X

بحث في التراث الأرثوذكسي

قوّة الكلمة الإلهيّة

الأرشمندريت توما بيطار

يا إخوة، لاحظوا الكلام الّذي ورد في إنجيل يوحنّا. “قال الرّبّ لتلاميذهالكلام الّذي أكلّمكم به لا أتكلّم به من عندي، لكنّ الآب المقيم فيّ هو يعمل الأعمال“.

أوّلاً، يقول الرّبّ يسوع إنّ الكلام الّذي يتكلّم به ليس من عندههو لا يتكلّم بما هو له، هو لا يعطي رأيًا، هو لا ينظّر، هو لا يتكهّن، هو لا يعبّر عن قناعته الخاصّة كإنسان؛ بل يقول كلام الآب السّماويّوطبعًا، لكي يتمكّن الرّبّ يسوع من أن يفعل هذا الأمر، فلا يكفي أن يكون هو والآب واحدًا؛ لأنّه هو كان كذلك، منذ الأزللكن، إذا ما تكلّم بهذا الكلام، فهو يتكلّم به كإنسانفإذا كان، كإنسان، يتكلّم كلام الآب السّماويّ؛ فهذا معناه، أوّلاً، أنّه يتكلّم بهذا الكلام طوعًا، وليس مرغَمًا؛ ثانيًا، هو يتكلّم بكلام الآب السّماويّ، لأنّه قد أخذ صورة عبد؛ أي ليست له، بعدُ، كلمة يقولهاالعبد لا يقول شيئًا من عنده، أبدًا؛ بل يسمع ما يقوله سيّده، يردّد ما يقوله سيّده، ينقل ما يقوله سيّدهلذلك، يُقال عن العبدفلان عبد فلانهو يتكنّى بكنية سيّدههويّته من علاقته بسيّدهوالرّبّ يسوع، هنا، هو عبد يهوههو يتكلّم كلام يهوه، هو يتكلّم كلام الآب السّماويّ، ولا يتكلّم من عنده كإنسانكإنسان، ليس عنده كلمة يقولها.

ثمّ هناك، في هذا القول، شيء آخر لافتبعد أن قال إنّه لا يتكلّم بهذا الكلام من عنده، قال: “لكنّ الآب المقيم فيّ هو يعمل الأعمال“. هنا، نلاحظ قولَين لافتين:

أوّلاً، يقول إنّ الآب مقيم فيهإذًا، الآب السّماويّ لا فقط يوحي للابن بما عليه أن ينطق به، بل هو مقيم فيه، أيضًافإذا كان مقيمًا في الابن، وإذا كان الابن صامتًا من جهة نفسه، أي لا يشاء أن يتكلّم بشيء من عنده؛ فالكلام الّذي يتفوّه به يكون الآبُ، عمليًّا، هو الّذي يتفوّه به؛ إنّما في الابن ومن خلاله، وإلاّ ما معنى أن يكون الآب مقيمًا في الابن؟!

