X

بحث في التراث الأرثوذكسي

الكنيسة بين الكتاب المقدّس والآباء

عظة للأرشمندريت توما (بيطار)

أُلقيت في دير مار يوحنا – دوما

بمناسبة عيد القدّيس غريغوريوس اللاهوتي

في 25/ 1/ 2001

 

باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين.

يا إخوة، قال الرب: “أنا هو الباب”. الرب هو باب الخلاص، هو باب الملكوت، هو الباب المفضي إلى قلب الآب السماوي. ليس هناك من باب آخر. ولكن، سُرَّ الرب الإله وارتضى أن يجعل نفسه باباً لنا من خلال بعضنا البعض. محبّته لنا مرتبطة بمحبّتنا لبعضنا البعض. عنايته بنا مرتبطة بعنايتنا ببعضنا البعض. إيماننا به مرتبط ارتباطاً وثيقاً باهتمامنا أحدنا بالآخر. لهذا، كان كل واحد منا مدعوّاً لأن يقتدي بالمسيح، لأن يصير إيقونة للمسيح بين إخوته. لهذا، كنّا وما زلنا وسنبقى بحاجة إلى آباء، في كنيسة المسيح، لأن الآباء هم إيقونات المسيح. وهم، تالياً، الذين يعلّموننا كيف نصير إيقونات للمسيح. أو، بكلام آخر، هم الذين بهم ومن خلال خبرتهم يعلّمنا الروح القدس كيف نصير إيقونات للمسيح، كيف يصير كل واحد منا مسيحاً على مثال المسيح.

إذاً، كل واحد منا، لإخوته، بابٌ للملكوت. لا يمكن لأحد أن يستغني عن هذا الباب أو أن يدخل من باب آخر، لأن الرب الإله ارتضى ان يَخلُص الإنسانُ بالإنسان. كلّنا أهل البيت، عائلة الآب، كنيسة المسيح. من هذا المنطلق، وبكل بساطة، يرتبط خلاصنا بخلاص الإخوة. خلاصنا مرتبط بسعينا إلى خلاص الناس، كل الناس. كل إنسان أخ لنا، في المسيح، بالقوّة، ويصير أخاً لنا، بالفعل، بالكرازة بالإنجيل.

وإذا ما كنا متمسّكين بكلمة الحق، فإننا نتمسّك، بالأكثر، بالذين يمدّون لنا كلمة الحق. نتمسّك بآباء الكنيسة، لأنهم هم الذين أُعطوا أن يفسّروا لنا الكتب. هم الذين أُعطوا ان يجعلوا الكتب في متناولنا وأن يساعدونا على تحويل الكلام الإلهي إلى غذاء قابل للهضم يغتذي به كل واحد منا على قدر قامته. الكلمة الإلهية لا تنفصل، إطلاقاً، عن كلمة الذين يفسّرونها. لا فصلَ، إطلاقاً، بين الكلمة الإلهية والآباء. نحن، من دون الآباء، نخبط في مجال الكتاب المقدّس، خبط عشواء. لا نعرف كيف ندخل ولا كيف نخرج ولا ما يمكن ان يعني هذا، ولا ما يمكن ان يعني ذاك. الكلمة أُعطيت لنا لتصير لنا طعاماً، حياة جديدة. “خذوا كلوا”. الكلمة جُعِلَت لتؤكل، أي لتصير فينا غذاء جديداً وحياة جديدة. لولا الآباء لكان كل واحد منا يفسّر الكتاب على هواه، لأضحى الكتاب أُلعوبة تتلهّى بها أهواء الناس. وإذا ما قلنا آباء، فعلينا أن نفهم ما نعنيه بهم فهماً صحيحاً. الآباء في المسيح هم الذين سكن فيهم روح الرب القدّوس. لهذا صار بإمكانهم أن يفسّروا لنا الكتب، أن يقولوا: هذا حق وذاك باطل. صار بإمكانهم أن يقطعوا، باستقامةٍ، كلمة حق. الكتاب المقدّس هو كلمة الله. وإذا ما كان الكتاب المقدّس كلمة الله، فمَن يستطيع ان يفسّره لنا غير الذي تكلّم فيه؟ لا يعرف الله إلا روح الله الذي فيه. نحن بإمكاننا أن نفسّر ما هو للإنسان، إذا اجتهدنا، إذا تعلّمنا، إذا تثقّفنا. كلّما ازدادت علومنا، كلّما ازدادت معارفنا، تمكّنا من أن نفسّر، قليلاً أو كثيراً، ما هو من الإنسان. ولكن، مَن الذي يفسّر لنا كلمة الله؟ وحده روح الله يقدر أن يفسّر كلمة الله. وآباؤنا هم الذين اقتنوا روح الرب القدّوس، فبات بإمكانهم أن يفسّروا، باستقامةٍ، كلمة الحق. لهذا السبب، هذه الكلمة التي نتلقّفها من أفواههم، نتمسّك بها تمسّكاً كاملاً.

