X

بحث في التراث الأرثوذكسي

القدّيس مكسيموس المعترف

 

إعداد الأب باسيليوس الدبس

 

 

حياته

إن القرن السابع هو أيضاً قرن اضطرابات وحروب ومشاكل دينية، فبعد أوطيخا جاءت بدعة الطبيعة أو المشيئة الواحدة في فترة كان الفرس والعرب على أبواب تحطيم الإمبراطورية الرومانية فأتت الحلول السياسية على حساب الحلول الدينية فجاءت أولاً بدعة المشيئة الواحدة التي هي في الواقع بدعة الطبيعة الواحدة ولكنها تحت شكل آخر لذلك سُمّيت هذه البدعة ببدعة “الحرباء”، فقام الإمبراطور هيرقل واتفق مع بطريرك القسطنطينية على القول بالمشيئة الواحدة والفعل الواحد بدلاً من الطبيعة الواحدة على أساس أن المونوفيسيت سيوافقون على الانضمام إلى الكنيسة فتُحل المشـكلة داخلياً في الإمبراطورية. لكن المعارضة بدأت من بطـريرك أورشليم صفرونيوس الذي قال  أن هذه البدعة هي في جوهرها مونوفيسيتية وبعده جاء قديسنا المعترف:

ولد القديس مكسيموس في مدينة القسطنطينية[1] سنة 580 م. من أسرة شريفة، وفيرة الغنى، وذات مركز رفيع، هذا مما ساعده في تعلّم علوم عصره، فبرع في الفلسفة والخطابة .ذاع صيته في العاصمة الرومانية الشرقية ( أي القسطنطينية) فاختاره الملك هيرقل رئيسـاً لديوانه ووزيراً من وزرائه وكاتماً  لأسـراره ومن ثم لحفيد هيرقل  كنستس [2].  فصار صاحب الرأي الكبير والكلمة النافذة يسوس الدولة بحكمته ودرايته. لكن مع كل هذا المجد والشهرة فضّل أن يترك كل شيء، المركز، الشـهرة، والغنى، ليعيش راهباً في دير قريب من القسطنطينية يدعى ” خريسـوبولي ” ( أي مدينة الذهب ) وبدأ فيه العبادة والصوم والصلاة وكتابة مقالاته ضدّ المنادين بالمشيئة الواحدة للمسيح .

بعد فترة، أُختير ليكون رئيساً للدير، لكنه اضطر أن يترك القسطنطينية  إلى أفريقيا مع اثنين من تلاميذه بسبب هجوم الجيوش الفارسية على المدينة .

في هذا الوقت كانت بدعة المشيئة الواحدة قد تسربت إلى الشرق وكان صفرونيوس بطريرك أورشـليم يحاربها فاندفع مكسيموس من جهته يهاجمها أيضاً مدافعاً عن الإيمان الصحيح الذي يقول:” إن في المسيح يسوع طبيعتين كاملتين وفعلين كاملين وإرادتين كاملتين … الطبيعة البشرية والإرادة البشرية والطبيعة الإلهية وإرادة الإلهية  “.

مات صفرونيوس،  فبقي  مكسيموس وحده في الشرق يدافع ضد المشيئة الواحدة فهدده الملك وبطاركة القسطنطينية والإسكندرية.

في سنة 645م. أفحم مكسيموس البطريرك بيروس  الهرطوقي في أفريقيا، في جدال علني أمام عددٍ من الأساقفة دعا إليه غريغوريوس البطريق حاكم البلاد، فأسكته بعلمه الغزير ومنطقه القوي، مُظهراً سموّ التعليم القويم ببراهين قاطعة مما دفع بيروس إلى الإعتراف بخطئه والعودة عن ضلاله.

