X

بحث في التراث الأرثوذكسي

في اقتدار شفاعة القديسين

( القديس جاورجيوس)

نقلته عن اليارونديكون اليوناني

راهبات دير القديس يعقوب الفارسي المقطع، دده

 

حوالي عام 1849، ترك الشاب الورع جاورجيوس موطنه كابادوكية، موجهاً طرفه ناحية الجبل المقدس، بغية السجود للأماكن المقدسة والصيرورة راهباً. منذ الطفولية، نمت في قلبه عاطفة خاصة نحو القديس جاورجيوس، وإيمان مطلق بحماية شفيعه الشهيد العظيم.

بعد جولة طالت سائر الأديرة استقر به المقام في دير القديس بندلايمون، حيث طلب الانضمام الى الشركة أسوة بالعديد من مواطنيه، الذين أصبحوا رهباناً فضلاء هناك. قُبل كطالب رهبنة، وأوكل إليه أمر الاعتناء بالقلاية التابعة للدير في كارياس عاصمة الجبل.

تميز راهبنا الشاب بتقوى عميقة، فكان يتمم فروضه اليومية بانتظام واجتهاد، مما حدا بمشيخة الدير أن تقرر منحه الاسكيم الكبير، وذلك بعد سنتين أو ثلاث من قدومه الى الدير. فأبرز نذوره تحت اسم إواصاف، وأُرسل مجدداً الى خدمته السابقة في كارياس.

***  مضت سنوات عدة والراهب إواصاف مجدٌّ في سعيه، يحفظ قانونه اليومي ويشترك في الأسرار المقدسة… إلا أن الإهمال بدأ بعد ذلك يدب الى نفسه شيئا فشيئا دون أن يلحظ هو ذلك. لم يعد يقوم بمتطلبات الحياة الرهبانية، ولا حتى بمتطلبات الحياة المسيحية. ففقد حرارته الأولى وهجر صلاته هجرا كاملا تقريبا، ولم يعد يذهب حتى الى القداس الإلهي ليشترك بالمناولة المقدسة.

مع مرور الوقت، رجع الأخ إواصاف الى نفسه، واشتهى العودة الى سابق عهده. لكنه لم يركن الى مشورة أحد، بل كان ينفذ مشيئته الخاصة صالحة كانت أم طالحة. مما جعل الحزن يعصره، واليأس  يسيطر عليه، ولم يعد يدري أين وكيف يجد مخرجا.

لكن إلهنا الكلي صلاحه، والذي لا يشاء موت الخاطئ إلى أن يرجع ويحيا، فمن أجل نية الراهب إواصاف الحسنة، ومن أجل علاقته الحميمة بالقديس جاورجيوس، أراد أن يظهر له رأفته تعزية له، عله يستعيد نشاطه في ممارسة الفضيلة ثانية. لذا دبر له هذه الرؤيا:

في سنة 1854 كان الراهب إواصاف ما يزال في كارياس في مقر دير القديس بندلايمون. في ذكرى القديس جاورجيوس أقيمت سهرانة للمناسبة في القلاية. بدافع من الكسل والاهمال، ترك الاخ إواصاف الكنيسة قبل نهاية خدمة الغروب وذهب الى غرفته ليرتاح. وفي آخر خدمة السحر، عند ترتيل الذكصولوجيا ( المجد لله في العلى…)، عاد الى الكنيسة وجلس على مقعد في النرثيكس (مدخل الكنيسة )، وشرع يتأمل في سر تجسد السيد المسيح قائلا في نفسه: “إن الله خالق الكل، الذي جبل الإنسان بيديه، قد ارتضى ان يتجسد ويصبح إنسانا، ويُشتم، ويُصفع، ويكابد أفظع ميتة معلقا على الصليب، ويموت كإنسان، ومن ثم ينهض كإله كليّ القدرة في اليوم الثالث. لقد سُرِّ أن يقوم ويحرر الجنس البشري من الهاوية المخيفة، ويُدخله مجددا الى الفردوس، إلى ملكوت السموات. آه يا لها من محبة عظيمة للبشر يبديها الله نحونا “.

فيما هو مفتكر في هذا كله، امتلأ قلبه فرحا واغرورقت عيناه بالدموع. سكنت أفكاره وبدأ ذهنه يتحرك من تلقاء ذاته، فأخذ يردد برغبة جامحة صلاة يسوع بتواتر ( ربي يسوع المسيح يا ابن الله ارحمني أنا الخاطئ ). فشعر في قلبه بمحبة تجاه كل أخ له في البشرية، محبة عظمت جدا حتى شملت الخليقة بأسرها. كما غمر الاتضاع روحه، فتعجب من محبة الله وتنازله الإلهي تجاه بني البشر.. لم يعد الراهب اواصاف يجد له راحة على الأرض، فاشتهى أن يطير ويستريح قرب الله، لأن قلبه قد اشتعل بنار العشق الالهي.