بالنسبة لنا، إذاً، لا فصل بين كلمة الله وتفسيرها. وإذا ما كانت كلمة الله موحىً بها من الله كما يقول الكتاب:”كل الكتاب موحى به من الله”، فتفسير الكتاب ينبغي ان يكون موحى به من الله أيضاً، وإلا لا يكون تفسيراً مقبولاً. لهذا السبب، نتمسّك بفهم آبائنا للكتاب المقدّس. هم الذين يحكمون في هذا الأمر. وليس بشري، على وجه البسيطة، مهما بلغ من الذكاء والعلم حدّاً، يمكنه ان يقطع في مسائل الكتاب المقدّس. ربما أمكنه أن يقطع في بعض المسائل التاريخية أو اللغوية أو الحضارية، لا في ما يمتّ بصلة إلى فكر الله. وحده الذي يعرف الله جيّداً، الذي يتكلّم الله فيه ومن خلاله، الذي أضحى إيقونة لله، يقدر أن يحكم في مسائل الكتاب المقدّس باعتباره كلمة الله. نحن لسنا بحاجة لمفسّرين أذكياء ومتعلّمين وفهماء. الله اختار الجهلاء ليخزي الفهماء. فكل تعليم، في كنيسة المسيح، ينبغي أن ينبثق من الكتاب المقدّس ولكنْ وفق تفسير آباء كنيستنا. لا نقبل أن يخترع إنسان تفسيراً جديداً. كل مستجد ينبغي أن يكون في خط الآباء القدّيسين. هناك خطوط عريضة سَبَق أن رسموها، ورسموها بدمهم وبروح الرب الذي سُرَّ وارتضى أن يقيم في أجسادهم المائتة. هذه الخطوط العريضة لا حياد عنها. هذا لا يعني، أبداً، أن علينا في كل تفسير، في كل تفصيل، أن نجد مقابلاً لدى فلان أو فلان من الآباء. طبعاً، هذا غير مطلوب. المطلوب أن تكون هناك خطوط عريضة، أن تكون هناك حدود نفهم الكتاب المقدّس في إطارها، من ضمنها، آخذين على عواتقنا، كل حين، عدمَ الحيدان عنها.

إذاً، نحن أيضاً نساهم في تفسير الكتاب . هذا لا شك فيه. ولكننا نساهم في تفسير الكتاب في ضوء تفسير الآباء، لا بمعزل عنه. الأسلوب الذي يتّبعه بعض الدارسين اليوم، من الذين يرفضون أن يكون فوق رؤوسهم سقف يلتزمون به، هو أسلوب أهوائي من الطراز الأول. وهو لا يقود الإنسان ولا المتعلّمين، في هذا الزمن، إلاّ إلى سلسلة لا تنتهي من الهرطقات. هناك سقف ينبغي أن نستظلّ به، سقف التراث، سقف الآباء، سقف الفهم الآبائي للكتاب، سقف الوجدان الآبائي والوجدان التراثي: فمثلاً، نحن لا نسمح لأنفسنا بأن نقرأ الكتاب المقدّس، لنستنتج منه شيئاً مخالفاً لما خرج به آباؤنا لجهة الإيمان وأساسيات الإيمان والعقائد الإيمانية. لا يمكننا أن نقرأ الكتاب المقدّس بطريقة تخالف الخبرات المعروفة والمثبتة والمتداولة في كنيسة المسيح. لا يمكننا أن نقول عن أمر ما، خرج به الآباء أو تلفَّظ به الآباء، أنه ليس موجوداً في الكتاب المقدّس. صحيح أن الكتاب المقدّس لم يتكلّم بصراحة عن أمور كثيرة، عن الثالوث القدّوس، مثلاً، لكن آباءنا قرأوا الكتاب المقدّس في الروح، وبيَّنوا المواضع التي أشارت، بصورة مباشرة وغير مباشرة، إلى الثالوث القدّوس، ولو بطريقة ظلّية. مَن الذي يحكم؟ الروحي هو الذي يحكم. أليس هذا ما قاله الرسول بولس إلى أهل كورنثوس في رسالته الأولى؟

