X

بحث في التراث الأرثوذكسي

حاجة الانسان المعاصر الى سر الاعتراف
فادي أسعد جرجي

غربةُ الإنسان في عصرنا

تركوني أنا ينبوع المياه الحي واحتفروا لأنفسهم آباراً، آباراً مشقّقة لا تمسك الماء” (ارميا ٢:۱٣).

يؤكد غير قليل من المعطيات السائدة في بيئاتنا الاجتماعية أننا نعيش في عصر لا يقيم وزناً لفضائل مثل التيقظ الروحي والسهر على حفظ الحواس وصون النفس من الزلل. مجتمعاتنا الجادة في طلب السعادة عبر وسائل اللذّة والاستهلاك والتكنولوجية لم تعد تتحسس الابعاد الروحية للقيم كالجمال والطبيعة والفن والجسد… البشر جملةً في حركة متسارعة الى اللهو. كلام كثير يذاع هنا وثمّة عن “حقوق الانسان”، ومعظمه لا غاية له سوى استغلال الانسان وانتهاك حرماته أو بكلام آخر جعله باسم الحرية عبداً. هذا، ويذهب غير قليل من المحلّلين الاجتماعيين الى أن فلسفات الأنسنة والتي هي وليدة عصور “التنوير الغربي”، لم تترك مكاناً للبعد الروحي في حياتنا. حضارة اليوم تدعو كلّ واحد منّا وتمهّد له السبيل للاستغناء همّا هو ديني روحي، ليكتفي بالغايات الآنية لوجوده، فيرتاح الى ما يحقّقه من انجازات بشرية صغيرة كانت أم كبيرة، ويبني أهراءات المال والسلطة واللذة التي تؤمّن مستقبل مجتمعه واستقراره.

غير أن الحقيقة الأكثر صدقاً أن انساننا المعاصر، العابث، إنما يتذرّع بفلسفات الانسنة وسواها ليبرّر إخفاقه في اكتناه الحقائق الروحية وعيشها. إننا عوضاً عن أن نواجه ذواتنا برصانة وصدق نميل في معظم الأحيان الى خلق الأعذار المبنية على الظروف والمعطيات الخارجية المتعدّدة والشديدة التعقيد، لنقول من ثم إن التعاليم الروحية للكنيسة أضحت بعيدةً عن الواقع لا صلة لها بالانسان المعاصر وتطلّعاته وأشجانه.

لكن المحاسبة النزيهة للضمير تظهر غير هذا. ما ينكشف، حين نتحقق عن كثب من واقع المشكلة، أن الانسان اليوم هو بأمسّ الحاجة الى القيم المسيحية الروحية التي هي السبيل الأنجح بل الأوحد الى حلحلة أزماته وتهدئة اضطرابه. غير أن البشر يفضلون الهروب من كل هذا. الانسان المعاصر يخاف الدين وما فيه من إلزام ووعيد، لأن الشعور بالذنب يُثقل كاهله. صورة الإله القاضي حامل الميزان في يمناه ليحاسب بصرامة كلاًّ عمّا فعل باتت منفّرة تكسر ظهر الانسان عوضاً عن أن تساعده. هذه الصورة الحقوقية لله والتي كرّسها لاهوت الغرب مع ترتوليان، مروراً بأوغسطين وأنسلمس ووصولاً الى سخولاستيكيّة الإقويني ومن حذا حذوه، جعلت الناس يجحدون الاله. ما لا شك فيه أن “اللاهوت المسيحي” في بعض اتجاهاته المدرسيّة قد أذنب إذ خسر كل إمكانية في محاورة الناس، بل جعل الانسان المعاصر يفقد غايته، يفقد الرؤيا السليمة في حياته التي كان علم اللاهوت وحده قادراً على تزويده بها. فحين ينزاح اللاهوت عن مساره الأصيل، يميل البشر الى إرواء عطشهم إما من روحانيات غريبة، وإما بالإقبال الأعمى على اللذة وأسبابها، أو بنوع من اللامبالاة وعدم الحسّ…

“اللاهوت المسيحي” يذنب حين يفقد أصالته، يفقد رسالته الرعائية التبشيرية وإمكانية شفاء الانسان وبلسمة جراحه. لا يعود اللاهوت ذاك السامري الشفوق الذي ينحني ليرفع الانسان من وهدة جراحه. يُضحي صيغاً فكرية عقيمة لا تسلّي سوى المتحذلقين عوض أن يكون منهاجاً لشفاء الانسان “لتكون له حياة (بالاستنارة) وليكون له افضل (بالتمجيد)” (يوحنا ۱٠:۱٠).