عُقدت في أفريقيا عدّة مجامع بحضور مكسيموس وفيها أُبسلت هذه الهرطقة، كما ذهب القديس إلى روما حيث استقبله البابا مرتينوس الذي دعا إلى مجمع وحرم تلك البدعة والقائلين بها. فلما وصل الخبر إلى الملك كونستانس أمر باعتقال مكسيموس فكان كذلك. فأتى مكسيموس، وكان في السبعين من عمره ،مع أثنين من تلاميذه إلى القسطنطينية سنة 653م، وما إن وصل حتى هجم عليه الجند وعرّوه من ثيابه الرهبانية وجرّوه جرّاً في شوارع المدينة فوصل سجنه على آخـر رمق. فيما بعد حاول الملك استمالته ولكنه رفض فنفاه وتلميذَيه معذِّبين إياهم أشدَّ تعذيب .

سنة 656 أرسل إليه الملك كنستس اسقفاً من قيصرية مع وفدٍ من البلاط ليقنعوه بالعدول عن رأيه ولكن الوفد عاد وهو مقتنع بما قاله لهم مكسيموس فأرسل الملك وفداً ثانياً ليتملّقوه ويغروه علّه يقبل المساومة لكنه رفض [3]،فما كان منهم إلا أن هجموا عليه وأوسعوه ضرباً، وبعد أيام استدعاه الملك وأمره بأن يحرم البابا مرتينوس والبطريرك صفرونيوس لكنه أبى كعادته الرضوخ إلى ما ليس له قناعةً فيه. فكانت نتيجة تمسكه بالحق والحقيقة أن قُطعت يده اليمنى ولسانه كما لتلميذَيه أيضاً .

بحسب سيرته يقال أن الرب منحه النطق بطريقة عجائبية وأنه بقي وتلميذَيه يعلّم الشعب الإيمان المستقيم الرأي. رقد قديسنا في المنفى سنة 662 م. وقد استحق لقب المعترف نظراً لجهاداته واعترافه بالإيمان المستقيم الرأي. تعيّد له كنيستنا في 21 كانون الثاني(ذكرى رقاده )  وفي 13 من شهر آب (ذكرى قطع لسانه ويده ).

مؤلفاته

بدأ  القديس مكسيموس بالكتابة في سن متأخرة، فقد جاء أسلوبه على نمط فلسفي، إذ إنه تمثّل منطق ارسطو على نحو لا يخفى مُطالع كتاباته، فبراعته في استخدام المصطلحات الأرسطوطاليسية وكل المفاهيم الفلسفية الإغريقية القديمة جعلت من كتاباته، مع صعوبة فهمها وغموضها كأسلوب أغلب المثقفين، منارةً للباحثين عن حقيقة المسيح،وهذا مما حدا القديس يوحنا الدمشقي على تسميته بـ ” فيلسوف الإلهيات” . أما كتاباته فيمكن تصنيفها كالآتي:

التفسيرية

  1. كتب 79 جواب على أسئلة مختلفة طُرحت عليه وكانت تتناول مشكلات رعائية وعامة، دوّنت حوالي سنة 626 م.
  2. تفسير ثلاث آيات كتابية مدوّنة في الفيلوكاليا وقد عنونها بـ ” رسالة إلى ثيوبمبتس ” .
  3. أجوبة على تساؤلات كتابية وجهها إليه رئيس دير في ليبيا يدعى ثالاسيوس .
  4. تفسير لأعمال آباء قديسين، مثل: ديونيسيوس الأريوباغي، غريغوريوس اللاهوتي وغيرهم .

الدفاعية والعقدية

  1. ضد المونوفيزيتين والمونوثيليين، وهي عبارة عن سلسلة من المجلدات الضخمة موجهة لتفنيد أقوال هاتين البدعتين .
  2. كتاباته إلى مارينوس الكاهن في قبرص:

أ ) كتاب يتعرّض فيه إلى مسألة قوى النفس وأيضاً لمسألة مشيئتَي المسيح.

ب )كتاب آخر: يتناول فيه مسألتَي القوى والمشيئة في طبيعتي المسيح الجسدية والإلهية .

ج )كتاب ثالث: يتناول فيه عقائدياً مسألة الفعلَين والمشيئتَين في المسيح يسوع.

د )رسالة حول إنبثاق الروح القدس وتنزيه يسوع عن كل خطيئة .

هـ ) مجلّد عقائدي يبحث فيه عقائد الكنيسة .

