X

بحث في التراث الأرثوذكسي

الأسيرة المبشّرة

إعداد راهبات دير مار يعقوب – دده، الكورة

وقعت القدّيسة نونا المعادلة الرّسل، وهي سوريّة الأصل من الكرسيّ الأنطاكيّ، في أسر الإيبريّين (الكرج أو الجيورجيّين) سنة 320م، فأدهشتهم بتقواها واستقامتها وحياتها الفاضلة. وحدث أن اعتلّ، ذات يوم، الأمير الصّغير، فأرسلته الملكة إلى بعض النّساء الملمّات بصناعة الطّبّ عساهنّ تستطعن إنقاذه من براثن المرض. وهكذا أخذت المربّية تتنقل به من امرأة إلى أخرى. ولكن، ولا واحدة منهنّ استطاعت أن تأتي بنتيجة تُرجى. وأخيراً، وكمحاولة يائسة، قصدت الأسيرة نونا التي لم تعطه أيّ علاج طبيّ، بل مدّدته على بساطها الشّعريّ وقالت للمربّية: “المسيح الذي أبرأ كثيرين هو سيجعل هذا الصّبيّ معافىً أيضاً”. ثم راحت تكرّر هذه الجملة بروح الصّلاة وللحال برئ الصّبيّ واستعاد عافيته.
وبعد فترة وقعت الملكة نفسها مريضة طريحة الفراش، فأسرعوا باستدعاء الأسيرة، ولكن هذه رفضت، لتواضعها، المثول أمام الملكة، فاضطرّت هذه الأخيرة أن تذهب بنفسها إليها. فصنعت معها الأسيرة كما فعلت سابقاً بطفلها، وللحال أيضاً تحسّنت حال الملكة وامتلأت فرحاً وشكراً. فاستدارت الأسيرة نحو الملكة وقالت: “لم يكن هذا بقدرتي الشّخصيّة, ولا مردّه حسن سيرتي أو مآثري، ولكنّ المسيح ابن الله الذي كوّن هذا العالم هو منّ عليك بالشّفاء”.
دهش الملك من أنّ الملكة تعافت بهذه السّرعة، وقرّر أن يهب الأسيرة هدايا جزيلة. ولكنّ هذه رفضت قبولها قائلة بأنّها لا حاجة بها إلى الغنى المادّيّ، لأنّ التّقوى هي غناها الحقيقيّ، وسوف تكون هديّتها الكبيرة منه، أن يتعرّف إلى الله التي هي تعبده وتسجد له. ثم ردّت إليه ثانية الهدايا التي كان قد أرسلها إليها.
وبعد ذلك بعدّة أيّام، ذهب الملك إلى الصّيد، وبينما كان يتنقّل في الجبال يصطاد، وقع ضباب كثيف وحلّت عتمة داجنة، فلم يعد يتمكّن الملك وحاشيته أن يتبيّنوا معالم طريق العودة، فاضطربوا جميعهم وراحوا يستنجدون بالآلهة، أي بالشمس وبالنار وبالنجوم وبالشجر.. التي كان الجورجيّون يعبدونها، والتي كان هو شخصيّاً يوقّرها جدّاً، ولكنّه لم يطرأ أيّ تغيير. فتذكّر الملك عندئذ إله الأسيرة، فطفق يستغيث به بحرارة ويصرخ إليه بتضرّع. ويا للعجب!! إذ للحال انقشع الضّباب، وتبدّدت الظّلمة. فعاد الملك إلى قصره فرحاً وهو ممتلئ دهشة واستغراباً، وأخبر الملكة بجميع ما جرى له. وفي الحال استدعيا الأسيرة وسألاها عن هذا الإله الذي تسجد هي له.
وعندها راحت الأسيرة تبشّر الملك بالمسيح ربّاً وإلهاً، فآمن الملك بالمسيح، وجمع كلّ رعيّته وشرع يخبرهم بشفاء امرأته وولده وكلّ ما حصل معه أثناء الصّيد، وأمرهم أن يوقّروا إله الأسيرة.
ثم ما لبث الملك أن استفسر من الأسيرة عن شكل الكنائس الأرثوذكسيّة، راغباً بتشييد واحدة منها، ثم أمر بتجهيز كلّ ما يلزم للبناء. وهكذا بدأت الكنيسة تُشيّد رويداً رويداً إلى أن شرعوا بنصب العواميد. وهنا شاءت العناية الإلهيّة بأن يبقى أحد العواميد دون تحرّك، ولم تستطع كلّ الآلات الموجودة زحزحته من مكانه، فالحبال تقطّعت والآلات تعطّلت والعمّال لمّا رأوا استحالة الاستمرار في العمل رحلوا.
ولمّا علمت الأسيرة بهذا، استأذنت الملك بالذهاب إلى الكنيسة حيث أمضت ليلتها بالصّلاة والتّضرّع، ثم رسمت إشارة الصليب على العامود. وبمعونة الله تحرّك العامود من مكانه، وانتصب في الهواء دون أن يستند على شيء.
وعند الصّباح ذهب الملك ليتفقّد العمل وهو مغموم، فشاهد العامود منتصباً في الهواء، والأسيرة بجانبه، فامتلأ دهشة وخوفاً معاً، هو وكلّ من كان معه. ثم، بعد لحظات، رأوا العامود ينزل شيئاً فشيئاً ليثبت مكانه دون مساعدة أحد. فسرت همهمة بين الجمع، وراحوا يتساءلون: “ماذا يحدث؟” ولمّا علموا حقيقة الأمر انذهلوا مسبّحين إله الأسيرة.
وهكذا تمكّنت القدّيسة نونا، بمعونة الله، من تنصير الملك الذي طلب، فيما بعد، من قسطنطين الكبير، أسقفا وكهنة لتنوير الأهلين. وبهذا تحوّلت إيبيريا (جيورجيا) من وثنيّة إلى مسيحيّة ومن هناك عمّت المسيحيّة كلّ بلاد الكرج.

admin:
Related Post