X

بحث في التراث الأرثوذكسي

الانغماس في الملذات

الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس

 

لو تطلعنا بعناية للناس اليوم وللمجتمع المعاصر بوجه عام، فإننا نرى على الفور أنهم خاضعون لهوى محبة اللذة أو الانغماس في الملذات. عصرنا هو عصر طلب اللذة في أقصى درجاتها. للبشر ميل مستمر نحو هذا الهوى الرهيب الذي يدمر حياتهم بأكملها، ويحرمهم من إمكانية الشركة مع الله. يفسد هوى الانغماس في الملذات عمل الخلاص. النفس المنغمسة في الملذات تكون غير جديرة بأن تصبح إناءً للروح القدس، أو لأن تتلقى حضور المسيح داخلها.

هذه المسألة مهمة جداً، وسوف نقوم بتحليل هذا الهوى في الصفحات التالية. سوف نرى كيف يعبر عن نفسه، وسوف نفحص أسبابه ونحاول أن نصف كيف يمكن أن نتخلص ونتحرر منه.

في البداية ينبغي علينا أن نقول أن الانغماس في الملذات هو أحد الأسباب الرئيسية لكل خلل في كيان الإنسان الروحي والجسدي. إنه مصدر كل الرذائل وكل الأهواء التي تعتدي على كل من النفس والجسد. يعلِّم القديس ثيئودوروس أسقف إديسا أنه توجد ثلاثة أهواء عامة تؤدي إلى كل الأهواء الأخرى وهي محبة اللذة، ومحبة المال، ومحبة المديح. تولد الأرواح الشريرة الأخرى من هذه الثلاثة، وبالتالي “من تلك يتولد حشد عظيم من الأهواء وكل طريقة للشر”. حيث أن محبة المال ومحبة المديح تشتمل على اللذة الحسية الكبيرة المتولدة من الثروة والمجد، فإننا نستطيع أن نقول أن الانغماس في الملذات يولِّد كل الأهواء الأخرى. يشوه الانغماس في الملذات قوى النفس.

يشير القديس يوحنا الدمشقي لنفس النقطة. “الجذور أو الأسباب الرئيسية لكل هذه الأهواء هي محبة اللذة الحسية، ومحبة المديح، ومحبة الثروة المادية. يكمن أساس كل شر في هذه”. إن أياً من يريد أن يتحرر من الأهواء، أي تحويلها في الواقع، ينبغي عليه أن يجاهد أولاً ضد هوى الانغماس في الملذات الذي هو الأكثر جوهرية. اللذة هي القوة الدافعة التي توجه النفس. بحسب نوع اللذة التي تدفع النفس، تعمل النفس إما بطريقة غير طبيعية أو بطريقة تفوق الطبيعة. لو أخذنا في الحسبان حقيقة أن اللذة تستعبد النوس أيضاً، فإننا نبدأ في التحقق من آثارها المهمة على خلاصنا.

1- أسماء وتعريفات الهوى

إذ ندرس الكتابات النسكية للآباء القديسين، تواجهنا الأسماء العديدة المعطاة لهذا الهوى بما فيها: اللذة الحسية، والانغماس في الملذات، والحسية، والحلاوة. تعني اللذة الحسية الإشباع أو المتعة التي يشعر بها الشخص عند اختبار شيء ما، بما في ذلك الأفكار. الانغماس في الملذات هو ولعنا بعمل معين، ويشتمل ذلك على محبتنا لموضوع أو فكرة تحقق هذا الإشباع. يمكن أن نقول نفس الشيء تقريباً عن الحسية، التي هي الاستمتاع والابتهاج الذي تشعر به النفس. يقول إيليا القس: “في الواقع يرتكب الشخص الحسي الخطيئة المطروحة على الفكر”. “الشهوة هي مسألة الشر الخاص بالجسد، أما الحسية فهي مسألة تخص النفس”. على حين أن الشخص الشهواني “يكون عرضة بشدة للخطيئة بالفكر” حتى لو لم يخطئ بالظاهر، إلا أن الشخص الحسي “يرتكب بالفعل الخطيئة المقترحة على الفكر حتى لو كان يعاني داخلياً” (إيليا القس). بتعبير آخر، الحسية هي بصورة رئيسية مرض داخلي للنفس يشتهي الخطيئة ويرتكبها داخلياً.