و ) أجوبة على تساؤلات الشماس ثيودور المونوثيليتي كتبها بناءً على طلب مارينوس.

3. مقالة بعثها إلى الراهب ثيودور وهي بمثابة جواب فلسفي ولاهوتي يتعلّق بتحديدات عقائدية خريستولوجية .

4.   مقالة إلى ثيودور الكاهن في صقلية حول الصفات والجوهر في المسيح .

  1. 5.         مجلّد روحي وعقائدي بعث به إلى الاسقف استفانوس الفلسطيني .
  2. 6.         مقالة حول طبيعتَي المسيح تعتبر من أقدم أعماله الكتابية .
  3. 7.         كتاباً وجهه إلى جاورجيوس الكـاهن ورئيس الدير تناول فيه مسألة ” سرّ التجسّد الإلهي “.
  4. 8.         أجوبة موجزة على مسائل ثلاث تتناول عقيدة المشيئة الواحدة .
  5. 9.         رسالة إلى نيكانذروس الأسقف يتكلّم فيها عن الفعلين في المسيح .
  6. 10.      رسالة ضد القائلين بثلاث مشيئات في المسيح مع ثلاث أفعال .
  7. 11.      مقالة يحدد فيها عبارة مهمة تتعلق بعلم الثالوث وعلم الخريستولوجيا .
  8. 12.      مقالة في استحالة أن يكون للمسيح طبيعة واحدة .
  9. 13.      مقالة من عشرة فصول حول مشيئة الرب بعث بها إلى بعض الارثوذكسيين .
  10. 14.      حوار مع بيرن يعرض فيها مكسيموس موقفه من المونوثيليتيين .
  11. 15.      مقاطع من رسائل عقائدية كُتبت لذات الغرض .

ليتورجية

  1. شروحات حول الفصح .
  2. تفسير للصلاة الربانية بعث بها إلى شخص يدعى فيلو خريستوس .
  3. الميستاغوجيا الشهيرة التي ترجمت إلى التركية أيضاً وفيها تفسير رائع للصلوات .

نسكية

  1. المئويات الأربع في المحبة: من أروع ما كُتب يتناول فيها الفاظاً أرثوذكسية كالمحبة واللاهوى والمعرفة النظرية والتطبيقية، وضعها بعد وقت قليل من مغادرته لكيزيكوس بين سنوات 628و630 .
  2. فصول في اللاهوت والتدبير: ويقع في مئويات إثنين وهو عبارة عن محاولة توفيق بين تعليم أوريجنس وأفاغريوس وبين الروحانية الأرثوذكسية .
  3. المقالة النسكية وفيها شرح عن التجسد الإلهي بطريقة جميلة ورائعة وبطريقة السؤال والجواب[4].
  4. فصول مختلفة في اللاهوت والتدبير والخلاق وتقع في مئويات خمس …

تعليمه

شخصانية المسيح يسوع

نادى مكسيموس أن الناسوت في المسيح ليس ناسوتاً متقبلاً سلبياً وإنما هو ناسوت حيٌّ فاعل. فخصص صفحات عديدة من كتاباته للدفاع عن احتفاظ كل طبيعة بخصائصها الموجودة فيها، فطبيعتا المسيح تظلان مختلفتين وغير ممتزجتين لكن في نفس الوقت هناك اتحاد اقنومي دون أن تتحول الواحدة إلى الأخرى، فالفعل ينتج عن الطبيعة وليس عن الأقنوم، فبما أن المسيح اتخذ الطبيعة الإنسانية فقد أخذ أيضاً الفعل الإنساني، وفي الثالوث الأقدس هناك طبيعة واحدة بثلاثة أقانيم لذلك هناك فعل واحد. أما في التجسّد فهناك طبيعتان لذلك هناك قوتان  متميزتان، فالمشيئة الإلهية لا تبطل المشيئة الإنسانية، فالإيمان بالمشيئة الواحدة يرفض القوة الإنسانية الموجودة عند يسوع.