بعد هذا ظن الأخ اواصاف أنه خرج من الكنيسة، فرأى روحه تغادر جسده، ووجد نفسه أمام سهل جميل يمتد الى ما لا نهاية. كما شاهد حشدا من الناس يتحرك في الأفق البعيد. أمعن الراهب النظر فرأى أنهم كانوا كلهم شبانا، ذوي جمال اخاذ يلمعون كالشمس ويسيرون ببطء وانتظام.

“في بيت أبي منازل كثيرة”

امتلأ الأخ اواصاف فرحاً عظيماً، وتعجب كثيراً من وجوده في هذا المكان، وتساءل: ” مُلك مَن يكون هذا البستان الرائع المغروس بالأشجار الجميلة؟ ومن يكون هؤلاء الناس الذين يقيمون فيه؟” فتذكّر القول الإنجيلي “في بيت أبي منازل كثيرة”.

وإذ كان غارقا في تفكيره، اجتاز اولئك الأشخاص وتقدم أكثر فأكثر، فرأى بعد قليل جمعا آخر أكبر من الأول. هؤلاء أيضا كانوا شبانا شجعانا يضيئون كالشمس بثيابهم العسكرية.

لبث الأخ اواصاف هكذا ساعات عديدة يتأمل جمالهم بمنتهى الإعجاب، سابحا في بحر من الغبطة والسرور. إذ ذاك سمع صوتا يقول: ” إن أخانا هذا يبغي الذهاب الى المملكة، وكما تعلمون يجب أن يقوده أحدنا إلى هناك “.

فتقدم واحد من أولئك الشجعان، وكان يمتاز عن رفقائه ضياء، كما يمتاز القمر عن سائر النجوم وقال: ” أنا وحدي سأقود الأخ إواصاف الى المملكة. لأنه يحفظ لي مكانة خاصة في قلبه ويلهج  باسمي ليل نهار “. ثم اقترب ذاك الشاب المتلألئ من الراهب اوصاف قائلا: ” اتبعني لأوصلك الى الملكوت “.

اشتد ذهول الأخ  إواصاف  وتفكر في  نفسه: ” من  يكون هؤلاء

الناس الذين لم أرهم من قبل في حياتي؟ وكيف يدّعون معرفتي؟ إلى أية مملكة سيأخذونني؟ “. واندفع يسأل مرافقه: ” من أكون أنا لأدخل الى المملكة، وماذا سيفعل الملك من أجلي؟ من يكون هذا الملك ومن أين يعرفني؟ “.

فأجابه ذو الطلعة الملائكية: ” يا أخي، كيف تدّعي انك لا تعرف من يكون الملك ومن أكون أنا؟ ألم تعرفني، رغم محبتك الكبيرة لي ودعائك المستمر باسمي؟ قد جئت لأوصلك الى الملك، فهيا اتبعني لنذهب بأسرع ما يمكن الى مملكتنا “.   

دنا الراهب من الشاب وتبعه متحيرا من فيض المحبة والاهتمام الذين يبديهما نحوه، لكنه لم يجرؤ أن يسأله مجددا من يكون بل قال في نفسه: ” لا بد لي من معرفة هويته أخيرا “.

استمر الإثنان مجدّين في سعيهما في ذلك السهل الممتنع وصفه، ولما بلغا نهايته وجدا نفسيهما أمام طريق ضيق وطويل جدا تحيط به الاسوار العالية. كان المكان موحشا، فاضطرب الراهب وارتعدت فرائصه.

علينا دائما أن نتلو الصلاة

لاحظه قائده يرتجف خوفا، فتوجه إليه بوجه بهج قائلا: ” يا أخي، لماذا تسمح للإهمال أن يسودك، ولذهنك أن يتشتت هنا وهناك؟ لماذا لا تثابر على الهذيذ بالاسم الإلهي الذي لسيدنا يسوع المسيح؟ ألا تعرف كم من الخسارة يتعرض لها ذاك الذي يهمل صلاة يسوع، وينسى ان يتلوها مع كل نفس من أنفاسه؟ وكم من الربح يجني ذاك الذي يهذ دائما بالاسم المخلص الذي لربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح؟