بوجه عام كما سوف نناقش ذلك فيما يلي، يعمل هوى الانغماس في الملذات في كل من الجسد والنفس، ويكون سبب كل فعل خاطئ. الشخص الحسي والمنغمس في الملذات لديه ميل نحو الشر. إنه يفكر باستمرار في السوء ويتسلط عليه الشر. إن نفسه تكون قذرة ومجنونة.

2- أنواع الملذات الحسية

لقد كتب الآباء القديسون أن الأهواء هي اندفاعات غير طبيعية للنفس. إنها ليست مجرد قوى شريرة تخللت النفس وينبغي علينا اجتثاثها. إنها طاقات للنفس مضادة للطبيعة. تشوَه الأعمال الطبيعية للنفس بغواية الشيطان وبإرادتنا الشخصية الحرة. يمكن أن نقول نفس الشيء عن اللذة. اللذة الحسية، كما اختبرها أناس معرضون للأهواء مثلنا، هي لذة طبيعية متحركة في اتجاه غير طبيعي.

يرى القديس مكسيموس أن اللذة لها معنى مزدوج، إيجابي وسلبي. إنه ينظر للمعنى الإيجابي للذة في النص: “إنه يعرف لذة واحدة فقط وهي الاتحاد الزيجي بين النفس والكلمة”، التي هي “اشتياق النوس الطبيعي لله”. تكون مثل هذه اللذة “ضرورية لبقاء الطبيعة البشرية” وهي “نافعة” لاكتساب الفضيلة. إلا أن اللذة تعمل في أغلب الأحيان بطريقة سلبية مضادة للطبيعة. تعمل اللذة بحسب صحة أو مرض النفس، إما بطريقة فائقة للطبيعة أو بطريقة مضادة للطبيعة.

يعطي القديس يوحنا السلمي مثالاً مميزاً. لقد أخبره شخص ما عن نموذج للطهارة غريب ومتطرف. فكتب قائلاً: “رأى رجل إمرأة جميلة فمجد الخالق وبسبب هذه الرؤية وحدها تحرك نحو محبة الله وينبوع من الدموع. لقد كان من العجب أن نرى أن ما يسبب العثرة لواحد يكون سبب الأكاليل السماوية لآخر”.

يعلِّم القديس مكسيموس، بفطنته اللاهوتية المميزة وصحته الروحية، في موضع آخر أن الطبيعة البشرية لا تحتوي بذاتها على العناصر الداخلية لما هو وراء الطبيعة، ولا قوانين ما هو مضاد للطبيعة. إنه يقصد بالعناصر الداخلية لما هو وراء الطبيعة “اللذة الإلهية وغير المعبر عنها التي يحدثها الله بصورة طبيعية في أولئك الذين وجدوا مستحقين للاتحاد به من خلال النعمة”. بتعبير آخر، ليست اللذة الإلهية أو الفائقة للطبيعة مجرد قوة طبيعية للنفس. إنها نعمة يمنحها الله بالنعمة لأولئك المتحدين به.

يوصي القديس يوحنا السلمي أن نلتفت بعناية لئلا تكون الحلاوة الحاصلة في النفس والتي تنمو داخلها “قد أُعدَت بمكر من قِبَل أطباء ساخرين، أو بالأحرى مخادعين”. قد يجلب الله اللذة للنفس، لكن الشيطان يستطيع فعل ذلك أيضاً. حيث أن الشيطان يعمل بمكر خادع وعادة ما “يتحول إلى ملاك نور”، فلا شك أنه أحياناً ما يجلب لذة تبدو روحية لكي يستعبد نوس الشخص ويسرق محبته سراً.

بالتالي، لا ينبغي علينا أن نعطي حتى اهتماماً كبيراً للملذات الروحية طالما أن الأهواء تسود علينا وأننا قد نصبح ضحايا للخداع ولهجمات الشيطان. تكون اللذة الآتية من الله خالية من كل اضطراب داخلي، على حين أن لذة الشيطان، حتى لو كانت جيدة ظاهرياً، تحتوى على عنصر من الاضطراب.

لقد كان آدم مأسوراً بفكرة التأله. هذه الفكرة التي اقترحها الشيطان كانت مصدراً للذة. إلا أنها كانت خادعة وسببت له ألم ومعاناة، وموت روحي وجسدي. هذا هو السبب الذي يجعل الآباء القديسين يقولون أن “اللذة الخاطئة والمخادعة” جلبت السقوط وموت آدم.