من هذا المنطلق رأى مكسيموس أن يدافع عن القوة الإنسانية وعن الحركة المنطلقة من الإرادة الإنسانية والمتجهة إلى الله، ولكن رغم إيمانه بهذا فقد قال  بوجود مشيئة إعتقادية واحدة لأن أعمال يسوع كانت إلهية إنسانية .

 

يقول المعترف أن الإرادة الطبيعية المتجهة نحو الخير موجودة بشكل طبيعي عند الجميع، لكنها تألّهت في المسيح بسبب الإتحاد الأقنومي، أما الإرادة الإعتقادية فتأتي بعد فعل العقل وهي من خاصة الأقنوم .يقول قديسنا، أن إرادة المسيح الطبيعية قد خضعت لإرادته الفعلية، فكل طبيعة عقلية تملك إرادة طبيعية ولكن تملك أيضاً إرادة إعتقادية فالإنسان عنده إرادة طبيعية فمثلاً، كلام يقوله لكنه لا يتكلّم دائماً، حتى يتكلّم هذا يعود إلى إرادته الإعتقادية التي هي قوة من قوى الأقنوم وليس من قوى الطبيعة. وبما أن المسيح يملك طبيعيتين فإنه يملك إرادتين طبيعيتين لكن بما أنه يملك أقنوماً واحداً فإنه يملك بالتالي قوة إختيارية واحدة .في هذه الإرادة الواحدة يسيطر العنصر الإلهي. لكن هذا العنصر يعطي الطبيعة الإنسانية الإمكانية بأن تفعل الأمور التي تنتمي إليها، وبذلك تحررت الطبيعة الإنسانية من الخطيئة التي سببتها الإرادة الإعتقادية، فصارت الحركة الطبيعية للطبيعة الإنسانية تتجه نحو الله .

أما قول أتباع المشيئة الواحدة أن المسيح يملك طبيعة إنسانية وإنه لا يملك إرادة إنسانية هو قول لا معنى له لأن هذه الطبيعة لا تملك أي ظهور حقيقي وإنما هي فكرة مجرّدة. فطبيعتا المسيح ليستا فكرتان مجردتان لأنهما إندمجتا في ألوهة الكلمة وهكذا فكل تملك وجودها الخاص بها وإن كانت مندمجة في شخص الكلمة .

إن مكسيموس يؤمن بأن كل أقنوم لا يستطيع أن ينتقل إلى أقنوم آخر، وهذا مبدأ في المسيحية، ويقول أن الإتحاد بين النفس والجسد ينتج عنه أقنوم واحد وبين الكلمة وناسوته لا يوجد إتحاد طبيعي فقط إنما إتحاد إقنومي وهذا يعني أن ناسوت المسيح لم يكن موجوداً قبل التجسد فالأقنوم الذي كان قبل التجسّد هو نفسه أقنوم التجسّد .

أسباب الكائنات

العالم هو ثمرة المحبة الإلهية أما اللوغوس للكائنات فكانت موجودة منذ الأزل في فكر الله دون أن تملك وجوداً خاصاً بها وإلا كانت كالمُثُل الأفلاطونية التي كانت موجودةً معالله كيانياً. فاللوغوس هي المخطط الإلهي الأزلي عن الخلق الذي تحقق في الزمن. ويقول مكسيموس إن أهمّ الصفات الإيجابية لهذه اللوغوس هي أن لها صلة باللوغوس الشخصي أو ” اللوغوس الأعلى ” .

 


[1] يرى بعض العلماء أن بلدة خسفين السورية، منطقة الجولان، هي مسقط رأسه …راجع: المقالة النسكية للقديس مكسيموس المعترف، ترجمة الأب منيف حمصي، 1995، ص 21.

[2] راجع: رعيتي، 1985، عدد 3، ص 4 .

[3] الدعوة في الواقع كان إلى حضور مجمع الذي دعي باللصوصي الذي عقده المونوثيليون، أي القائلين بالمشيئة الواحدة … راجع: رعيتي، 1987، عدد 3، ص 3 .

[4] المقالة النسكية، المئويات الأربع في المحبة، ترجمها قدس الأب منيف حمصي إلى العربية وفيها أغنى مكتبتنا العربية وأفاد الباحثين والمعلمين .

admin:
Related Post