X

بحث في التراث الأرثوذكسي

تذكار حافل للسابق المجيد

الأرشمندريت توما بيطار


باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين.

هوذا حَمَل الله الرافع خطيئة العالم. المسيح حَمَلٌ، لذلك هو ذبيح. والحملان في هذا الدهر يُذبَحون. الخطيئة هي التي جعلتهم كذلك. الحَمَل الذي يصرّ على أن يبقى حَمَلاً، هذا لا بدّ له أن يموت، لا بدّ له أن يُذبَح وأن يُراق دمُه. السبب أنه يحبّ. كل مَن يحبّ يبقى حَمَلاً، ويبقى بالتالي ذبيحاً. لا يمكن للحملان إلاّ أن تُذبَح. فإذا كان لا بدّ للحبّ أن يثبت، فلا بدّ أيضاً أن يكون ثمنُ الحبّ دماً. لهذا جاء الرب يسوع إلى يوحنا معتمِداً، لأنه شاءَ، محبّةً بالناس وبملء إرادته، أن يكون حَمَلاً، أن يكون ذبيحاً، أن يرفع خطيئة العالم، أن يكون مخلِّصاً.

يوحنا لم يكن يعرف السيّد. كان يعرف عن السيّد. كان يعرف أنه آتٍ. ولكنْ كان لا بدّ له أن ينتظر. وانتظاره كان على أساس علامة سوف يعاينها، والعلامة كانت الروح الذي ينزل ويستقرّ عليه. الرب يسوع المسيح مكشوف بروح الرب. من دون روح الرب، لا يمكن لأحد أن يعرف المسيح. المسيح ارتضى أن يكون في التّواري. ونحن مهما حاولنا، لا يمكننا أن نعاينه ما لم يكشفه لنا روح الرب. لهذا السبب، مَن ليس له روح المسيح، ليس له المسيح أيضاً. إذا كان الآب السماوي قد سُرَّ بالرب يسوع المسيح أن يعطي الروح القدس للذين يؤمنون به، فإنه جعل أيضاً اقتناءَ الروح القدس رهناً بانتظار الخلاص. على الواحد أن يتعلّم، إذا كان محبّاً لله، كيف ينتظر. الروح يُعطى في حينه. العلامة تعطى في حينها. اليقين يعطى في أوانه. ونحن، إلى أن تعطى لنا العلامة، نبقى على الرجاء، نبقى في الإيمان، نبقى في هذا التسليم، وننتظر. لا يَحْسَبَنّ أحدٌ منا أن الرب الإله إذا تمهَّلَ علينا فإنه يكون قد تخلّى عنا. الله لا يتخلّى عن أحد. فالذي شاء أن يرسل ابنَه فِدية للعالم، كيف يتخلّى عن العالمين. نحن الذين، في الحقيقة، مَن يتخلّى عن الله. نحن الذين نضِلّ بسبب غرورنا أولاً وأخيراً. كل واحد منا يتمسّك بنفسه، يتمسّك برأيه، يتمسّك بطريقته، يتمسّك بما هو له، وبهذا يجعل كلّ واحدٍ منا حاجزاً بينه وبين ربّه. وهذا الحاجز هو “أنا” كل واحدٍ منا. هذا الحاجز لا بدّ له أن ينشقّ كما انشقّ حجاب الهيكل، لكي يُراقَ إذ ذاك ما هو في قدس الأقداس وينسكب على العالمين. هذا هو الحاجز في الحقيقة، ولذلك شاء الرب الإله أن يقيمه في الهيكل. الرب يسوع المسيح هو الذي أزال هذا الحاجز في نفسه. عرفَ، كإنسان، أن يتخلّى عن نفسه بالكامل، أن يُسْلِم نفسه بالكامل للآب السماوي. لما انشقّت نفسه على الصليب انشقّ حجاب الهيكل. كل حياته على الأرض كانت تسليماً لله. ولكن لم يكن هذا التسليم سهلاً، بل الرب يسوع كان في المعاناة أيضاً، وكان في البستان يتصبّب عَرَقاً كالدم. كان يجول في خاطره لو أن الآب السماوي يُعفيه من شُرب هذه الكأس. ولكن لا بدّ من شرب هذه الكأس، وإلاّ لا ينسكب الروح، لا ينزل الروح علامةً ويقيناً معاً.

الرب يسوع عرف أن يفرغ نفسه، ويوحنا المعمدان عرف أن يكون نظيره لأنه عرف أن يموت عن نفسه متمسِّكاً بالشهادة لله إلى المنتهى. نحن أيضاً كيوحنا نَلقانا بحاجة دائمة لأن نتخطّى ذواتنا. طالما نحن لَصِيقو ذواتنا، فإنّ الحاجز يبقى قائماً. وهذا الحاجز يَنْدَكّ من ذاته إذا ما عرفنا دائماً أن نلتمس ما هو له لا ما هو لذواتنا. إذا ما عرفنا دائماً أن نموت عن أنفسنا في هذه اللحظة وفي اللحظة التالية وفي اللحظة التي تتلو اللحظة التالية وهكذا دواليك. ذهننا ينبغي أن يكون مُرَكَّزاً على هذا الضبط للذات وعلى تخطّي الذات في آن. لأننا نحن إذا ما تُركنا لذواتنا، إذا ما تَرَكنا أنفسَنا تتمدَّد على سجيّتها، فإننا نكون في الحقيقة في ضبابيّة لا يمكننا معها أن نعاين، وتالياً أن نشهد أنّ هذا هو ابن الله. بإفراغ ذواتنا نمتلئ، بتَخَطّي ذواتنا نقتني الذات الجديدة فينا. يوحنا المعمدان كان في هذا الشأن علامةً تُحتَذى. عرف ألاّ يطلب شيئاً، وعرف أيضاً كيف يتصحّر، وعرف كذلك أن ينتظر وينتظر طويلاً. ولا بأس لديه لأن إعلانات الرب لا تكون إلاّ في أوانها. المهم أن نعرف أنه آتٍ لا محالة. مهما دغْدَغَتْنا أفكار الشك، فإنّه آتٍ. ونحن نصرخ إليه أبداً: “أيها الرب يسوع تعال”. فقط عند المعاينة، عند المشاهدة، بعد سلوكٍ قد يطول في العتمة الإلهية التي لا تستنير إلاّ بالرجاء. المعاينة تسبقها عتمةٌ على الرجاء. متى دخل الواحد منا في هذه العتمة وثَبَتَ واستمرّ، فإن يأتي لا محالة إلى المعاينة الكبرى نظيرَ موسى الذي دخل في الظلمة في الجبل، ومن هناك كلَّمَه الرب الإله بكلام من فوق. فلمّا نزل من الجبل كان كلّه نوراً رغم أنه أقام في عتمة الله. هذه هي المفارقة الكيانية التي أُعطينا نحن أن نكون فيها، أن نكون في عتمة منيرة، أن نصير إلى ميتة محيية، أن نكون إلى إفراغ للذات هو مقدِّمة للامتلاء كبير.

الله له منطقه الخاص. الله لا يَقبلنا كما نريد نحن بل كما يريد هو. لأن ما نريده نحن هو من بنات خطايانا، وأما ما يريده هو، ولو لم نفهمه، إذا ما قبِلناه بالإيمان والتسليم، إنما يكون لنا للحياة. ويكون لنا لحياة أوفر. المهم أن يُطاع الله في كل حال. فليكن الرب صادقاً، وكل إنسان كاذباً.

آمين

 

عظة في 7 / 1 / 2004 حول يو  1: 29 – 34

admin:
Related Post