إن الانسان الذي يتلو هذه الصلاة يتحرر من الأهواء والخطايا، ويغدو مسكنا للثالثوث القدوس، وهكذا يبلغ الى المحبة التي هي غاية الأماني. وها أنت قد تذوقت جزءا منها، وبصلاح الله عرفت حلاوتها وثمارها الشهية. لمَ تهمل عملك إذا؟ إلى متى ستبقى غارقا في نوم التواني ولا تنهض من سبات الخطيئة؟ تذّكر تقواك وسيرتك الأولى وغيّر سير حياتك. ألم يسبغ الله عليك نعمته لتفهم ما هو الصالح وتتبعه؟ ألم تجعل من العذراء مريم الكلية القداسة وسيطة لك للخلاص؟ “

عند سمعاع هذا الكلام تخشع قلب الراهب اواصاف وابتدأ بتلاوة صلاة يسوع. وبقدر ما كان يرددها، بقدر ما كان قلبه يتحرك بمحبة الله. فتلاشت كل الأفكار التي كانت تسبب لذهنه الاضطراب، وتحرر من جبنه، وتمنطق بقوة إلهية.

نظر اليه مرشده بلطفه المعهود وأضاف: ” أترى كيف أمسيت أفضل حالا؟ إن أردت أن تخلص فلا تنزع هذه الصلاة لا من فمك ولا من ذهنك ولا من قلبك، إذ بواسطتها تكتسب ذهنا نقيا وقلبا مفعما بالعشق الإلهي، وتعاين اسرار الله. لكن احرص على أن يكون لك أولا اعتراف دقيق أمام أبيك ومرشدك الروحي بكل ما يحصل معك خلال يومك “.

بعدما فرغ مرشده من كلامه هذا، أخذ يسير قدما في طريق أضيق من الأول، وقد تعلقت على أسواره عدة صلبان. ولكي يشير القائد الى الطريق الذي عليهما اتباعه رسم إشارة الصليب ثم أردف قائلا: ” لصليبك يا سيدنا نسجد ولقيامتك المقدسة نمجد “. وطلب من الأخ إواصاف أن يحذو حذوه.

الجسر المعلق فوق الهوة

وبعدما قطعا مسافة لا بأس بها، وصلا الى الجهة المقابلة حيت تكثر المنحدرات الوعرة، ويهيمن خوف صادر عن وجود هوة سوداء عميقة مترامية الأطراف، وكأني بها محيط كثيف الظلمة لا حدود له.

في الأفق البعيد، ما وراء هذه الهوة، ظهر جبل عال يكاد رأسه يطال السماء. وفوق الهوة تعلق جسر مرعب، كان عبارة عن خشبة واحدة مستديرة لا يتعدى عرضها الشبر. طرف الجسر الواحد ثبت هناك حيث ينتهي الطريق الضيق، أما طرفه الآخر فقد ربض عن قدمي ذاك الجبل المرتفع. ولما كان الهواء ينفخ كان الجسر يتحرك وكأنه ورقة شجر تعبث بها الريح.

استحوذ الرعب على الأخ اواصاف عندما علم بوجوب اجتياز ذاك الجسر لبلوغ الجبل. لاحظ قائده ذلك وعرف أن خوفه ناتج عن اهماله الصلاة فقال له مجددا: ” أعطني يدك يا أخي، وردد الصلاة بلا انقطاع، دون أن تفكر بأي شيء آخر “.

وهكذا سار الأخ إواصاف دونما وجل فوق الجسر. وما إن وصلا الى منتصفه حتى بادره مرافقه بالقول: ” هنا عليك أن ترسم إشارة الصليب، وأن تدعو اسم والدة الاله الممتلئة نعمة، إذ إن لاسمها في هذا المكان قوة عظمى “.

أطاع الاخ الأمر راسما إشارة الصليب وداعيا : ” أيتها الفائقة القداسة والدة الاله ساعديني أنا الخاطئ “. يا للعجب! ماذا حدث؟! لقد أحس أخونا، للحال، وكأنه تزود بقوة غريبة وتمنطق بشجاعة فائقة، فهرب من نفسه كل أثر للخوف رغم ان الجسر كان يرتجف كالورقة. استغرق مسيرهما فوق الجسر ساعات عديدة وصلا بعدها الى سفح الجبل. إلا أن مرشده رغم ذلك استمر ممسكا بيده وهكذا تابعا سيرهما غير منفصلين.

بدا صعودهما الجبل صعودا صعبا، إلا إنه كان مفرحا بسبب وجود أشجار الزيتون النضرة والعديد العديد من الأزهارالجميلة التي سيجت طريقهما يمينا ويسارا.