وحدها اسرار الكنيسة قادرة اليوم على انتشال الانسان من دوامة الظروف الحياتية التي تسيّره وتستعبده. ولكن مفتاح هذا كلّه يبقى ذلك الشعور الذي انتاب الابن الشاطر حين اشتهى أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله، ولم يستطع. ساعتئذٍ، يخبرنا الإنجيل، أنه “رجع الى نفسه… وقال أقوم أذهب الى أبي وأقول له أخطأت يا ابي الى السماء وأمامك…”(لوقا ۱٥:۱٧-۱٨).

هذا الشعور بسوء حالنا، وحاجتنا الى المسارعة الى المسيح هو سرّ التوبة، الذي به وحده يمكن خلاص إنساننا اليوم.

الشعور بالذنب المَرَضي والمعرفة الواعية للخطيئة

“من يعرف خطيئته خير من الذي يقيم الموتى” (القديس اسحق السرياني).

يصف علم النفس المستحدث شعورَ الانسان بالذنب بأنه حالة عُصابيّة. وأنه كسائر “الأمراض النفسية” يؤدّي تدريجيّاً بصاحبه الى شيء من التراجع فالتدهور ثم التداعي. أو على الأقل يضايقه بمقدار يحدّ من انتاجيته الفكرية والعملية بحيث يفقد فاعليته في مجتمع دينه وديدانه التنافس في الانتاج والاستهلاك. ويماهي علماء النفس ما بين الشعور بالذنب ولون من الفرح بالخطيئة كامن في حنايا عقل الانسان الباطن، حيث يتحرك بفاعلية كبرى وهو مستعد أن يؤدّي في لحظة غير منتظرة الى الانفجار والتعبير بشكل جامح أو عنيف عن هذا التضعضع في شخصية الفرد أو حتى المجتمع برمته. وكثير من المغالين في التحليل يحمّلون الدين مسؤولية هذه الحالة. إذ يرون فيه نظاماً أخلاقياً يحدّ الانسان بموانع ونواهي لا تؤدي إلا الى كبت ما فيه من حيوية. ولكن إن طبقنا منهج سيغموند فرويد نفسه، وهو خير من درس جدلية الشهوة والكبت في الانسان، أفلا يتضح لنا أن عقدة الذنب هذه إنما تعود في جذورها الى البنية الاوديبية للأسرة، الى الاضطراب وعدم الاتزان في مناخ العائلة التي نشأ فيها الولد في سنيه الخمس الأولى خاصّة، والى ما صادفه من صدمات وكبت في المرحلة اللاحقة في نموّه وتفتّحه الاجتماعي والعاطفي.