إذاً، نحن نقرأ الكتاب في ضوء ما تعلَّمْنا، في ضوء ما استلمْنا. كتابنا، لا ينفصل، إطلاقاً، عن خبرات أنطونيوس الكبير ومكسيموس المعترف وسمعان اللاهوتي الجديد. كتابنا لا ينفصل، إطلاقاً، عن السيرة التي سَلَكَ فيها آباؤنا ابتغاءَ القداسة، جيلاً بعد جيل. والحقيقة أننا، في آبائنا، نعاين – إذا ما كانت لنا عيون للبصر – الكتاب المقدّس إيّاه، ولكن معيوشاً ومشخصَناً. ليس هناك قدّيس واحد يماثل، بالتمام والكمال، سواه من القدّيسين. هناك، دائماً، طابع شخصي في القداسة. ولكن، هناك، في الوقت عينه، وحدة في الروح، وحدة في الكلمة، وحدة في عمل الله. وليس هذا بعجيب، طالما الروح واحد. لهذا، نرى، في آبائنا، سلسلة لا حدّ لها من الخبرات الخاصة التي تتماهى، في قسم كبير منها، وخبراتنا نحن وحاجاتنا نحن. لهذا نتعلّم منهم كيف نسلك، ماذا نعلّم، كيف نرشد. فنحن، إذا ما علَّمْنا القدّيسَ أنطونيوسَ الكبير، فنحن، في الحقيقة، نعلّم الكتاب المقدّس معيوشاً. حين نتعاطى الليتورجيا، نحن، في الحقيقة، نتعاطى الكتاب المقدّس مسكوباً بقالب تسبيحي. لهذا، لا فصل، إطلاقاً، بين الليتورجيا والكتاب المقدّس. ونحن، إذا ما أمعنّا النظر في النصوص الليتورجية، رأينا أنها مُشْبَعَة بالكتاب المقدّس، مشبعة بكلمات الكتاب المقدّس، ومشبعة بخبرات الآباء التي تمدّ لنا كلمات الكتاب المقدّس معيوشة ومفروزة. حالنا كحال النحلة. النحلة تأخذ الرحيق من الأزاهير، وما تجمعه تضيف إليه لعابها الخاص، تتفاعل وإيّاه، وإذ تتفاعل وإيّاه يصير لها قابلاً للهضم. ثم بعد تمام عملية التفاعل، يخرج الرحيق من النحل عسلاً. هل يمكن الفصل بين الرحيق والتفاعل الحاصل في جسم النحلة والعسل؟ مستحيل. غبي من يحاول أن يفصل الرحيق عن العسل. خبرات الآباء هي العسل المستمدّ أساساً من رحيق الكلام الإلهي. مَن يفضّل أن يتعاطى الرحيق مباشرة، هذا كيف يحوّله عسلاً؟ أيظن ان التحوّل يتمّ بصورة آلية؟ كلا، بل عليه ان يتفاعل والكلام. كيف؟ يتعلّم من خبرة غيره، يقتدي بغيره. كل واحد منا بحاجة إلى معلّم. كل واحد منا بحاجة إلى مثال، إلى أنموذج يقتدي به. الحياة الروحية تكون بالتلمذة. لم يعطنا الرب يسوع المسيح كتاباً، أعطانا نفسه كتاباً، أعطانا كلامه كتاباً. وهذا الكلام الذي أعطانا إيّاه، لا ينفصل، بحال، عن شخصه. الرب يسوع المسيح أعطانا رحيقاً، وأعطانا إيّاه، في جسده، معسّلاً. فبات هذا العسل من ذاك الرحيق. ولهذا، في شخص الرب يسوع، لا فصل، إطلاقاً، بين الكلمة المنطوق بها والكلمة التي صارت جسداً. مآل الكلمة أن تصير جسداً. ليس الموضوع، في مداه الأخير، أن نتعاطى الكلام الإلهي كعصارة فكرية. الموضوع أن يتحوّل الكلام الإلهي فينا إلى جسد جديد، إلى عسل. فكيف يمكننا، بعد ذلك، أن نحتقر عسل الآباء، الذي هو الرحيق إيّاه، ولكن متفاعَلاً في أكباد الآباء؟!