وفي أعلى القمة كان ينتظرهما باب كبير مفتوح على مصراعيه، فرشما نفسيهما بعلامة الصليب ثلاث مرات ثم دخلاه، فرأى الأخ إواصاف سهلا عظيما جدا نورانيا، كأنه احد الأجرام السماوية يمتد أمام ناظريه. كان أكبر من ذاك الذي صادفه في بداية الطريق. إن الكلمات تعجز مقصرة عن رسم صورة جمال هذا السهل لأنه لا يشبه أي شيء أرضي. فلا قلم يستطيع وصفه. ولا عقل يستطيع أن يدرك ما رآه الأخ إواصاف. لأنه بمقدار ما كانا يمضيان قدما، بقدر ما كان يشتد سبي عقله بسبب تناغم المكان وحلاوته، فاشتهى المكوث هناك الى ما لا نهاية.

خلال مسيرهما صادفا الكثيرين من الأشخاص في ثياب رهبانية، غير انها لم تكن سوداء بل ضاربة الى الحمرة، لامعة كالنور، وكانت وجوههم تتلألأ كالشمس. البعض منهم كانوا شبانا يافعين والبعض الآخر متقدمين في السن. إلا انهم كانوا يتمتعون كلهم بجمال واحد أخّاذ. ولما دنا منهم الأخ إواصاف، مع مرشده، استقبلوهما بفرح وعانقوهما بمحبة كبيرة متوجهين نحو المرشد وقائلين: ” افرح أيها الشهيد العظيم جاورجيوس، افرح يا حبيب المسيح “. أما هو فأجابهم بدوره: ” افرحوا انتم أيضا أيها الأبرار، يا أحباء المسيح “.

تعليم عن تفاهة العالم وذكر الموت

بعد هذا استداروا نحو الأخ إواصاف قائلين: ” يا أخانا، ماذا ينتفع الإنسان إذا ربح العالم كله وخسر نفسه؟! هبْ أنك عشت مئة أو مئتي أو حتى ألف سنة، وتمتعت بكل الخيرات الأرضية الخداعة، وجمعت كل الذهب والفضة والأحجار الكريمة والدرر. فهذا لا يغنيك عن مواجهة ساعة الموت، ساعة خروج روحك من جسدك. عندها ماذا تنفعك هذه التي اقتنيت: البيوت، القصور، الثروات، الألقاب والرتب العالمية والعسكرية وحتى الكنسية منها؟ لا تستطيع واحدة من كل هذه أن تساعدك أو تنفعك في تلك الساعة. لذا يا أخانا، دع عنك الإهمال، وعدْ إلى حياتك الفاضلة الأولى التي كانت مفعمة تقى وورعا وتواضعا، لكي ترضي الله، وتستحق أن تأتي إلى هذه الحياة المغبوطة، التي استأهلت أن تعاينها بواسطة شفيعك المعظم في الشهداء جاورجيوس الذي أحبك كثيرا، وأتى بك لتشاهد بهاء الفردوس الذي يهبه سيدنا يسوع المسيح لأولئك الذين، لأجل محبته، حرموا أنفسهم من الخيرات الوقتية الكاذبة، التي سيتركونها يوما ما شاؤوا ام أبوا.

يا أخانا، يا ابن المسيح، لا تفضل الزمنيات على الأبديات. لا يسودنّك الإهمال والكسل فتستهين بجهادك الروحي الذي سيملأك من محبة المسيح. لا تؤثر محبة العالم الكاذب التي ستقودك الى الخطيئة والتي، بدورها، ستفضي بك الى الجحيم، وترمي بك في حضن رئيس الشر، الشيطان، حيث تحترق أبديا في تلك الظلمة. لا يحق لك أن تحيا هكذا، لا أنت ولا أي مسيحي آخر. فإن السيد قد اشترانا بدمه الكريم الكلي القداسة الذي أهرقه على الصليب. لاتُحزن إلهَنا المخلص والفادي وتُسِّر الشيطان مدمر حياة البشر ومهلك النفوس.

إن شئتنا ان لا نكف، نحن ايضا، عن التضرع الى الإله المثلث الأقانيم من أجل خلاصك وخلاص سائر البشر إخوتك، أصلحْ سيرتك لترضي الله وإيانا، نحن الذين نحب كل البشر ونريدهم أن يرثوا ملكوت السموات.”

ثم توجهوا الى مرشد الراهب إواصاف بقولهم: ” يا جاورجيوس، يا حبيب المسيح وحبيبنا، خذ على عاتقك الاهتمام بهذه النفس لتمثل أمام ملك الكل لأن دالتك عظيمة أمامه “.