فمشكلة الشعور بالذنب إذاً، لا تأتي من قيم دينية يتربى عليها الانسان، بل من تلوث أو فساد في عائلته، كما نلاحظ اليوم في الكثير من البيئات “الحديثة” حيث انفرط عقد الاسرة وبات كلٌّ يعيش على هواه. الشيء الأول الذي ينبغي لنا أن نقف عنده هو أن القيم الروحية وما فيها من ضوابط، إنما تجمع شمل الاسرة وتبقي اللحمة فيها بحيث يتأمّن جوّ معتدل ملائم لتفتّح الفرد ونموّه بشكل متزن. أما الأمر الثاني فهو أن الشعور بالذنب المرضي والناتج عن كبت وعقد، هو غير الإدراك الواعي للخطيئة الذي عبّر عنه داود في مزموره الخمسين “لأني أنا عارف بإثمي وخطيئتي أمامي في كل حين”، والذي يتأتّى من شفافيّة أو بصيرة تشبه أعين الشيروبيم الدائمة اليقظة التي تشاهد جمال الخالق وتستحي لقبحها امامه، فتشتاق الى مصالحته. والشوق يولّد في الانسان حركة، يصير فيه ديناميكيّة  بخلاف الشعور المرضي بالذنب والذي ما هو إلا جمود وموت. “ووعي الخطيئة”، أي هذه الحساسية الروحية التي عبّر عنها اللّص المصلوب عن يمين المسيح وزكّا العشّار حين أدرك قصر قامته فاعتلى الجميزة، أساسٌ هامّ لفهم الانان لسرّ الاعتراف بل للحياة الروحيّة كلّها. لا بدّ للانسان من أن يعرف معنى الخطيئة من حيث هي واقع يؤثّر على كيانه بجملته، يشتّت قواه ويبعثر مواهبه فيصير عقيماً لا يقوى على الدنوّ من مبدأ الحياة أي “معرفة الله” (يو ۱٧:٣) التي تعطي معنىً وهدفاّ لوجود كل انسان. الخطيئة تقود الانسان الى العبث. وتجاهُل الخطيئة عبر طرحها خارج مفاهيمنا الاخلاقية يقود بدوره الى العبث. لأن الحقيقة لا يقربها الانسان إلا بالمواجهة الصادقة للذات والله والمجتمع. فوعي الخطيئة هو قبل أي شيء عودة الى حيّز الواقع، أي استدراك النفس التائهة في التخيلات لحالها المتدهورة. وهذا ما يسمّى في قاموس آباء الكنيسة “يقظة روحية” أي معرفة الانسان لحاله الواقع، وسهره على معالجة الاعوجاج فيها، والمحاولة الجادة منه للتمسك بهذا الوعي وما يصحبه من مسعى جاد. لذا فإن كل تطبيق شكلي لطقوس سر الاعتراف يبقى عديم الجدوى إذا لم يسبقه أو يصحبه نزوعُ النفس الأصيل الى تبديل ما فيها من قباحة تؤذي علاقتها الحميمة بالمسيح. شعورنا بالحاجة الى التوبة هو الأساس لسرّ الاعتراف. ولا اعتراف من غير توبة. لأن الاعتراف تكميل لما في النفس من ندامة وحزن مغبوط وشوق الى الله. الله يجتذب الانسان بنعمته الى التوبة. والتوبة تقتاد الانسان بنعمة الله إلى الاعتراف. والاعتراف يؤول بالانسان الى مغفرة الخطايا. وما المغفرة إلاّ بدايةً للنمو الروحي. فنحن لا نعترف لنفي ديناً على الله، بل لنكسر الحواجز الدهريّة القائمة في دربنا الى وحدة الحال مع المسيح. نعترف لنعبّر لله عن تعلّقنا به، وعن حاجتنا الى نعمته الشافية، وعن رغبتنا في الانفتاح عليه والاتحاد بشخصه. وهكذا لطالما عَبَرَ المسيحيّون المجاهدون بالتوبة، وفي كل الأزمنة، من الاستنارة الى الكمال فالتمجيد بنعمة الروح القدس.

الانسان المعاصر وأزمة التواصل مع الآخر

أسوأ ما في التطور الواسع النطاق لوسائل الاتصال في عالمنا، والتي يقال إنها جعلت الكون قرية صغيرة، أنها عزلت الانسان بشكل كامل عن اخيه الانسان. الثورات المتتالية، النهضة الأوروبية وما رافقها من حركة ادبية وفنية، الثورة الصناعية وما صاحبها من قيام لطبقة بورجوازية لها فكرها ومجتمعها، الثورة الفرنسية وانهيار الانظمة الملكية والثيوقراطيات، الثورة البلشفية وسيادة مارد الإلحاد، الحربان العالميتان وفقدان قيمة الانسان الذي بات يُباد كالبرغش بعشرات الآلاف، ثم ثورة الطلاب التحررية في فرنسا عام ۱٩٦٨… كل هذه وما آلت اليه من تفلت واتجار بالجنس والقيم، حوّلت العلاقات بين الناس الى آليات لا حياة فيها ولا عافية: مجرد اتجاه الى من نحتاجه أو لنا مصلحة في صحبته. أليس هذا استمراراً لسقطة آدم التي لعنت الارض وكل ما فيها فباتت الحيوانات التي كانت تألف وجهه تفرّ هاربة منه وبات عارياً يسعى بالأغطية الى شيء من الطمأنينة أو راحة البال فلا يجد لأنه فقد محبته وفقد مصدر سلامه واستقرار.