ترتبط اللذة بالألم. يتسبب الانغماس في اللذة الحسية، أي اللذة العاملة بطريقة غير طبيعية والموجهة بطريقة خاطئة، في المعاناة والحزن. يوجد بالتالي ارتباط وثيق واعتمادية متبادلة بين اللذة والألم، الحسية والمعاناة. تجلب اللذة المعاناة، وخبرة المعاناة تنفي اللذة. يقول القديس مكسيموس: “تماماً مثلما يتبع الليل النهار والشتاء الصيف، هكذا يتبع الضيق والألم، الآن أو في المستقبل، الكبرياء واللذة الحسية”. يخلق الانغماس في اللذة الحسية الضيق والألم، في كل من الحاضر والمستقبل. كلما انخرط المرء في اللذة الحسية في هذه الحياة، كلما زادت معاناته في الحياة الآتية. من المهم جداً، كما يعلِّم إيليا القس، أن الشهوة والضيق دخلا نفس الإنسان بعد السقوط، ودخلت اللذة والألم جسده. بالإضافة إلى ذلك، “اللذة الحسية هي سبب الألم”.

لقد ذكرنا بالفعل أنه بحسب تعليم القديس مكسيموس “لم تخلق اللذة والألم مع الجسد في نفس الوقت” لكنهما “اختُرِعا” بواسطة التعدي. يكتب القديس مكسيموس نصاً مميزاً قائلاً: “بسبب اللذة غير العاقلة التي غزت الطبيعة البشرية، دخل الألم إليها بواسطة العديد من الآلام. إنه موجود في الداخل ومن هذه الآلام نبع الموت”. جلبت اللذة غير العاقلة الألم العاقل، مما تسبب في الموت الجسدي والروحي للإنسان. يكون الألم والمعاناة التي نشعر بها نتيجة لاختبارنا للذة غير الطبيعية وغير العاقلة. يعلِّم أيضاً القديس غريغوريوس بالاماس أنه، في عالم التعدي وفي حالتنا الساقطة، لا يمكن أن نسمي اللذة الحادثة في إطار زواج شرعي بهدف التناسل “عطية إلهية” لأنها “جسدية وهي عطية من الطبيعة وليست من النعمة، حتى على الرغم من أن الله خلق الطبيعة”.

على الرغم من أن الله خلق الطبيعة، إلا أن اللذة في الزواج المبارك من الكنيسة، على حين أنه ليس محل إدانة، إلا أنها ليست عطية إلهية، لكنها أمر جسدي وطبيعي. بالإضافة إلى ذلك، فإن الطريقة التي يُحبَل بها بالإنسان وطريقة نموه في الرحم وولادته هي “أقمصة الجلد” التي ارتداها بعد السقوط. لم تكن هذه العملية موجودة قبل سقوط الإنسان. لقد أُدخِلَت بعد السقوط وليس قبله.

على الرغم من أن نفس اللذة الحسية تكمن بخفاء داخلنا جميعاً، إلا أننا نستطيع تمييز العديد من الأشكال المختلفة. يقول إيليا القس أن اللذة تثبت نفسها في كل أجزاء الجسد “إلا أنه لا يبدو أنها تزعج كل أحد بنفس الطريقة”. نستطيع أن نقول نفس الشيء عن آثارها على نفوس الناس. إنها تتسبب في خلل جزء النفس الراغب لدى البعض، على حين أنها تتسبب في خلل الجزء الحسي في البعض الآخر، والجزء العاقل في البعض الآخر.

نستطيع أن نصنف اللذة في فئات متنوعة. توجد لذة التفكير والتعقل، ولذة الرغبة، ولذة إنجاز أمر ما. يتمتع بعض الناس بالخيالات والتفكير. هذه هي اللذة الحسية التي للجزء العاقل من النفس. يقع الأشخاص الذين يحبون الكلام عن الله مستخدمين إمكانيتهم العقلية والتفكير البشري تحت هذه الفئة. هذه هي طريقة أخرى لإشباع هوى اللذة الحسية، مما جعل الآباء القديسين يعلِّمون أن علم اللاهوت الحقيقي يأتي من الهدوء والعفة. تكون دراسة حقائق الإيمان بطريقة ذهنية وسيلة للتعبير عن اللذة الحسية الموجودة داخلنا، ولاختبارها. يجد الأشخاص الواقعون في قبضة الأهواء، ولكنهم لا يريدون ارتكاب الخطيئة ظاهرياً بسبب وضعهم الذي يتمسكون به، مخرجاً في الخيالات والتفكير. كما قلنا بالفعل من قبل، وفي التحليل النهائي هذه طريقة للانغماس الحسي.