من هذا المنطلق، كل المحاولات التي يجري تبنّيها لفصل أبعاد عمل الخلاص أحدها عن الآخر، أي لفصل الليتورجيا عن الروحانيات والروحانيات عن الآباء والآباء عن العقائد والعقائد عن الكتاب المقدّس، كل هذه محاولات فاسدة من الأساس. فقط بقصد دراسة جانب من جوانب التراث ننهج نهجاً تخصّصيّاً. ولكنْ نحفظ، في أذهاننا، ان الكل واحد متكامل ونسعى، من خلال التخصيص، إلى دعم التكامل والدفاع عنه. لا يجوز لأحد أن يتعاطى الليتورجيا وكأنها قائمة في ذاتها. ولا يجوز أن يتعاطى الكتاب المقدّس وكأنه قائم في ذاته. هناك هرطقة أخذت في التداول حتى في كنيسة المسيح، ان الكتاب المقدّس وحده دون جوانب التراث الأخرى هو الموحى به من الله. إذا كان الكتاب المقدّس وحده هو الموحى به من الله، وإذا كان تفسير الآباء للكتاب المقدّس، وتالياً استخلاص الآباء للعقائد الإيمانية، غير موحى به من الله، فنحن أشقى الناس. لماذا؟ لأننا، إذ ذاك، نكون فريسة للظلمات وملهاة لأهواء الناس. ماذا أنتفع لو قلت إن الكتاب المقدّس موحى به من الله، ولم يكن لنا مَن يفسّر كلمة الله كما قصدها الله نفسه؟ أنا بحاجة إلى مفسّر، إلى معلّم. أنا بحاجة إلى روح الرب ليفسّر لي الكتاب. فإذا لم يكن روح الرب هو المتكلّم في الآباء، فبمن يتكلّم إذاً؟! وإذا كان لا يتكلّم بالمرّة، فأنا لا طاقة لي، مهما حاولت، على اختراق الكتاب المقدّس لأفهم فكر الله. ولكني أعرف جيّداً ما قاله الرسول المصطفى:” إنّ لنا، نحن، فكر المسيح”. وهو قال ذلك لأن روح الله كما ذكر في          1 كورنثوس كان عنده. فإذا كان لنا، نحن، فكر المسيح، فلأن لنا روح الله. ولكن مَن هم الذين يقتنون روح الله وتالياً فكر المسيح إلا الآباء القدّيسون؟! وإذا كان القدّيس هو الذي يقتني فكر المسيح، فلا بدّ أن يكون تعليمه موحى به من الله وليس منه. لهذا السبب أبحث لا عن الكتاب المقدّس فقط، بل عمن يفسّره لي أيضاً. إنجيلي لا ينفصل، بحال، عن سيرة آبائي وتعليمهم.

من هذا المنطلق، إذا أخَذْنا الأب الذي نحتفل بذكراه اليوم، أبانا الجليل في القدّيسين غريغوريوس اللاهوتي رئيس أساقفة القسطنطينية، فإن ما عَلَّمَه هو، بالضبط، المفتاح الذي أُعطي للكنيسة من روح الله ليتسنّى لها ان تفتح مغاليق الكتاب المقدّس. لقد سُرَّ الرب الإله بهذا الإنسان، وطبعاً بغيره من الآباء، أن يعطينا، لا الكتاب المقدّس وحسب، بل المفتاح الذي نفتح به هذا الباب، لندخل إلى أسرار الكتاب المقدّس، إلى أسرار عمل الله، إلى الحقيقة الداخلية للكتاب المقدّس، إلى قلب الله. بغير ذلك يبقى الإنسان في مستوى الجوانب البشرية للكتاب. يبقى من دون فهم ولا علم ولا معرفة بعمل الله وروح الله والخلاص الذي سُرَّ الله أن يَمدَّه لنا لنأكل ونحيا.

إنّ شخصاً كالقدّيس غريغوريوس اللاهوتي يساوي، في نظرنا، كلَّ ما أتَتْه البشرية من فكر وفلسفة وإنجاز، منذ فجر التاريخ وإلى الآن، وأكثر بما لا يقاس، لأنه يتكلّم من فوق، أو بالأحرى، يتكلّم الله فيه بروحه القدّوس، من فوق. لهذا، حين أسمع القدّيس غريغوريوس اللاهوتي، فأنا أسمع كلمة الله معسولة ومقدَّمة لي طعاماً قابلاً للهضم لأتغذى به وأتحلّى، كما لا يمكنني أن أتحلّى بطعام آخر في هذا الدهر.