لا أشاء أن انقض حاجة الانسان في مجتمعاتنا الى وسائل الاتصال، ولكن ما أود تسطيرَه أن هذه الوسائل باتت ناجحة في تستّر الانسان خلف قناع كاذب: يدّعي الانفتاح بينما هو يعتكف على أناه لعجزه عن تخطّي عقدها. الانسان المعاصر يتصل بالجميع ولكنه لا ينجح في لقائهم الشخصي. لا مجال البتة للقاء الوجوه. قد تشاهد من تعرفه على شاشة الكومبيوتر ولكنك تعجز عن ان تجلس إليه لتنظر في عينيه. تتكلم كثيراً مع الناس ولكنك نادراً ما تفتح قلبك لهم، لأنه لا يمكنك أن تأتمنهم على ما في القلب. العلاقات البشرية في مجتمعاتنا غدت هكذا سطحية هامشية. والانسان بات منغلقاً على ذاته غير قادر على تخطي حدود أنانيتها. حتى فضيلة الحب لم تنجُ من هذا الداء. الحب البشري بات ملوّثاً، حبّاً أنانياً خالياً من أي بذل إلا على صعيد القبيلة أو العائلة الصغيرة. نحن اليوم في قريتنا الكونية التي تطال أطرافها أرجاء الكون بأسره ضيّقون أكثر من اي وقت مضى، فالانفتاح الحقيقي إنما يكون في تخطّي حاجز الخطيئة الذي يعرقل الانسان. كلٌّ منّا رازح تحت أعباء آثامه منكمشٌ عليها، وإن أقرّ بها فهو يقرّ بينه وبين نفسه فقط، لأنها من “خصوصياته”، أو يعترف بها “بينه وبين الله” كما يقول. كلٌ منا يحوّل حياته الداخلية الى قدس أقداس لا يلجه أحد ولا حتى المسيح لأن الباب بات مقفلاً بالخطيئة وحب الذات.

“هائنذا واقف على الباب أقرع، يقول الرب، فإن سمع احد صوتي وفتح لي أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي” (رؤ ٣:٢٠)

المسيح يشاء بسر التوبة أن يكسر طوق الانعزال الذي يحيط بنا من خلال الخطايا. هو يدعونا الى أن ندخل في سر الكنيسة من جديد إذ نطرح على عتباتها آثامنا ونلج لابسين حلّة جديدة لنشارك الابن بالعجل المسمّن. فإن المؤمن حين يلتجئ الى الكاهن وينحني بعد اعتراف تحت البطرشيل، يدخل في هذا السر الذي به تنفتح القلوب على نعمة الله وعلىكنيسته، فيتصالح مع السماء ومع الناس ويصير من جديد وارثاً لفردوس آدم المفقود. الانسان يستعيد دالته لدى الله فتصير صلاته مسموعة مقبولة بل إحساناً الى الناس. يخرج من ركود الخطايا القابعة في القلب الى نور جدّة الحياة، ويلتقي مجدداً الاخوة. ولعل هذا اللقاء المحبّ خيرُ دواء وسلوة للنفس المتعبة والرازحة تحت الأحمال. لأنه كما يقول فرويد “أجمل شعور لدى الانسان هو أن يحسّ المرء بأنه محبوب ممن هو يحبّه”. وهذه المحبّة إن تمكنت من تخطي الأنانية كما يذكّرنا الأب يوحنا رومانيدس، فهي تصير شفاءاً للانسان. وإن رقّت بالأكثر تستحيل إيقونة لمحبة الله التي بها يكون كل بذل وعطاء، وكل “تأنٍ ورفق” (۱كور ۱٣:٤)، حتى تصطلح العلاقات الاجتماعية بخلوّها من الريب، وتتشكل بسر التوبة كنيسة المسيح ملكوت الله على الارض. لأن الكنيسة في بعدها الانساني الأعمق، ما هي إلا كما يعرّفها القديس أفرام السرياني “جماعة الخطأة الذين يتوبون”.

الاعتراف علاج للمرض الروحي في الانسان

“ولكن لكي تعلموا أن لابن الانسان سلطاناً على الأرض على ترك الخطايا، حينئذٍ قال للمفلوج قم احمل سريرك واذهب الى بيتك” (متى ٩:٦).

كم هو غريب هذا الأمر الذي يختبره الأرثوذكس في اعترافهم! فإنهم في لقاء مع أب روحي في اعتراف غير طويل يتمكّنون من أن يتخلّصوا من كل اضطراب أو توتر من شأنه أن يعرقل مسيرة حياتهم. بينما ترى الناس في المجتمع يصرفون الساعات والأشهر في الاختلاف الى الأطباء النفسيين، ويعللون النفس بالآمال، ويدفعون المبالغ الطائلة دون أن يحصلوا على اية نتيجة جدية تذكر. إذ إن العلاج في أكثر الحالات يقتصر على لون من التخدير للهوى القابع في الانسان، اي خفض لحدّة التوتر في النفس عبر إيجاد الاشكال الاجتماعية المقبولة للتعبير عما فيها من أهواء معابة (ما يسمى في الطب النفسي تصعيداً). فكأن التحليل النفسي لا يسعى إلا الى إقناعنا بقبول ما في النفس من نزعات وما يسمّيه “تخطياً لعقد”، أي بكل بساطة: الرضى بما نحن عليه من عدم استقامة، ليكون بهذا “سلام الانسان”.

