X

بحث في التراث الأرثوذكسي

الكاميرا بعين روحية

الأب أنطوان ملكي

الكاميرا من أهمّ اختراعات أواخر القرن السابع عشر. لكن ما وصلت إليه في القرن العشرين أمر مختلف جداً. فانتشار الكاميرات الرقمية ودمجها في مختلف أنواع الآلات ووصولها إلى أيدي الناس من صغارهم إلى كبارهم، ليس أمراً بلا تأثير. ففي القرون الثلاثة التي سبقت وعُرف فيها أشكال مختلفة للكاميرات، كانت دوماً في أيدي أصحاب اختصاص. والدليل على ذلك هو نشوء علم قائم بحد ذاته، يدرسه الناس ويحصّلون فيه شهادات.

إذاً، في ما مضى كان المصوّر شخصاً محدداً، يعرف أصول مهنته أو هوايته، ويدرك أنّه يشارك في كتابة التاريخ، الجماعي أو الفردي. كان للصورة قيمة أبعد من مجرّد الألوان والوقفات: أحداث تنطبع في رؤوس الناس وأحبة تستعيدهم. الانتظار لإتمام عملية التحميض كان فيه شيء من المخاض، انتظار لشيء تحبه وتتوقعه لكنك لا تعرف ما هو إلا حين تراه. إذا فشل التحميض تقع الخيبة. حتى مع بداية انتشار الكاميرات الفردية منتصف القرن العشرين، ظلّ للكاميرا رهبتها.

لكن ما هو الواقع اليوم؟ مرير على أكثر من مستوى. صارت الكاميرا وسيلة لنشر الخصوصيات والنميمة. طبعاً، لا يمكن إنكار ما تحققه وكم من اللحظات الجميلة تتخلّد لأن شخصاً ما تواجد في تلك اللحظة مستلاً لهاتفه. لكن الكمّ الكبير من الصور يفقد اللحظة عمقها ويبطحها مشرّعاً تشريحها. قد يكون لكل شيء منفعته لكن العلاقة الوجدانية بين الإنسان وصوره لم تعد كما كانت، أقلّه إلى جيل ما. أن تقلّب صفحات “الألبوم” ليس مثل تقليب الإنستغرام أو غيره من الشبكات الاجتماعية.

عند هذه النقطة قد يأتي مَن يقول أن المشكلة هي في الشبكات الاجتماعية وليس في الكاميرا. قد يكون هذا الكلام صحيحاً في موضوع انتشار الصور. لكن ماذا عن الهوس في تجميعها؟ في ما مضى كانت الرؤية، رؤية أي حدث أو منظر، تتوقّف على مكان تواجدنا بالنسبة إليه، أمّا اليوم فالرؤية أو الانقشاع يتوقفان على كم شخص يحمل هاتفاً في المسافة التي تفصلنا عن ما ننظر إليه. كلّهم يحملون هواتفاً ويريدون أن يسابقوا المصوّرين. هذه علة أصابت الكل: كاهن في حلة الخدمة يصوّر، مؤمن في الصف إلى المناولة يصوّر، شماس من الباب الملوكي يصوّر، ما يحجب الأيقونسطاس عن عيني المؤمنين عشرات من الهواتف المتطاولة وكأنها تقول أن الصورة أبدى من صاحبها. همّ تصوير الواعظ، إذا كان زائراً أو مطراناً أو غيره، يغلب سماعه. السباق إلى تصوير زياح ما يغلب على التبرّك من خلاله. كبار، صغار، رجال ونساء كلهم يدفعون بهواتفهم إلى الأمام وكأنهم بامتلاكهم الصورة يأخذون حصة من الأصل.

وهذا ليس كل شيء. مر زمان، وكتب العديدون عن تحكّم الكاميرا بالمناسبات، خاصةً الأكاليل. في أغلب الأكاليل، ما يضبط حركات العروسين هو الكاميرا. أفضل وقت لتصوير رأسيهما متقاربين هو عند قول الرسول “أيها الرجال أحبوا نساءكم”. أما قصة قانا الجليل فممتازة كخلفية صوتية ترافق بعض الصور التي تظهر أناقة العروسين وجمالهما. ويل للكاهن الذي يقف أمام المصوّر أو يعيق حركته. ويل له إذا استعجل في رفع الكأس عن شفتي أحد العروسين قبل انتهاء المصوّر من تكبيس زر كاميرته، هذا إذا لم يكن هناك أكثر من مصور. النور في الأكاليل يأتي من فلاشات المصوّرين لا من ثياب الكاهن. ومع هذا، ما يمزقّه المصوّرون في الأكاليل ليس أكثر ضرراً من ثياب العروس أو الأشابين أو الحضور أو بروتوكولات دخول الكنيسة وجلوس الحضور وتصفيقهم وزغاريدهم. أكاليلنا مسرحيات تضبطها كاميرا.