في هذه الأثناء عرف الأخ إواصاف قائده بأنه شفيعه القديس جاورجيوس، وتذكر كلامه في بدء لقائهما ” أنا من سيقودك لأنك تحبني محبة خاصة “. كما تذكر أيضا كيف أنه عند وصوله الى الجبل المقدس بغية الترهب، كان قد جعل من القديس نفسه وسيطا عند الله لأجل خلاصه. وكم من المرات جرت معه عجائب عديدة عندما كان يدعو باسم الشهيد. فأحس عندئذ بمحبة روحية فائقة تغمر روحه فاقترب من مرشده وعانقه طويلا.

رتبة أخرى من الرهبان تسمو على الأولى

في ذلك السهل الكلي جماله صادفا جمعا آخر من الرهبان يشبهون الأولين إلا انهم كانوا أقل عددا إنما أكثر مجدا. فدار بينهما هذا الحوار:

– يا قديس الله، من هم هؤلاء؟ وما هي مآثرهم في الحياة حتى انهم ينعمون بمجد أكثر من أولئك الرهبان الذين رأيناهم اولاً ؟

– يا أخي، هؤلاء هم الرهبان الحاليون، رهبان هذا العصر الذين يجاهدون بملء اختيارهم رغم عدم وجود مرشد يقودهم ، مقلدين حياة الرهبان الأوائل ومرضيين لله كما أولئك تماما. لذا مُجدّوا هنا أبديا.

– في أيام كهذه زال فيها كل أثر للفضيلة، هل وجود مثل هؤلاء المختارين في العالم ممكن بعد؟

– إن هؤلاء المختارين قليلون جدا في هذه الأيام. بيد أن كل من يمارس ولو أصغر الفضائل ويحتمل، حسب استطاعته، أخاه ولا يدين أحدا، يرضي الله ويُدعى عظيما في ملكوت السموات.

وحيث أنه قد ضاع المثال الصالح ولم يبق إلا المثال السيء، فقد تكاثرت الأنانية وتعظم المعيشة والفساد والوقاحة، واضمحلت الحقيقة وساد الكذب. تفاقم الظلم وأفرخت كل أنواع الفسق والمكائد، ولم تعد افواه البشر وقلوبهم تلهج باسم الله، لذا أنى توجهت صادفت الشر أمامك.. فُقدت محبة الانسان لأخيه الانسان، وحلّ محلها الحسد والكراهية وبقية الأهواء الاخرى المشابهة. وكذلك قلْ عن الرحمة والحق والاهتمام بالاخر.

بناء على ما تقدم، قليلون جدا هم العاملون بالفضيلة اليوم. إنهم يمارسونها بسبب صلاحهم الخاص ونيتهم الخالصة. هؤلاء يكافأون أبديا، ويمجَّدون من قِبل إلهنا الكلي صلاحه أكثر من أولئك القديسين القدماء، الذين كانوا ممتلئين إيمانا حارا، ولم تتسنى لهم مواجهة الشر وجها لوجه، كما هو حاصل اليوم.

لذا كل الذين يؤثرون خلاص نفوسهم، وبالأخص أولئك الذين، لأجل محبة المسيح، تركوا العالم وخيراته الآنية، واعتنقوا حياة الرهبنة المثالية، عليهم أن يقرنوا الصلاة بذكر الموت. يجب أن لا تغيب صلاة يسوع عن شفاههم بل أن تكون متحدة بنفسِهم. كما عليهم أيضا أن يدعو اسم السيدة والدة الإله مع جميع القديسين ليل نهار، لكي يتوسطوا في خلاص نفوسهم، لأن ” وسائل الأم تستطيع كثيرا ان تستعطف السيد.” و ” طلبة الصدّيق تقتدر كثيرا في فعلها “.     

لما انتهى القديس جاورجيوس من مقولته هذه، دعا الراهب إواصاف لمتابعة طريقهما. وفيما هما متوجهان نحو الشرق، ظهر أمامهما في المدى البعيد مبنى ضخم. كان قصرا فخما جدا تحيط به أسوار ذهبية عالية، تتوهج مضيئة بنورها ذلك السهل كله.

ذهل الأخ إواصاف من جمال ذلك النور وحلاوته وسأل مرشده: ” يا قديس الله جاورجيوس، ما هو هذا القصر البادي أمامنا؟ ” فأجابه القديس بأنه ” قصر للملك الأوحد” وبأنهما سيصلان إلى هناك بعد قليل.