أما في أسرار الكنيسة فالامر يختلف بالكلية. الكنيسة تصرّ على معالجة المشكلة من جذورها. وهذا يتطلب في طبيعة الحال مرشداً روحياً مختبراً وليس اي انسان. لأن الوعي الروحي المصحوب بالجهاد الحقيقي هو السبيل الى تمييز طبيعة الهوى أو مصدر التشويش في النفس ومعالجته بما يوافقه. والخبرة الأرثوذكسية في أن الانسان يتخذ مرشداً يصير له أباً روحيّاً فريدةٌ في العالم المسيحي. فهي ليست مجالاً لتخطي الانسان لكل ذاتية في الحكم في الأمور الروحية فحسب، بل أن المسيحي، كما يوضح القديس سمعان اللاهوتي، يجد في شخص الأب الروحي من يسير امامه ممسكاً بيده ليمهد له السبيل “الى ينبوع المياه الحقيقي ليغسل فيه وجهه ويرحض كل أثر للادناس”.

ولن أتوسع في مناقشة أو شرح ما يوضحه الآباء عن آلية الاضطراب الحاصل في نفس الانسان من جراء خطيئته، والذي يؤدي الى انفصال الذهن عن القلب أي تشظي شخصيّة الانسان، والتشتت في الافكار الأثيمة، ثم جمود القلب وموته. هذا البعد المورفولوجي في المرض الروحي أتركه ههنا جانباً لأقف عند البعد الاجتماعي النفسي والذي هو مرض مَلَكَة الحب في الانسان. فالحب الانساني كما ذكرنا، يصير بالخطيئة أنانياً يتجه به الانسان الى نفسه عوض أن يكون معطاءاً منفتحاً على الله والآخرين. هذه الفيزيولوجيّة المعطّلة لحواس الانسان الروحية هي تماماً المرض الروحي. فالانسان من حيث يدري أو لا يدري يستعمل كل الأشياء بأنانية واستغلال. “أناه” تصير محور الكون. وهذا الأمر، الذي لن يخالفه البتة عالم النفس ألدر، هو جذر كل خطيئة. أمّا صحّة الانسان فتكون في تخطّيه لذاته عبر اتجاهه الى وجه خالقه وتقديمه له السبح النقي والشكران. وهذه الحقيقة الانسانية الروحية عبّر عنها آباء الكنيسة حين عرّفوا الانسان “بالكائن الهيمنولوجي”، أي أن معنى وجوده قائم في أن يكون الله الذي يليق به كل تسبيح محور حياته. فيحيا “بكل كلمة تخرج من فمه” (متى ٤:٤؛ لو ٤:٤۱)، ويجد ذاته المشتتة، حين يتجه الى المسيح، يجد ذاته تلتئم لتشكل صورة الله. وفي صورة المسيح المصلوب ليدفُن الصورة القديمة التي فينا، نجد قيامة صورتنا من الفساد. الانسان حين يعترف، يستدعي النعمة لتجلي أدران النفس وتعيده الى حقيقة صورة الله. وإذ تبدو صورة الله في الانسان من جديد، يعود الله ليتخذ المكانة المركزية في حياتنا، ويصير المسيح “الكل في الكل” (۱ كولوسي ٣:۱۱). وعوضاً عن أن نكون عبيداً رازحين تحت نير الخطيئة وكثافة “الأنا” ننعتق لنصير أبناءاً “وارثين لله بيسوع  المسيح” (غلاطية ٤:٧)

خاتمة

المسيحي المؤمن يتخذ في الاعتراف قوة من العلاء ليحب الله والاخوة. وفي هذه المحبة يجد، في هذا الزمان وفي كل زمان، قدرة على العطاء والخدمة و”احتمال كل شيء” (۱كور ۱٣:٧). فيكون في الوقت نفسه روحيّاً واجتماعيّاً بامتياز. وقد ينال في ذاته قسطاً من قداسة الله، إن استغرق في التّحابّ مع المسيح.

admin:
Related Post