ثانيًا، الرّبّ يسوع، هنا، لا يقول: “الآبُ يتكلّم فيّ، بل يقول: “الآب المقيم فيّ هو يعمل الأعمال“! في الوقت الّذي ينتظر فيه الإنسانُ أن يسمع السّيّد يقول: “الآب هو الّذي يتكلّم؛ يقول الرّبُّ يسوع: “الآب هو الّذي يعمل الأعمال“. ما معنى ذلك؟معنى ذلك أنّ الكلام الّّذي يتكلّم به الابن ليس فقط من الآب السّماويّ، بل هو عمل من أعمال الآب السّماويّالكلام هو عملعند الإنسان، هناك فرق بين الكلام والعمل، هناك مسافة بين الكلام والفعلعند الله، ليس الأمر كذلكعند الله، الكلام هو عمل، الكلام هو قوّةعلى هذا، نفهم كيف أنّ الله، منذ البدء، حين كان يتكلّم، كان كلامه، بصورة تلقائيّة، يظهر عملاًمثلاً، قال الرّبّ يسوع للأخرس: “انفتح، فانفتح لسانه للحالالكلام هو فعلونحن نراه كفعلوهذا كان، كما قلت، منذ البدءحين خلق الرّبّ الإله الخليقة، قال، مثلاً: “ليكن نور، فكان نورهذا لأنّ كلامه فعلولهذا السّبب، قال الرّبّ يسوع لتلاميذه: “الكلام الّذي أكلّمكم به هو روح وحياة” (يو6: 63). هو روح، لأنّ الكلمة الإلهيّة هي روح منبَثٌّ في مَن يكلّمه الرّبُّ الإلهالرّبّ يسوع، متى تكلّم، فإنّه يبثّ روحًاوفي آن معًا، هو يبثّ حياةًهذا ليس معنًى مجازيًّا، إنّما هو معنًى روحيّ عميق، يتخطّى فهمَ الإنسان للكلام، وقدرتَه على تعاطي الكلام كأفعالالإنسان، حين يتكلّم، يحتاج إلى واسطة لكي يتحوّل كلامه إلى فعلأنا، متى قلتُ، مثلاً، في ذهني: “كرسيًّا؛ فإنّ الكرسيّ لا يوجد بمجرّد أنّي قلتُ كرسيًّا“! متى عزمتُ في نفسي على أن أصنع كرسيًّا، فإنّي أحتاج إلى واسطةأحتاج إلى خشب، وإلى مهارة معيّنة، وإلى مسامير، وإلى طلاء، وإلى نوع من اللاّصق، وإلى وقت… بالنّسبة إلى الرّبّ الإله، الأمر ليس كذلكالرّبّ الإله يقول كرسيًّا، فتصير الكلمة كرسيًّالهذا، الكلام الإلهيّ هو الله حاضرًا فيه، وفاعلاًقيل عن أحد النّسّاك، الّذين كانوا بسطاء ومحبّين لله، إنّه كان، مرّة، يقرأ في الكتاب المقدّس؛ لكنّه لم يكن يقرأه ليفهم المعنى فقط، لم يكن يقرأه كما نقرأ كتابًا عاديًّا لنفهم ماذا يريد الكاتب أن يقول؛ بل كان يقرأه بالرّوح، كان يقرأه باعتباره كلامَ الله، باعتبار أنّ الله حاضر في هذا الكلامفلمّا وصل إلى المكان الّذي فيه مَن قال لهذا الجبل: [انتقل، وانطرحْ في البحر]، فإنّه يكون له” (متّى21: 21)، للحال، كان هناك جبل أمامه أخذ يتحرّك من مكانهأما قرأتم قصّة القدّيس يوحنّا الدّيلميّ؟يوحنّا الدّيلميّ بنى لرهبانه ديرًا في أعلى الجبلوكانوا يعانون، لأنّ الماء كان في أسفل الجبل، وكان عليهم أن يتكبّدوا مشاقًّا ليست بقليلة لتأمينه؛ فجعل يوحنّا الدّيلميّ نفسه في الصّلاة، أي جعل نفسه في الرّوح، وسأل الله أن ينقل الدّير من فوق إلى تحت، ليجعله قرب النّهر؛ للحال، تحرّك الدّير، وانتقل إلى قرب النّهر، ولم يتزعزع فيه شيء، على الإطلاق، كأنّ الإنسان أخذ بيتًا من ورق، وأمسكه، ونقله بأصابعه من مكان إلى مكان آخر!

