X

بحث في التراث الأرثوذكسي

العِصاب الروحي: حوار مع الأب إسحق

اﻷب ميخا هيرشي

قبل نحو شهر، أثناء العودة من جنازةقررت تشغيل الراديو أثناء القيادة على الطريق الريفي، وبدأت الاستماع إلى البث المحلي حيث كان الناس يتّصلون ويحدّثون المذيع، الذي كان قسّاً، عن الكتاب المقدس. أنا لست متأكدا أيّ آية أو آيات كانت تجري مناقشتها، ولكن ما أدهشني هو قصة رجل اتّصل والمحادثة اللاحقة التي أجراها مع المذيع.

روى الرجل المتّصل للمذيع كيف أنّه بعد فترة وجيزة من تحوّله إلى المسيحية، عانى من القلق الشديد والاكتئاب، لكونه كان مضطرباً داخلياً حول ما إذا كان هو أحد”المخلَّصين”. إلا أن اﻷمر استغرق سنوات من العلاج حتى صار قادراً على حلّ اﻷمور“. لم يكن رد المضيف مفاجئاً، بل بدلاً من ذلك، قَبِل قصة هذا الرجل باعتبارها واحدة من قصص سمعها مرات لا تُعَد ولا تُحصى على ما يبدو من قبل. في ذلك الوقت، صُدِمت جداً من القصة وردّ الفعل، ووجدتها مثيرة للقلق حيث أن شخصاً يبدو طبيعياً ومتوازناً بينما عندما صار متديناً خضع لما وصفه بأنه انهيار.

عندما فكرت في ذلك، خَطَر لي أن هناك عصاباً روحياً ما[1] غالباً ما يكتسبه المتدينون وهو في الواقع ليس جديداً وأن الأرثوذكسيين ليسوا محصنين ضده. يتحدّث أبونا المحبوب المعاصر القديس بورفيريوس حول هذا الموضوع ببعض اﻹسهاب: “بالنسبة لكثير من الناس، الدين هو صراع ومصدر للعذاب والقلق. هذا هو سبب النظر إلى أصحاب التفكير الديني على أنهم تعساء، لأن الآخرين يستطيعون أن يروا حالتهم اليائسة. فهكذا هو اﻷمر. بالنسبة للشخص الذي لا يفهم المعنى العميق للدين ولا هو اختبره، ينتهي الدين عنده باعتباره مرضاً، ﻻ بل مرضاً رهيباًرهيب لدرجة أن المتديّن يصير ضعيف الإرادة وضعيف الشخصية… فهم يقومون بالسجدات وبرسم الصليب في الكنيسة ويقولون: <نحن خطأة غير مستحقين>، وما أن يخرجوا حتى يبدؤون بالتجديف على كل ما هو مقدّس ما أن يزعجهم أحد اﻷشخاص قليلاً”.

يتابع القديس بورفيريوس كلامه بأن لقوة إيماننا المسيحي الشافية والمجليّة شرط مسبَق مهموهو التواضع. لهذا السبب بالضبط اعتبر نجم الصحراء وأبونا بين القديسين إسحق، منذ أكثر من ألف سنة، أن كل نشاط ديني مهما كان هو لا شيء وأسوأ من لا شيء من دون التواضع. فهو يقول لنا: “التواضع، حتى بدون أعمال، يكسب الصفح عن العديد من اﻵثام؛ ولكن من دون التواضع، لا تقدّم أعمالنا لنا أيّ ربح بلّ بالمقابل تهيء لنا شروراً عظيمة”.

بحسب القديس إسحق، التواضع هو الطريق إلى الحياة الحقيقية، والتوازن، وكِلا الكمال والقداسة: “الرجل المتواضع لا يتسرّع أبداً وﻻ يتردد وﻻ يقلق، ليس لديه أي أفكار ﻻذعة أو متقلّبة، بل هو دائماً هادئ. حتى لو قاربت السماء الوقوع على الأرض، فإن الرجل المتواضع لا يفزع“.

يعلّم القديس إسحق أن التواضع عطية من الله. ومع ذلك، يمكننا ويجب أن نعد أنفسنا ونسعى إلى أن نصبح جديرين بمثل هذه العطية السامية.

ويتم ذلك من خلال معرفة دقيقة لخطايا الشخص أو نتيجة الاعتراف بتواضع ربنا أو بالأحرى، نتيجة تذكّر عظمة الله ومدى تنازل هذه العظمة…

يرفع اﻷب إسحق تواضع اﻹنسان إلى هذه المرتفعات بقوله: “الأتعاب الموجّهة حسناً والتواضع تجعل الرجل إلهاً على الأرض.” علينا أن نتذكر أن صعودنا نحو الله على سلم التواضع مؤلّه لأن ربنا نزل إلينا على سلم التواضع أو بالأحرى، هو صار نفسه بالنسبة لنا سلم التواضع موحّداً إيانا بالله.

التواضع هو لباس اﻷلوهة. الكلمة الذي صار إنساناً هو بنفسه لبسهوكل إنسان لبسه صار فعلياً على شبه ذاك الذي نزل من عليائه، وأخفى بهاء عظمته إلى أن تُستهلك الخليقة تماماً بالتأمل فيه.

[1] العصاب (Neurosis) هو نوع من انواع الخوف الذي يؤدي إلى اضطراب في الشخصية وفي الأتزان النفسي. وهو اضطراب عصبي وظيفي غير مصحوب بتغير بنيوي في الجهاز العصبي.

admin:
Related Post