X

بحث في التراث الأرثوذكسي

الانتحال

الأب أنطوان ملكي

من المهم أن يعرف الإنسان عدوه الحقيقي أي الشيطان الذي يدأب على استبدال نِعَم الله وتشويهها وإغواء الإنسان إلى إساءة استخدامها. فالمال يفسده بالجشع والجنس بالشهوة واحترام الذات بالكبرياء التي منها كل الشرور على ما يقول القديس يوحنا السلمي. والرب يسوع يصف الشيطان مسمياً إياه إبليس الذي ” كَانَ قَتَّالًا لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌ. مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ” (يوحنا 44:8).ـ

الشيطان في اليونانية هو (διάβολος – diabolos). معنى الإسم هو المفتري أي الذي يكذب ظلماً لإيذاء الآخرين وإدانتهم وتقطيع العلاقات بينهم. طبيعته روحية أصلاً، ولديه قدرة عظيمة على التخفي، لهذا كثيرون، ومنهم رؤساء كهنة وكهنة، لا يعتقدون بأنه موجود بالرغم من تكرار التعليم عنه في الكتاب المقدّس والآباء. من أهمّ حيله العظيمة إقناعنا بأنه غير موجود، أو بأننا غلبناه، خاصةً إذا اعتقدنا أن ذلك تمّ بقوتنا الخاصة. يعلّم القديس سيباستيان دابوفيتش: “لقد سمعت الناس يقولون أنه لا يوجد شيطان أو شياطين… بالتأكيد لن يكشف الشيطان عن نفسه للذين لا يؤمنون لأنهم إذّاك قد يؤمنون وهذا يكون ضد خطته الماكرة”.ـ

نعرف من سيَر بعض القديسين الكبار أن الشيطان قد يصبح مرئياً ولكن للأعين الروحية المتمرّسة المختبِرة التي أهّلها الله لأن تبصر روحياً وأعطاها موهبة التمييز. كل ما نسمعه عن لقاءات مع الشيطان وأشكال له يراها الناس العاديون هي خدع منه وهؤلاء مخدوعون. نحن لا نعرف كيف يبدو الشيطان عندما يصبح مرئيًا وأغلب الصور المتداولة مأخوذة من السينما التي تخدمه في أغلب الأحيان. نحن نعرف أنه قادر على اتخاذ أشكال مختلفة، كما اتّخذ في التكوين هيئة حيّة، كما يعلّم بولس الرسول: “الشَّيْطَانَ نَفْسَهُ يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى شِبْهِ مَلاَكِ نُورٍ” (2كورنثوس 14:11).ـ

الأهم من كل هذه التفاصيل هي أن نفهم أن الحرب الفعلية مع الشيطان هي حرب في داخلنا. الرسول بولس يصف هذا الكلام بقوله “إِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ” (أفسس 12:6). القديس مكاريوس الكبير يحدد أن “أهم عمل في الجهاد الروحي هو دخول القلب وشن حرب على الشيطان هناك”. هذا يلزمنا بأن نتروّى قليلاً قبل ربط الأحداث اليومية التي تمر بالعالم بالحرب مع الشيطان. بالطبع، الرسول بطرس يقارنه بأسد زائر (1بطرس 8:5) ينتظر ليفترس، لهذا نحن نفهم أنه جاهز لاستغلال أي حدث أو خبر أو عمل ليفترس الناس. وأهم سلاح لدى الشيطان، كما نفهم من سير القديسين وأقوالهم، هو اليأس أي حرمانهم من الرجاء الذي هو ثاني الفضائل المسيحية. فمَن اهتز إيمانه أو ضعُف يكون الشيطان جاهزاً ليحرمه الرجاء ويرميه خارج المحبة.ـ