لما قربا من مدخل القصر، استقبلهما رجال نيّرون ذوي طلعة ملائكية، فحيّوهما مقبّلين إياهما في المسيح. ثم قادوهما عبر قاعة تشعشع من وفرة الحجارة الكريمة والذهب. كانت الدرر والألماس ينثرون نورا حلوا جميلا. في الجهة اليمنى من القاعة علقت أيقونة للسيد المسيح، وفي الجهة الشمالية عُلقت أيقونة أخرى للسيدة والدة الإله وهي جالسة على العرش. وفي تلك القاعة عينها اجتمع عدد غفير في ثيابهم الرهبانية، يرفلون بمجد لا يوصف ويلتحفون بنور باهر، يحملون في أيديهم صلبانا مع أغصان يضوع منها شذا ذكي يسكر من يتنشقه.

هؤلاء جميعا، مع القديس جاورجيوس والأخ إواصاف، رنموا امام الإيقونتين ترتيلة ” بواجب الاستئهال “، فأتى الترنيم عذبا ساحرا تتمنى لو أنه لا ينتهي. بعد ذلك رسموا إشارة الصليب ساجدين لصورتي السيد والسيدة. ثم استداروا نحو الراهب إواصاف قائلين: ” يا أخانا، إن كل ما رأيته انما كان من اجلك فانتبه واصطلح، واجتهد لتستحق المجيء الى هنا في أقرب وقت”.  انسحبوا كلهم بعد هذا وتركوا القديس جاورجيوس وحده مع الراهب، فانفتح لهما باب كبير وسمعا صوتا لذيذا من الداخل يقول: ” عظيمة هي رأفاتك يا رب على بني البشر “. ورأى الأخ إواصاف ما كان القديس بولس الرسول قد سبق فكتب عنه: ” ما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر، ما قد أعد الله للذين يحبونه “. رأى كنيسة كبيرة جدا ذات تصميم غريب لا يُفقه: كان يرتفع في وسطها عرش وضاء وافر المجد  كأنه جمر مشتعل، يشع أكثر من الشمس. فوق هذا العرش استوى ” ملك المجد” وعلى رأسه اكليل من الحجارة الكريمة المتلألئة، تماما كما في ايقونة السيد المسيح، يحيط به جمع لا عدَّ له في ثياب عسكرية تلمع كالبرق.

ليس عليه لباس العرس

وقف الأخ إواصاف خارج الباب يتطلع بنهم دون شبع. إذ ذاك دخل القديس جاورجيوس، وبعد أن رسم إشارة الصليب وصنع ثلاث مطانيات للملك، خرج ثانية ليُدخل الأخ إواصاف فسمع صوتا يأمره: ” دعه، إنه غير مستحق أن يلج الى هنا، لانه لا يملك لباس العرس “.

ارتجف  الأخ  إواصاف  لدى سماعه هذا، وخشي أن يحكم عليه

الملك. لكنه عاد الى نفسه حالا، وشرع يردد بحرارة كبيرة  ” ربي يسوع المسيح يا ابن الله ارحمني واصنع معي حسب رحمتك.” أما القديس جاورجيوس فدخل مجددا الى حضرة السيد ووقع على قدميه مسترحما: ” إذكر يا رب الدم الذي أهرقته على الصليب لأجل خلاص البشر. لقد تجسدت لتشفي الخطأة وتخلصهم. لذا أضرع إليك متوسلا: سامح يا رب هذه النفس الخاطئة، وأرشدها في طريق الخلاص، فإني عارف يا رب أن لجة رحمتك لا تحد “.

فرد عليه السيد: ” يا جاورجيوس أنت تعرف جيدا المحبة التي أظهرتها له، والنعمة الكبيرة التي حبوته بها ليدرك أسرار محبتي الإلهية، التي يجاهد الكثير من العظام المتوحدين في سبيلها دون أن يصيبوا منها ما قد أصابه هو. إن محبتي الخاصة لا مكان لها في نفسه. فهو يحتقرني مفضلا الأمور العالمية الخدّاعة مهملا إياي. لذا فهو غير أهل للمسامحة “.

تابع القديس جاورجيوس تقبيل قدمي السيد متوسلا: ” نعم يا رب، أعرف جيدا انه غير مستحق للمسامحة فقط بل مستأهل للعقاب أيضا. غير أني أسألك مجددا أن تسكب نعمتك عليه. أنظر يا رب إلى نيته، فخفاياه واضحة امامك. حقق رغبات قلبه وخلصه كملك مقتدر أيها السيد الكثير الرحمة.

أنت  تعلم يا رب أن ” العالم قائم بالمكر”. فقد تكاثرت الخطيئة اليوم

وفُقد المثال الصالح. فلتفض نعمتك يا رب ولتخلص عبدك هذا فإن نيته صالحة وان كان يغلب من الشر بسبب العادة. خلصه أرجوك.”