نحن، إذاً، يا إخوة، نتعاطى كل جانب من جوانب التراث الكنسي باعتباره واحداً وسواه من الجوانب. إذا كنتُ أهتم بالليتورجيا فاهتمامي بالليتورجيا هو اهتمام بالقداسة. وإذا كنت أهتمّ بالكلمة الإلهية، فما ذلك إلا لأني ألتمس القداسة. وإذا كنت أتعلّم العقيدة وأتمسّك بها، فلكي لا أضلّ عن درب القداسة. وإذا كنتُ أتعلّم الآباء وأعلّم الآباء، فلأني أريد أن أتعلّم وأعلّم معالم الطريق التي تفضي إلى الملكوت والتي تعيننا على الاشتراك في قداسة الله. ليكن كل شيء بينكم للبنيان. ليكن كل شيء بينكم للقداسة. كلّما حاول أحدنا فصل جانب من جوانب التراث عن هذا السعي إلى القداسة، سقط في الهرطقة. إذا كان الواحد يجتهد ليتعلّم الليتورجيا جيّداً، ليتقنها وفق الأصول التيبيكونية، ولا يبالي بالقداسة، فإنه، يسقط عملياً في الهرطقة. ما هي الهرطقة؟ الهرطقة هي الضلال. كل شيء لنا في كنيسة المسيح هو لأجل القداسة. فإذا كنا نُسَرّ بالليتورجيات ونفرح بها، إذا كنا نفرح بالتراتيل والترانيم، ولا نبالي بالسلوك في قداسة السيرة، فنحن، إذ ذاك، نَجْتَرّ أهواءنا حيث لا ينبغي، في إطار الليتورجيا، والطقوس والعبادة. الشيء نفسه يُقال عن الكتاب المقدّس أو العقيدة أو تعليم الآباء. بإمكان الواحد منا أن يتقن تعليم الآباء جيّداً، ولكن إذا كان لا يبالي بسيرة القداسة ولا يهمّه أن يتنقّى ولا أن يعرف نفسه ولا أن يتوب عن خطاياه ولا أن يلتمس وجه ربّه، فإنه، إذ ذاك، ومن منظار روح الرب، هرطوقي، ولو كان عارفاً بالنصوص الآبائية جيّداً. يكون قريباً من التجديف على الله لأنه يتعاطى الإلهيات كتجارة كلام، كحكمة، معتمداً لا على برهان الروح والقوّة كما فعل الرسول المصطفى، لأنه ليس له، بل على سمو الكلام والإقناع.

هذا الكلام قد لا نجده متمثَّلاً بيننا إلى حدّ بعيد. مسائل الحياة الروحية متروكة، هذه الأيام، للأذواق، متروكة للإستنساب الشخصي. الناس يتمسّكون بالحرف، ويعفّون عن ممارسة الوصايا. “يعفّون عن البعوضة ويبلعون الجمل”. يهمّهم من العقيدة شكلها، أن تكون مرتّبة في خزائن عقولهم، فيما يسلكون في تراخٍ كبير. لا يبالون بالصلاة ولا بالصيام ولا بالتوبة وحفظ القلب. يستوطنون الهرطقة ولا يبالون.

من هنا ضرورة الحرص والتشديد على أن الدقّة في استعمال النصوص ينبغي ان تكون مرتبطة بالدّقة في السلوك في الحياة الروحية. تمسّكنا بالنصوص يجب ان يكون معبّراً عن أمانتنا للعيش في المسيح، وإلا لا ننتفع شيئاً، بل نجمع على رؤوسنا جمر نار.

لهذا، يا إخوة، نفرح ونُسَرّ برجالات كهذا الرجل. نشكر الله عليه، ونُسَرّ به لأنه واحد منا. هو تعاون مع الله فأسبغ عليه ربّه رحمة عظيمة، وأسْبَغَها علينا أيضاً من خلاله. كل مَن تعاوَن مع ربّه، كل مَن تاب إلى ربّه، تاب ربُّه عليه، وأعطاه ربّه وأعطانا من خلاله الميراث، ميراث الملكوت. كل واحد منا، مهما كان حقيراً، مهما كان صغيراً، مهما كان منسيّاً، كل واحد منا من دون استثناء، إن عرف أن يتوب إلى ربّه، عرف ربّه ان يتوب عليه. باركه وباركنا من خلاله، قدّسه وأعطاه لنا مساهماً في قداستنا.

فمَن له أذنان للسمع فليسمع.

admin:
Related Post