إذًا، هذا كلّه يشير إلى قوّة الكلمة الإلهيّةإذا كنّا نحن لا نشعر بقوّة الكلمة الإلهيّة، فهذا لأنّ قلوبنا بليدة؛ ولأنّنا، في العمق، لسنا، تمامًا، مؤمنين باللهإيماننا، بالأحرى، إيمان عقلانيّ، نظريّ؛ لكن، مَن كان في الرّوح، وكان مؤمنًا؛ أي مَن كان، في روحه، قد أفرغ نفسه وأخذ صورة عبد؛ فإنّه يدرك قوّة الله الّتي في الكلمة؛ الّتي هي، بخاصّة، في اسم الرّبّ يسوعاسم الرّبّ يسوع هو قوّة الرّبّ يسوع مقيمةً في اسمه.اليهود، قديمًا، كانوا يدركون هذا الأمر جيّدًالهذا السّبب، اسم الله يهوه” لم يكن أحد يجرؤ على أن يتلفّظ به في العلنوبالإضافة إلى ذلك، لم يكن أحد يجرؤ على أن يتطلّع إلى الاسمالاسم كان رهيبًا، في أذهان، على الأقلّ، الأتقياء من اليهودوالّذين كانوا ينسخون النّصوص الكتابيّة، حين كانوا يصلون إلى اسم الله؛ أوّلاً، كانوا يلفّون يمينهم بقماشة خاصّة؛ وكانوا يستعملون ريشة خاصّة لكتابة الاسم؛ وكانوا أيضًا، متى أعدّوا العدّة لكتابة الاسم، يكتبونه وعيونهم مغمَضَةطبعًا، بالنّسبة إلينا، اليوم، هذا قد لا يعني شيئًالكن، بالنّسبة إلى الوجدان العبريّ، هذا كان يعني أنّ الله، في أذهان النّاس، كان حاضرًا في اسمهوهذا كان السّبب الّذي حدا باليهود إلى أن يستعيضوا عن اسم الله بأسماء أو صفات أخرىمن هنا جاءت، مثلاً، لفظةسيّد” وربّ، وكيريوس، وإيلوهيم“… هذه كلّها كانت بدائل عن الاسم، لأنّ النّاس يحتاجون إلى أن يتعاطوا الاسم الإلهيّوبما أنّهم أعجز من أن يتعاطوه مباشرة، كانوا يشيرون إليه باستعمال بدائل عنه.لهذا، أعود وأقولإذا كنّا نحن لا نشعر بقوّة كلمة الله؛ وبخاصّة، بقوّة الاسم الإلهيّ؛ فهذا عائد إلى بلادة قلوبنا، وعدم نقاوة نفوسناالقدّيس سيرافيم ساروفسكي، مثلاً، حين كان يقرأ الكتاب المقدّس، لم يكن يجلس مرتاحًا على أريكة، ويمدّ رجليه، أو يجعل رِجلاً فوق رِجلحين كان يريد أن يقرأ الكتاب المقدّس، كان يحمله بين يديه، ويُضيء شمعة، وينحني كأنّه في فعل عبادة، وكان يقرأه بخشوع كامل، كأنّه في وضع السّجود والتّسبيح، وليس في وضع القراءة العاديّةمنذ فترة، كنتُ في دار جمعيّة الكتاب المقدّس، فعجبتُ كيف يتعاطون الكتاب المقدّسبالنّسبة إليهم، العمليّة هي عمليّة بيع وشراءيأخذون كتابًا، ويعطون كتابًا، ويجعلون كتابًا هنا أو هناك، في مكان لائق، في مكان غير لائقويجعلون أشياء وأشياء على الكتاب المقدّس!… بالنّسبة إليهم، أصبح الكتاب المقدّس مجرّد كتابوهم يتعاطونه بهذه الطّريقة، بالضّبط، لأنّهم يعتبرون أنّ الشـّيء الأساسيّ المهمّ هو معاني الكتابلذلك، لا يخطر في بالهم أنّهم يسيئون بشيء إلى الله، حين يتعاطون الكتاب بالطّريقة الّتي يتعاطونه بهالكنّ الكتاب المقدّس أكثر من خطوط، وأكثر من معانٍ.الكتاب المقدّس هو حضور الله، بالذّات، بقوّته، طبعًاالله حاضر، بقوّته، في الكتاب المقدّسالأرثوذكسيّون لا يزالون، إلى حدّ بعيد، يحافظون، في تراثهم، وليس بالضّرورة في ممارساتهم، على هذا الأمرمثلاً، حين يمسكون بالكتاب المقدس، فبصورة تلقائيّة، يقبّلونه؛ وحين يريدون أن يردّوه إلى موضع معيّن، يقبّلونه، أيضًا، ويجعلونه في هذا المكان؛ وحين يريدون أن يقرأوا فيه، يصلّون لكي يعطيهم الرّبّ الإله روح الفهمروح الفهم أكبر بكثير من معاني الكلماتالإنسان يمكن أن يفهم معنى الكلمات؛ لكنّه لا يفهم، بالضّرورة، الرّوح المنبثّ في هذه الكلمات.

إذًا، المطلوب، بالضّبط، هو أن نفهم بالرّوح، لا أن نفهم بالعقل، فقططبعًا، الإنسان لا بدّ له من أن يستعمل عقله، ولا بدّ له من أن يفهم الأمور في مستوى العقللكن، ما هو أهمّ من ذلك هو الفهم بالرّوححين نقرأ، مثلاً، كلمة يسوع، نفهم ماذا تعنيتعني المخلّص، مَن يخلّص شعبه من خطاياه؛ لهذا السّبب سُمّي الرّبّ بـيسوع“. لكن، نحن لا نتوقّف عند هذا الحدّنحن، حين نأتي بإزاء الكلمة الإلهيّة، وبخاصّة الاسم الإلهيّ، علينا، داخليًّا، أن نكون في موقف خشوع؛ لأنّنا بإزاء الحضرة الإلهيّة المنبثَّة في كلام، والمعطاة لنا؛ لكي تكون لنا، بهذا الكلام، حياةٌ جديدة، وروحٌ جديدإذ ذاك، يصير الكلام الإلهيّ، في حياتنا، فعلاً إلهيًّا؛ ولا يبقى مجرّد كلامفإذا فطنّا لهذا الأمر، وإذا تعاطيناه كما يليق؛ نكون قد أدركنا ما قاله الرّبّ يسوع، حين ردّد أنّ الكلام الّذي يتكلّم به ليس من عنده، لكنّ الآب المقيم فيه هو يعمل الأعمال.

فمَن له أذنان للسّمع، فليسمع.

عظة حول يو14: 10- 21 في السّبت حزيران 

admin:
Related Post