شهدنا في السنوات الأخيرة ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي ومن قبلها الإنترنت، مستوى من الحرية بلغ حد التفلّت في كل الأمور. في ما يختصّ بشأننا الكنسي، أحد مظاهر هذا التفلت كثافة الكتابة والكاتبين بغضّ النظر عن صحة وسلامة المكتوب والقارئ. ليس هذا المقال لمناقشة هذه الحالة الأزمة التي حُكي عنها الكثير في الكنيسة وخارجها. أمر وحيد يقصد هذا المقال تسليط الضوء عليه هو الظهور الشيطاني من خلال انتحال الأسماء، حيث يلجأ البعض إلى الكتابة بأسماء ليست لهم، بل لأشخاص آخرين، أو لأشخاص وهميين. هذا واحد من الظهورات الشيطانية التي نرى أثرها وتؤذي الكثيرين من أبناء الكنيسة.ـ

علمياً يُحدّد الانتحالImpersonation بأن يفترض الشخص عن قصدٍ هويةً أو صفة زائفة أو وهمية. قانونياً، يُعتَبَر الانتحال جرماً. في علم النفس، يندرج الانتحال تحت ما يسمّى متلازمة الدجال (Imposter Syndrome) وقد يكون أحد ظواهر الانفصام. روحياً، الانتحال هو كذب، أي أنه تَبَنٍّ لوسائل الشيطان وانضواء في بنوّته لأنه أبو الكذّاب. وبالتالي الانتحال هو عمل شيطاني، فحتى لو كان محتوى ما يُبَثّ صالحاً لن يوصِل الرسالة لأن الوسيلة شيطانية. يحذّرنا الآباء من شيطان اليمين، الذي يوحي للإنسان بأن عمله صالح ويمتدحه، فيما هو يدفعه نحو الهاوية الروحية.ـ

ما الداعي إلى هذا الكلام؟ إنه تعدد حالات الانتحال وتكرارها. مؤسف أن تجربة انتحال الأسماء يقع فيها بعض الإكليروس، بغضّ النظر عن ما يدفعهم نحو هذا العمل. كما أن بعض الحالات الأخرى هي من الذين يُحسَبون من المتقدمين في الكنيسة، ومنهم أصحاب مهن يُفتَرَض بالقائمين فيها، كالمحامين مثلاً، أن يكونوا الحافظين للأمانة في كل ما يقومون به. البعض يقع في هذه التجربة عن جَهل. لكن بعض الكتابات تشير إلى أن كتّابها المنتحلين لهم غايات شريرة نحو مَن يقرأ، وخاصةً في فترة الحجر حيث لم يكن للكثيرين إلا الشبكة العنكبوتية للبقاء على اتصال مع العالم. بعض المنتحلين واضح في أن غايته هي بثّ الذعر عن طريق تلفيق الأخبار وتزوير المعلومات والترجمة على هواه.ـ

إن الرعاية الكنسية، على كافة المستويات، تقتضي فضح الكذب بحكمة تقود إلى البنيان، ووضع حد له بشكل لا يؤذي أصحاب النفوس البريئة. ليس مسموحاً لأي راعٍ أن يغضّ النظر عن الكذب الذي يؤثّر على رعيته، عندما يتأكّد من ذلك، وإلا يكون تخاذله تبريراً للكذب وتغطية عليه. هذا ينطبق على حالات الانتحال المتعددة التي شهدناها في كنيستنا في السنتين الأخيرتين. الناس لم تنسَ بعد زاهي الأميوني ورامي عودة وإيلي خوري وجاد غانم، فيما اليوم، في جائحة الكورونا، يتساءلون عمَن يكون يانيس قسطنطينينذيس وماريا ماريا وغيرهما من الأسماء المنتَحَلة من أشخاص كتبوا في الكنيسة وعنها.ـ

ختام هذا المقال رسالتان. رسالة أولى إلى جميع المنتحلين، عن قصد أو غير قصد، فيها دعوة للامتناع عن هذا العمل الذي يؤذي إخوة الرب الصغار، وإلى التوبة لأنهم يخدمون الشيطان، عن وعي أو غير وعي، إذ يكذبون عن سابق تصوّر وتصميم. الرسالة الثانية إلى الرئاسة الكنسية، ما دام باب الرسائل مفتوحاً: إذا فُتِح باب المحكمة لتأديب “المتمردين”، فليُؤدَّب المنتحِلون أيضاً، من أجل الحق والعدل والسلام في الكنيسة.ـ

***

admin:
Related Post