X

بحث في التراث الأرثوذكسي

صلاة يسوع

الصلاة الهدوئيَّة

إعداد الأب سمعان أبو حيدر

مقدمة عن الصلاة

الصلاة استراحة للنفس. تحتل الصلاة لدى المؤمن الجهد الأكبر من حياته لأنها تجعله في صلة مع الله مصدر حياته وهدفها. والصلاة يجب أن تكون متواصلة. إن كان الحديث مع الله بتواضع، بإحساس النفس عميق، بإحساس بخطيئتها عندئذٍ لا تكون الصلاة عبئًا على الإنسان بل تريحه خاصة إذا كانت هكذا قلبية.

دراسة الكتاب المقدس تساعد كثيرًا لهذا النوع من الصلاة لأن مطالعة الكتاب تُدخل الدفء إلى النفس وتنقل المصلي إلى أجواء روحية. يؤكد لنا الرب يسوع في الإنجيل “إن كل ما تطلبونه في الصلاة فآمنوا أنكم قد نلتموه فيكون لكم”(مر 11: 24). يقف فيها الإنسان أمام الله بالذهن بأعماق كيانه دون أن يستخدم الصور والتخيّلات. يقول القديس سلوان الآثوسي في هذا الصدد: “لا بالتخيلات والصور الممزوجة مع الفكر، لا بالوعي العقلي حيث يشترك الإدراك فقط، بل بالفكر والقلب معًا مع انسحاق وتوبة وإحساس بمحبة الله”.

يشهد الكتاب المقدس على مثل هذه الصلاة في حياة المسيحيّين الأولى. نقرأ في أعمال الرسل “هؤلاء كلّهم كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة مع النساء ومريم أم يسوع ومع أخوته”(أع 1: 14). وبولس الرسول يذكّر: “مصلّين بكل صلاة وطلبة كل وقت في الروح وساهرين لهذا بعينه بكل مواظبة وطلبة لأجل جميع القديسين”(أف 6: 18).

نحن نجد في الكتاب المقدَّس أن كل إعلان إلهي كان يُنظر إليه كظهور إلهي، كفعل الله المباشر. وجنبًا إلى جنب مع ذلك كان الاسم يحوي قوّة مزدوجة—حسًا بالإله الحيّ من جهة—ومعرفة به من جهة أخرى. من هنا الخوف من “نطق اسمه باطلاً” (خر 20: 7). فالاسم يسوع يدلّنا، أولاً وقبل كل شيء، على سبب مجيء الله في الجسد “لأجل خلاصنا”. ففي أخذه طبيعتنا يشير الله إلى أنه بإمكاننا، نحن أيضًا، أن نصبح أبناء الله.

ممارسة صلاة يسوع

“أيها الرب يسوع المسيح ارحمني”—هذه هي العبارة التي نرددها عادة وفي صيغتها المطوّلة نقول:”أيها الرب يسوع المسيح يا ابن الله ارحمني أنا الخاطىء”. تقوم هذه الصلاة على استدعاء الاسم، اسم يسوع، بصورة متواصلة مما يعطي الصلاة قوّتها. القوة تأتي من الاسم ومن استدعائه بصورة متواصلة. الاسم هو قلب الصلاة، يمكن لنا أن نقول “يسوع المسيح” أو نقتصر على اسم “يسوع”. عادة نردّد الصلاة مسموعة لكن يمكننا أن نردّدها بالفكر. عندما يتعب اللسان يلتقطها الفكر وعندما يعتاد الفكر عليها ينزلها إلى القلب ليجتمع الفكر مع القلب فيصبح الإنسان كلّه يردّد الصلاة، يصلّي كيانه كله من كل قلبه وذهنه وفكره.

ما يجعل هذه الصلاة عمليّة هو أننا نستطيع أن نردّدها في كل حين وفي كل مكان، في الغرفة، في البيت، على الطريق، في المكتب وفي الكنيسة… يمكن أن نصلي ونحن ماشين، واقفين أو جالسين ولكن ليس نائمين. على المبتدئين أن يختاروا في البداية أماكن هادئة وأوقاتًا معينة. هناك إذًا ممارسة مركزة ومبرمجة لصلاة يسوع (هذه الممارسة تدعى قانونًا مثلاً عند الرهبان) وهناك ممارسة حرّة تتم في كل وقت وفي كل مكان.