طول أناة المسيح السيد

وعلى هذا أجاب السيد:” يا جاورجيوس الحبيب، إني لعالم بحالة العالم الراهنة، وعارف جيدا بمخالفة وصاياي وغياب الفضيلة وسيادة الشر. إن العالم قد تلوث بالزنى والفسق والظلم، وبكل نوع من أنواع التهتك والفحش والدسائس. ليس رجال ونساء العالم الذين لا يعرفوني هم من يمرمروني فقط. بل أيضا كل المسيحيين: الرهبان، والكهنة، ورؤساء الكهنة والعلمانيين، كلهم معا يغيظون أحشائي يوميا، ويصلبونني مجددا بمخالفتهم نواميسي. هذا كله احتملته بحلم وصبر، وأنا أطيل أناتي منتظرا أن يتوب ويصطلح أحدهم. أشتهي خلاص البشر بأسرهم ولا أشاء هلاك واحد منهم، لذا أرقت دمي على الصليب، غير أنهم عوض أن يصطلحوا  يجدفون عليّ كل يوم. وهذا الذي تسأل من أجله، لم يتوقف حتى الآن عن تتميم مشيئته الخاصة. لم أكف يوما عن إظهار طريق الخلاص الصحيح له من خلال آباء روحيين عديدين. ومع هذا فهو يخالف مشيئتي ويحتقر وصاياي. يهمل وينكر المحبة والتضحية التي أبذلها كل حين من أجله ومن أجل كل إنسان، إن جميع هؤلاء يحتقرونني.”

انطرح القديس جاورجيوس مجددا على قدمي السيد يقبلهما بتواضع كبير ويقول: ” أذكر يا رب دمي الذي سفكته حبا بك وهبني هذه النفس. نعم أيها السيد أرجوك أن تسامحه وتؤهله لارتشاف كأس محبتك، كأس التنقية، والتي يشتهي هو أن يشرب منها كي يتمم مشيئتك المقدسة.”

كأس الخلاص

فأجاب السيد بوجه باش: ” ليكن لك ما تريد يا جاورجيوس “. ثم أمسك كأسا بيده اليمنى قائلا: “خذ هذه الكأس وأعطه ليحتسيها كلها، فهذه هي كأس محبتي، التي سبق لكل القديسين أن شربوا منها، والتي قد اضحت في هذه الحياة الخداعة، كأسا مملوءة قلقا ومرارات وتنهدات وأمراضا ومصائب، وهي تفضي في النهاية الى استشهاد الجسد وموته من اجل تنقية النفس وخلاصها، ومن أجل أن يفرح أبديا معي ومع الآب والروح القدس، ذاك الذي يتجرعها كلها حتى الثمالة” .

تناول القديس جاورجيوس الكأس من يد السيد، والشكر والبهجة يعلوان وجهه. كانت الكأس ملأى من النبيذ الأحمر الذي باركه السيد. فأعطاها القديس للأخ إواصاف الذي شربها كلها بشوق كبير بعد أن رسم إشارة الصليب. فكان الشراب في حلقه شديد الحلاوة لذيذ المذاق، مما جعل شعلة العشق الإلهي تلتهب في داخله فورا، فلم يستطع أن يمسك نفسه، بل اندفع داخل تلك الكنيسة، واختطف قدمي السيد محتضنا إياهما  وهو  يغمرهما  بقبلاته  الملتهبة  حبا وفرحا. لم يكن ليطق أن يترك ذلك المكان او أن يبتعد عن الملك.

حينئذ سمع صوتا يقول: ” يا جاورجيوس، خذ الاخ إواصاف ليذهب ويجاهد بغية اقتناء محبتي الأولى التي قد فقدها بسبب اهماله. وعندما يستعد جيدا، وفي الوقت المناسب، سيكون اهلا لشرب الكأس التي قد شربتها أنا “.

نبه القديس جاورجيوس الأخ اواصاف، فضرب كل منهما ثلاث مطانيات وسجدا عند قدمي السيد الطاهرتين وشكراه بحرارة. ثم خرجا من تلك الكنيسة المنيرة وهم يصافحان أولئك الذين قد صادفوهما على التوالي، في الباحة الأمامية، في “ديار بيت الرب” مقبّلين إياهم. وبعد ذلك انطلقا في طريق العودة، فقال الأخ لمرشده: ” يا قديس الله، ألا يمكنني البقاء هنا حيث نحن الآن دون ان اضطر الى العودة للعالم؟ ” فأجابه القديس: ” هذا غير ممكن، يا عزيزي، فإن إرادة السيد، كما سمعتها، هي أن أعيدك الى العالم لكي تستعد وتجاهد لاكتساب سائر الفضائل ولتحفظ وصايا السيد. كما أنه عليك أن تُجرَّب بالآلام لتتنقى كالذهب بالنار، وتنصهر في شدائد وصعوبات الحياة. وبعد هذا،  برحمة  السيد  وإرادته،  تأتي  لتستقر  هنا  بحق، وتتمتع بمجد المسيح الى الأبد.