يوجد أناس يشتهون ارتكاب فعل معين ولكنهم لا يريدون ذلك لأسباب عديدة. تثير هذه اللذة كل طاقات النفس. يكون مثل هذا الشخص أخلاقياً من الخارج، إلا أنه مريض من الداخل. لا يسمح الانغماس في هذا النوع من اللذة للشخص أن يقتني حياة روحية نقية.

إننا نرى في تعاليم الآباء القديسين أنه ينبغي على الصلاة أن ترتبط بكل تعاليم الكنيسة النسكية، وإلا لن تساعد الشخص على التطهر داخلياً. والأكثر من ذلك، أن أولئك المأسورين والمشمولين بهذه اللذة السرية الداخلية لا يستطيعون أبداً عمل اعتراف كامل. إنهم يستطيعون الاعتراف بصدق فقط عندما يتخلصون من هذا الجرح الداخلي.

بحسب تعليم الآباء القديسين، تكون جذور أهواء مثل الهرطقة والإلحاد والكفر كامنة في الجزء العقلي من النفس، وتكون أهواء مثل الزنا والنهم مزروعة في الجزء الحسي من النفس، وأهواء مثل الكراهية والغضب وتذكر الأخطاء تزدهر في الجزء الانفعالي. إننا إذ نضع ذلك في اعتبارنا، ندرك أن اللذة الحسية التي تنمو داخل كل أجزاء النفس الثلاثة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بهذه الأهواء.

لا ترتبط اللذة الحسية فقط بالنجاسة وبما يسمى الأهواء اللحمية، ولكنها ترتبط أيضاً بالهرطقة والكفر وتذكر الأخطاء والإلحاد وما إلى ذلك. يجد بعض الناس لذة في الإلحاد على حين يتمتع الآخرون بكراهية واضطهاد أقاربهم من الجنس البشري. إنها وحش متعدد الرؤوس وليس من السهل تمييزه. يكون من السهل تحديد اللذة الحسية في بعض التعديات الكبيرة والواضحة، إلا أنه يكون من الأصعب إدراكها عندما تكون مرتبطة بالكراهية، أو الكفر، أو الهرطقة. عادة ما يشبع الناس رغباتهم الحسية عندما يحاربون الله، أو يكرهون أخيهم. يكون أيضاً ميلنا لكسب المديح واقتناء الخيرات المادية طريقة خفية للانغماس في اللذة الحسية. إننا نريد المجد، والقوة، والمال لكي نشبع هوى الانغماس في الملذات غير الطبيعي.

ليست اللذة الحسية مجرد حيوان متعدد الرؤوس؛ لكنه أيضاً متميز جداً. فهذا الحيوان لديه طرق عمل خاصة مميزة تجعله ظاهراً وتفضح وجوده، ولكنها تخفيه أيضاً. لن أتوقف طويلاً عند هذه النقطة لأننا تناولناها بالفعل، لكنني أود التأكيد على أنه، بحسب تعليم القديس يوحنا السلمي الذي أثبت أنه معلم للحياة الروحية وكشف كل حركات النفس الخفية، “عادة ما يبدو الخاضعون للذة الحسية متعاطفين، رحماء، ومعرضين باستمرار لوخز الضمير”. هذه العبارة غريبة وتظهر كيف يمكن أن تختفي الأهواء الخسيسة، وخصوصاً محبة اللذة الحسية، وراء الفضائل الظاهرية.

كيف يمكن لشخص رحوم ومعرض باستمرار لوخز الضمير أن يعرف أن لديه هوى الانغماس في الملذات؟ يعلِّم القديس مرقس الناسك قائلاً: “الشخص المنغمس في الملذات يتضايق من النقد والشدائد؛ على حين يتضايق الذين يحبون الله من المديح والتنعم”. عندما يُنتَقَد الرجل المنغمس في الملذات ويُفترى عليه ينزع ثياب الحمل التي للحنو والشعور بالذنب، ويتحول إلى حيوان، إلى ذئب مفترس. الذي يحب اللذة لا يستطيع تحمل الشدائد أو اللوم، على حين أن الذي يحب الله يحزنه المديح والطمع.

admin:
Related Post