إن صلاة يسوع لها قوة كبيرة إلى حدّ أنها تفعل حتى في اللاوعي. بهذا المعنى نفهم عبارة نشيد الأناشيد “أنا نائم وقلبي مستيقظ”(نش 5: 2 ). هكذا بفضل رحمة السيّد الغزيرة يحيط اسمه بهالة من الفرح والحرارة والنور “اسمك عطر مهراق… فاجذبني”(نش 1: 3-4). لا تتعارض صلاة يسوع مع الصلوات الليتورجية مع العلم أنه في بعض الأحيان يمكن لها أن تحلّ مكان صلاة الغروب والسحر والساعات ما عدا القداس الإلهي. ميزتها أنها تبسِّط حياتنا الروحية (تجعلها بسيطة غير معقدة) وتوحدّها. كل من يصلي صلاة يسوع يتَّحد بالمسيح عن طريق الصلاة وبه وفيه يتحد بأعضاء الكنيسة الجامعة. يتجاوز الانقسامات البشرية. استدعاء اسم يسوع طريق إلى الوحدة المسيحية. “لكن تأتي ساعة وهي الآن حاضرة” يقول يسوع للسامرية (يو 4: 23). أتت الساعة لأن يسوع حاضر. “أنا هو القيامة والحياة”، يقول يسوع لمرتا في حادثة إقامة لعازر الرباعي الأيام (يو 11: 25). هي تساعدنا أيضاً أن ندخل في صلة مع أمواتنا. حياتهم الحقيقية هي في يسوع المسيح، في اسم يسوع نتصل بالقديسين “واسمه على جباههم”(رؤ 22: 4). “كل شيء يجمع في المسيح”(اف 1: 10).

الاسم يسوع كامل، حضور شامل. عدسة تستقطب نور يسوع الساطع. اسمُ الذي هو نور العالم، يساعدنا على إضرام النار في القلوب “جئت لألقي ناراً على الأرض”(لو 12: 49)، لنصبح إناءً مختارًا. فيقول لي المسيح كما لشاول “لأن هذا لي إناء مختار ليحمل اسمي” (أع 9: 15). القديس غريغوريوس بالاماس (1296 – 1359) تكلم عن النُّور غير المخلوق والتمييز بين الجوهر والقوى. كل ذلك نتيجة خبرة صلاة يسوع. الصلاة أو الهدوء متَّصل بالإيمان القويم، بالأعمال الصالحة وبأعمال الرحمة. ترتبط أيضًا بقراءة الكتاب كما ذكرنا، بالسهر وبالصوم ونظام الطعام، إلى حدّ تستطيع فيها النفس أن تقول مع نشيد الأناشيد “لقد جرح قلبي بالعشق الإلهي “.

“يا ربي يسوع المسيح، يا ابن الله، ارحمنا وارحم عالمك”—لقد أُعطي لنا اسم يسوع بكشف من العلى. وهو ينبثق من المدار الإلهي الأزلي وليس بأي شكل من الأشكال نتاج عقل أرضيّ، رغم أنه يعبّر عنه بكلمة بشريَّة يوميَّة. الكشف فعل وهو طاقة الألوهة، وينتمي بحدّ ذاته إلى مدار آخر يتخطّى الطاقات الكونيَّة. وفي مجده السماويّ اسم يسوع يفوق الكون ويسمو عليه.

إن من يؤمن بأن وصايا الإنجيل أُعطيت من لدن الإله الواحد الحقّ يستنبط قوَّة من هذا الإيمان بالذات لكي يحيا على صورة المسيح. إن صلاة يسوع في جوهرها هي أرقى أنواع الصلاة في شكلها الخارجيّ، ولكن عمليًا، بسبب عدم تمكننا من الاستمرار فيها لوقت طويل “بذهن نقيّ”، يستعين المؤمنون بـ”المسبحة”. هكذا باسم يسوع المسيح يصير ممكنًا أن نغطّي كل حدث داخلي أو خارجي. وهكذا تصبح هذه الصلاة العجيبة شاملة جامعة.

الهدوء القلبي والصمت في الصلاة

إن لفظ هدوئيّ يعني في الأصل الناسك أو الراهب الذي يعيش في عزلة، لا وسط جماعة رهبانيّة. من هذا المنطلق، تُفهم الهدوئيّة على أنها حالة وجدانيّة داخليّة. أما أعمق معاني الهدوئيّة فهو”العودة إلى الذّات”. فالهدوئيّ، بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، ليس هو من يمضي الوقت خارجًا في الصحراء، بل هو المسافر داخليًا في قلبه الخاص. ليس الهدوئيّ من ينقطع جسديًا عن الآخرين، مقفلاً باب صومعته، بل إنه من “يعود إلى ذاته” مقفلاً باب نفسه. ولئن كان الهدوئي متوحدًا يعيش في الصحراء، إلاَّ أن الوحدة ليست مكانًا جغرافيًا بل حالة روحيّة. فالصحراء الحقيقيّة موجودة في عمق القلب.

الابتعاد عن الناس، والتزام الصمت، والعزلة: هذه هي درجات الهدوئيّة الثلاث. الدرجة الأولى مكانيّة، وهي “الابتعاد عن الناس” خارجيًا وجسديًا. الثانية خارجيّة وهي “الصمت” أي الامتناع عن الكلام. ومن أجل التوصّل إلى الراحة الداخليّة الحقيقيّة لا بدّ من العبور من الدرجة الثانية إلى الدرجة الثالثة، أي من الهدوئيّة الخارجيّة إلى الهدوئيّة الداخليّة—إلى ما يدعوه القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلانو (+ 397) “الصمت الفاعل والخلاَّق”.