توصيات القديس جاورجيوس الأخيرة

وهكذا عبرا ثانية ذلك السهل  الجميل،  ممتعين  ناظريهما بكل ما

سبق لهما أن رأياه قبلا. أخيرا وصلا الى سفح الجبل، فأمسك الشهيد بيد الأخ إواصاف وتقدما الى وسط الجسر حيث توقف قائلا: ” يا أخي المحبوب، (إن ملكوت السموات يُغصب والغاصبون يختطفونه). ها قد مستك نعمة الله، فلا تكن ناكرا لنعمته تعالى. جاهد لتكتسب المحبة الأولى مجددا، وعندها تأكد، أن نعمة الله وستر سيدتنا والدة الإله ومعونتها سيكونوا دوما معك. كما أني، أنا أيضا، لن أكف عن مساعدتك “. من ثم ختمة ثلاثا بإشارة الصليب واختفى عن ناظريه.

إن الشيطان لا يستطيع ان يؤذي من كان مسيحيا حقانيا

أخذت الرعود والإضطرابات في أسفل تلك الهوة تتصاعد وسُمعت أصوات تهدد: ” الآن وقد أضحى الراهب وحده، هلم بنا نرميه الى اسفل “. كانت الشياطين تصر بأسنانها وتصرخ محدثة جلبة وضجيجا، غير أن أحدُها لم يجرؤ على الدنو من الراهب اواصاف، بل اخذوا يصدرون أصواتا متوحشة منذرين: ” هيا بنا جميعا نطرحه أسفل قبل أن يعود جاورجيوس “.

حصل الأخ إواصاف وحيدا لا معين له في منتصف ذلك الجسر المهتز، ولم يقوَ على التقدم او التراجع  ليفلت من قبضة الشياطين المكرة. وإذ هو على هذه الحالة الصعبة، رفع عينيه الى السماء متضرعا: ” أيها السيد، أرجوك ساعدني إذ قد أشرفت على خطر السقوط بسبب أبناء جهنم هؤلاء “. فجاءه صوت من السماء مجيبا: “يا أخي، تفادى الوقوع في الاهمال. ردد صلاة يسوع ” ربي يسوع المسيح…” وبشفاعات والدة الإله مع العمل الصالح والإيمان، لن تستطيع الشياطين أن تؤذيك، طالما انت تجاهد. لا تخف وسوف تخلص “.

لجأ الأخ إواصاف فورا إلى صلاة يسوع، وبشفاعة والدة الإله ومساندة القديس جاورجيوس، وجد نفسه في مقعده في  الكنيسة، يصلي متابعا خدمة القداس الإلهي، دون أن يفهم كيف.

هكذا انتهت هذه الرؤيا التي حصلت لإمام شيوخ أخوية الإواصافيين الرسامين، ومؤسسها الراهب إواصاف الذي من قيصرية الكابدوك، عندما كان في القلاية التابعة لدير القديس بندلايمون في كارياس قبل أن يصبح الدير روسيا. بُعيد هذه الحادثة بقليل، ترك الراهب إواصاف دير القديس بندلايمون مع بعض الإخوة، وبنى قلاية تحمل اسم القديس جاورجيوس في كيراسيا، حيث تفرغ بالكلية لغرس الصلاة العقلية في نفسه. فكان يرددها بالفم والذهن والقلب ليل نهار. ويمضي القسم الأكبر من يومه متأملا في الرؤيا التي حصلت له. لم ينقطع يوما عن رواية ما رأى وسمع هناك لأخويته. وهكذا تناقلت الأفواه هذه القصة المفيدة للنفس حتى وصلت الينا. كان الراهب إواصاف قد تعلم مع أخويته فن رسم الإيقونات في دير القديس بندلايمون. وحوالي العام 1880 أسس في كافسوكاليفيا بيت الإواصافيين الجميل مع كنيسته التي حملت اسم القديس جاورجيوس أيضا. كانت قلايتهم أقدم بيت عرف كمحترف لفن الرسم المقدس. وهنا بنعمة الله رقد إواصاف الراهب رقود الأبرار وحصل على النهاية المغبوطة وذلك لمجد الله المثلث الأقانيم.

admin:
Related Post