ومع هذا، فالأخطر ليس هنا. الأخطر هو في ما تحرّكه الكاميرا في مَن يقف أمامها. لعلم النفس الحديث الكثير من الكلام في هذا المضمار بدءً من الضعف أمام الكاميرا (photo taking impairment effect) وصولاً إلى تأثير الكاميرات في الجموع. فالتصوير يضعف الذاكرة، خاصةً الكثيف منه. علم النفس التصويري Psychology of Photography يستقطب الكثير من الأبحاث مقارنة بالعلوم الأخرى. تظهر الدراسات الحديثة أن الإنستغرام هو أكثر الشبكات الاجتماعية إثارة للإحباط [1].

السؤال الأخطر هو حول تأثير الكاميرا الروحي. ماذا عن الذاتيات (Selfie)؟ ماذا عن تبديل الصورة الذاتية (profile picture) يومياً أو أكثر من مرّة في اليوم؟ ماذا عن إنسان، وقد يكون كاهناً، يبدّل صورته الذاتية ويُعجَب بها (يعمل لها Like) على الفايسبوك؟ علم النفس يقول الكثير في هذا المضمار. صورة الذات واحترامها يقومان على ما يراه فينا الآخرون، لذا مَن يتّكل على الشكل يهتمّ بإظهاره على ما يعجب الآخرون.الشعور بالوحدة، حتّى في وسط الناس، والسعي إلى شدّ الاهتمام هما المحرّكان الأساسيان لاهتمام البعض بإظهار صورهم. مع التطور التكنولوجي بلغت النرجسية نسباً قاتلة بين الناس[2]. أعداد مَن يعانون من اضطراب تشوّه الجسم (Body Dysmorphic Disorder) ارتفعت كثيراً بسبب ارتفاع الاهتمام بالصور الذاتية وبنشرها، هذا وأن كثرة الصور تهدد العلاقات بإفراغها من حميميتها [3]. إلى هذا، يرى الطب النفسي في حب الظهور حالة مرضية قوامها “نمط من الشعور بالعظمة والحاجة إلى الإعجاب والشعور بالتعاطف” [4]

بعد هذا العرض يصير السؤال شرعياًأليس للكاميرا تأثير روحي؟

ما يسمّيه الطب النفسي حبّ الظهور، يسمّيه الآباء العُجب (κενοδοξιαوأكثر مَن يستفيض في وصفه هو زعيم أطباء النفس الروحيين القديس يوحنا السلّميفالقديس يفرز لهذا الهوى فصلاً كاملاً (المقالة الثانية والعشرينويشرح سبب ذلك، معتبراً أن العجب هو البداية والكبرياء هي النهايةفالعجب يندسّ في كل شيء بارتياح فإن أنا صمتُ أُعجبت بصومي وإذا حللتُ صومي عن فطنة لأخفيه عن الآخرين أُعجبتُ بفطنتيالمُعجَب بنفسه هو مؤمن عابداً للأصنام إذ إنه يجلّ الله في الظاهر وهو يريد أن يرضي الناس لا الله“.

ماذا لو طبَقنا هذا الكلام على المسارعين إلى التقاط الصور: رؤساء يلهثون نحو الصور التذكارية، ومن هم دونهم يلهثون نحو إحصاء المعجبين على وسائل التواصل الاجتماعي “عظيم مَن يردّ مديح الناس عن نفسه والأعظم مَن يردّ مديح الشياطين”. كم من واحد لا يترك تجهمه إلا إذا رأى الكاميرا؟

في لغتنا العربية، معنى آخر لعبارة (κενοδοξια) الآبائية وهو المجد الباطل الذي يستفيض مرقس الناسك بالكلام عنه: “سبب كل شرّ اللذة والمجد الباطل. فمَن لا يمقت هذين، لا يمكنه استئصال أي هوى منه”. وفي تفصيله للفكر الذي تحرّكه الذكريات في الفكر البشري يتكلّم وكأنه يشرّح فعل الكاميرا في النفس “حيث الصُوَر هناك دليل القبول”.

إن عشّاق تصوير ذواتهم هم فعلياً عشّاق لذواتهم وما من ناموس روحي لا يدعوهم إلى التوبة. المشكلة ليست في الكاميرا بحد ذاتها بل فيهم. هذا أمر مطلوب من كل مؤمنالتنبّه إليه، وأولاً الرعاة خاصةّ منهم أولئك المأخوذين بصفحاتهم الإلكترونية وبكثرة معجبيهم عليها. في النهاية، الكاميرا آلة، للإنسان أن يحرّكها، وما سيطرة هذه الآلة بالذات على الناس في زماننا الحاضر إلا دليل على عمق أزمة الإنسان الروحية.

[1] WOOLLASTON, VICTORIA. Never mind Facebook bragging, INSTAGRAM is the most depressing social network due to the smug photos we post. Daily Mail. 23 July 2013. http://www.dailymail.co.uk/sciencetech/article-2376016/INSTAGRAM-depressing-social-network-smug-photos-post.html

[2] ERICKSON, CHRISTINE. The Social Psychology of the Selfie. Mashable. FEB 15, 2013. http://mashable.com/2013/02/15/social-media-and-the-selfie/

[3] McKay, Tom. A Psychiatric Study Reveals Selfies Are Far More Dangerous Than You Think. PolicyMic. March 28, 2014

[4] The Diagnostic Manual of Mental Disorders, IV-TR (American Psychiatric Association (2000)

admin:
Related Post