إذًا، الهدوء القلبيّ يعني الانتقال من صلاتي أنا إلى صلاة الله الذي يعمل فيَّ أو، الانتقال من الصلاة “المرهقة” و”الصارمة” إلى الصلاة “العفويَّة” والمتدفّقة”. والصمت الحقيقيّ أو الهدوء القلبيّ هو، في معناه الأعمق، مطابق لصلاة الروح القدس غير المنقطعة فينا. وكما يقول القدّيس إسحق السريانيّ: “عندما يسكن الروح القدس في إنسان ما فإنّ هذا الإنسان لا يكفّ عن الصلاة لأنّ الروح القدس يصلّي فيه طوال الوقت. فسواء نام هذا الإنسان أو استيقظ، ومهما فعل، لا تفارق الصلاة نفسه، سواء أكل أم شرب أم خلد إلى النوم، وحتى في سباته العميق، فإنّ روائح الصلاة العطرة تفوح في قلبه ومنه دون عناء”.

إن استدعاء اسم يسوع يساعدنا على أن نركّز حول نقطة واحدة شخصيّتنا المفكّكة. فاستدعاء اسم يسوع باستمرار يساعدنا على تسليم أمرنا لله والابتعاد عن الثرثرة المتواصلة. هكذا تستطيع صلاة اسم يسوع أن تُحلّ الهدوئيَّة في القلب، وينتج من ذلك أنّ ذكر اسم يسوع يجب أن يتبع إيقاعًا معينًا ومنظمًا من أجل بلوغ الهدف المنشود. ويجب أن يكون هذا الذكر مستمرًّا من دون انقطاع قدر المستطاع، فبعض العناصر الخارجيَّة كمسبحة الصوف والتحكّم بحركة التنفّس، تساعد على تحقيق هذا الإيقاع المنتظم. ثمّ خلال تلاوة الصلاة، يجب أن يكون الفكر خاليًا من كلّ تخيّل عقليّ.

الخلاصة

ليست قضية صلاة يسوع في تاريخها بل في ممارستها، فهي لم تزل حيّة خاصة في الشرق المسيحي. هي وديعة من تراثنا المقدّس، كنز ثمين لا يقدّر. كل مصلّ يمكنه أن يعتاد عليها أن يستفيد من ثمارها. حسبنا أن نقرع باب رحمة الله. سيفتح لنا المسيح الإله. إن أحببناه كثيرًا أعطانا كثيرًا فلنقل إليه بحماس. هو يعطينا وصياه الخلاصية، وممّا قاله لنا في ما يختص بالصلاة باسم يسوع: “مهما سألتم باسمي فذلك أفعله ليتمجد الآب بالابن إن سألتم شيئاً باسمي فإني أفعله”(يو 14: 13-14) و”الحق الحق أقول لكم إن كل ما طلبتم من الآب باسمي يعطيكم. إلى الآن لم تطلبوا شيئاً باسمي. أُطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملاً”(يو 16: 23-24).

الهدوئيَّة طريق مفتوح للجميع: الأمر الوحيد الضروريّ هو الصمت الداخليّ لا الخارجيّ. وعلى الرغم من أنّ هذا الصمت الداخليّ يفترض “أن نقصي في الصلاة” كلّ تخيّل أو تصوّر في الصلاة، فالنتيجة النهائيَّة لهذا الرفض هي “أن نؤكّد”، وبحيوّية جديدة، لكلّ شيء ولكلّ شخص، قيمته النهائيَّة في الله؛ ذلك أن الطريق السلبيَّة هي في الوقت عينه “تأكيدًا” ولكنَّه متطرّف. والدليل على ذلك الروايات الموجودة في كتاب “سائح روسي على دروب الربّ”. فالفلاّح المجهول، بطل الرواية، يكتشف أنّ ترداد اسم يسوع بلا انقطاع يمنح علاقته بالخليقة الماديّة شكلاً جديدًا، ويجعل كلّ الأشياء شفّافة إذ تتحوّل إلى سرّ الحضرة الإلهيَّة.

يقول القدّيس إسحق السوريّ إنّ اقتناء طهارة القلب أفضل من محاولة هداية الأمم. وهو لا يريد بهذا أن يحتقر العمل الرسوليّ بل أن يقول إنّ الإنسان، ما دام لم يتوصَّل إلى درجة معيَّنة من الهدوء الداخليّ، فنجاحه في هداية أيّ إنسان يبقى ضعيف الاحتمال. وهذا ما يعبّر عنه الأنبا موسى (تلميذ القدّيس أنطونيوس الكبير)، بقوله: “لأنَّهم مارسوا الهدوئيَّة بعمق أولاً، امتلكوا قوة الله الساكن فيهم؛ وعندئذ أرسلهم الله بين البشر”.

admin:
Related Post