصي، إذ كما يشهد اللاهوتي يوحنا: “وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ” (يوحنا 12:1).

الرب، من ناحية أخرى، أكّد هذا الكلام بقوله للمرأة: “إيمانك خلّصك إمضي بسلام”. لم يقل “إيمانك جعلك صحيحة”، بل ما هو أعظم من ذلك “إيمانك خلّصك”، أي أن إيمانها حررها من المرض وجعلها على الطريق التي تقودها إلى الحياة الأبدية. هذه المرأة صارت إذاً معلّمة الإيمان الخلاصي العالمية، مظهرة مثالاً على تجليه.

يقول الشيخ أنطوني خرابوفتسكي المبارك الذكر معلِّماً أن الإيمان الخلاصي ينبغي أن يكون إيماناً مطهّراً بالمحبة الفاعلة: “لكي نكتسب الإيمان الخلاصي بالمسيح، على المرء أن يرفض، من جانب واحد، أهواء هذا العالم وينمّي المحبة في داخله ويرعاها ويعترف بأنّ حامل المحبة المثلى هو ابن الله الحقيقي، وبهذا الاعتراف يرفع محبته إلى الأبدية.”

هذه هي الحياة الحقيقية التي من أجلها ينبغي أن نصير “رعية مع القديسين”.

admin:
Related Post