X

بحث في التراث الأرثوذكسي

رسالة رعائية حول اﻷوشام والتزيّن

المتروبوليت إشعيا مطران دانفر

نقلتها إلى العربية جولي عطية

الكهنة الموقّرون، مؤمنو أبرشية دانفر الأتقياء،

أيها المحبوبون بالرب،

يبدو أنّ الاهتمام بالوشم يزداد في مجتمعنا اليوم في أوساط الشباب والبالغين من الجنسين.

في الماضي، كان الوشم محصورًا بالعبيد والخدّام، وكانت الوشوم محدودةٍ برموزٍ وأرقام، ما يشبه الوسوم التي توضَع على الحيوانات في أيّامنا. وخلال الحقبة النازية في ألمانيا، كان يتم وشم اليهود بالقوّة لكي يُفرَزوا طبقةً أدنى وحتى أعداءً للدولة. وحتى اليوم، نجد المسيحيين في بعض مناطق أفريقيا يضعون وشمَ صليبٍ على جباههم، ليتميّزوا عن المسلمين الذين يشكّلون الأكثرية. باختصار، كان الوشم علامةَ فرزٍ ظاهرةً للسلطة العليا التي تدير الدولة أو المملكة. وأمّا المسيحيون الملزَمون بوضع علامة الصليب على جباههم، فالكنيسة تتسامح مع هذا الأمر لأسبابٍ عمليّة.

عند الأجيال السابقة، كان الوشم محصورًا بالبحّارة، علامة تمييزٍ في أسفارهم. وفي الواقع، لفظة وشم بالإنكليزية tattoo هي مصطلح عسكري يدلّ على صوت البوق الذي يدعو البحّارة والجنود إلى العودة إلى أرباعهم. خلال القرون السابقة، كانت الوشوم تُستخدم أيضًا من قبل أعضاء نوادي الدرّاجات النارية وعصابات الشبّان، لكنّنا نرى أنّ البعض بدأ باستعمالها لاحقًا كإعلانٍ عامّ ليس فقط عن مكانته الاجتماعية، بل أيضًا عن نفسه بأسلوبٍ نرجسيّ. بكلامٍ آخر، يريد البعض، بواسطة الوشم، أن يُظهروا للآخرين مَن هم وبماذا يؤمنون، ومحبة أمهاتهم وأحبّائهم، وصولاً إلى محبة الله.

إذًا هل تقبل الكنيسة الأرثوذكسية بالوشم؟ علينا أن نستعين بالكتاب المقدس لمعرفة الإجابة. نجد في الكتابات المقدّسة أنّ وسم الجسد غير مقبول عند الله. نقرأ مثلاً في سفر اللاويين: “ولا تجرحوا أجسادكم لميت. وكتابة وسم لا تجعلوا فيكم” (19: 28). وتتكرّر هذه الوصية في الإصحاح الحادي والعشرين من السفر نفسه، ونجدها أيضًا في سفر التثنية.

قد يقول البعض إنّ هذه الوصايا أُعطيَت للكهنة اللاويين، لا لغيرهم من الشعب اليهودي. إذا كان الأمر كذلك، من الواضح أنّ الكاهن الذي كرّس ذاته لله الأوحد والحقيقي، لا يستطيع أن يحمل على جسده أيّ وسم يدلّ على ولائه لكائنٍ آخر. ولا يفترض بالكهنة وبالعلمانيين على حدّ سواء أن يظهروا ولاءهم لله بوسمٍ خارجي، إنما يكون ذلك بطريقة عيشهم.

يظهر هذا المبدأ الديني في تقليدنا المسيحي الذي يشدّد على أنّ الإيمان لا يكون بالافتخار برموزٍ مسيحيّة، توشم أو تُحفر على أجسادنا لتدلّ على إيماننا بالمسيح.

أمّا حمل الصليب في سلسلة، فأمرٌ مختلفٌ كليًّا. فصليب معموديّتنا ليس ملصقًا بجسدنا، بل يمكن إزالته. يشكّل هذا الصليب حمايةً ضدّ القوى الشيطانية، وحافزًا لعيش حياة الإيمان. إضافةً إلى ذلك، ليس هذا الصليب مدعاة تباهٍ أو حليةً تتماشى مع الموضة، فنحن نحمله في عنقنا من أجل الحماية، وبالأكثر من أجل البركة.

تُعلّمنا الكنيسة أنّ التعبير عن أرثوذكسيتنا يكون بالشكر والاتضاع، مدركين أنّ المسيح مات من أجل خلاصنا. وهذا السلوك المستقيم هو انعكاسٌ للتواضع الذي أظهره الرب عندما أتى إلى هذا العالم لأجل محبته العظيمة لنا. لا نجد في الكتاب المقدس أنّ الله إلهٌ مفتخر. الله، الذي هو إله محبّة، لا يعرف الافتخار، بل يعرف التواضع فقط.

ولنكون أكثر تحديدًا في مسألة الوشم، يقول الكتاب المقدّس إنّ أجسادنا ليست ملكنا. فبولس الرسول يقول: “أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم؟ (1كو 3: 16). ويضيف: “أم لستم تعلمون أنّ جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم، الذي لكم من الله، وأنكم لستم لأنفسكم” (1 كو 6: 19).

بالتالي، من الواضح أنه لا يحقّ لنا وسم أجسادنا بالوشوم، لأننا لا ننتمي إلى أنفسنا بل إلى الله. إنّ هذه الموضة الرائجة، من وشم وثقب الوجه واللسان، لها جانبٌ آخر. يبدو أنّنا، وفي ظلّ مجتمع الكومبيوتر والمواقع الإلكترونية والفايسبوك، نتوق إلى لفت الانتباه. لدينا حاجة إلى أن نكون معروفين وأن يَعترف الآخرون بنا. ومن السخرية أنّه منذ بضعة عقودٍ، عندما كان الناس يزورون السيرك الذي يأتي سنويًّا إلى المدينة، كانوا يشاهدون في إحدى الفقرات شبّانًا يصعدون على المسرح ليتباهوا بأجسادهم المملوءة بالوشوم، وبالطبع كان هؤلاء الشبّان يختطفون انتباه آلاف الناس.

وأختم من منظورٍ عملي: لماذا قد يخاطر عضوٌ من الكنيسة بالتقاط مرضٍ خطيرٍ مثل الإيدز عبر استعماله الإبر التي قد تكون ملوّثة. هل يستحقّ الأمر هذا الثمن؟

مع بركاتي الأبوية

المتروبوليت إشعيا مطران دانفر

admin:
Related Post