X

بحث في التراث الأرثوذكسي

النوبة والندّابون

الأب أنطوان ملكي

الكثير من العادات المتّبعة في جنانيزنا، ومنها ارتداء الأسود حداداً، يعود إلى الأزمنة الوثنية. وهذه كلها أمور تُستَعمَل للدلالة على المبالغة بالحداد، لكنّها تتعارض مع الإيمان الأرثوذكسي وتعاكس الكتاب المقدّس. أمام الموت يحزن المسيحي لأنّه يُحرَم من حضور مَن يحب، لكنّه لا يندب. لا يجعل المسيحي الحَدَث وقتاً للندب والسواد، وللنوبة والندّابين، لأن هذا يظهر أنه ضعيف في الإيمان وأنه نسي المسيح ومحبته. القديس يوحنا الذهبي الفم يتوجّه إلى لابسي الأسود: “ماذا تفعلون، أنتم الذين تدنّسون يوم القيامة هذا؟ أنتم الذين تتمسكون بأسود الحداد ألا تؤمنون بالمسيح؟ لماذا تخزون هذا الراحل؟ لماذا تحولون الراحة إلى خوف ورعدة عند الموت؟ لماذا تدفعون الناس إلى توجيه التهم إلى الله؟ أنتم تقاتلون أنفسكم. لماذا تندبون كالوثنيين الذين لا رجاء لهم بالقيامة؟” إذا كان هذا الأمر ينطبق على لبس الأسود فكم بالحري ينطبق على ما هو أكثر من ذلك. أمام عودة ظاهرة وجود النوبة والندّابين في جنانيزنا، نحن مطالَبون أكثر من أي وقت مضى، الكهنة قبل العلمانيين، بالعودة إلى الفكر الذي يتكلّم به هذا القديس والتمسّك به.

يوجّهنا فليكس مؤرخ القرن الأول إلى كيف ينبغي بنا أن نزيّن جنازاتنا في وصفه الجنازات المسيحية في الأزمنة المسيحية الأولى: “لا يوجد ندب في جنازاتنا. لماذا وجوده؟ نحن نزيّن جنازاتنا بالهدوء العظيم، كما نزيّن حياتنا. لا توضَع أكاليل الزهور التي تذبل على جبين الميت، لأننا نرجو أكاليل دائمة الاخضرار أبدية. بهدوء واحتشام، محفوظين في فيض إلهنا وتسامحه، نحن نُفعَم بهجةً بالرجاء بالفرح الآتي والثقة بعظمة الله الحاضرة. وهكذا نحن نرتفع بالبركة ونحيا بتأمّل ما سوف يأتي.”

إذا فكّرنا بعقلانية، نرى ضميرنا ووجداننا المسيحيان يطرحان علينا أسئلة لا بد من السعي للإجابة عليها بفكر الكنيسة: لماذا نكفّن أنفسنا بالسواد؟ أهو من أجل أنفسنا أم من أجل الراحل أو من أجل المجتمع؟ لماذا نستدعي النوبة؟ أهو لإكرام المتوفي؟ أي إكرام يأتي من الطبول الجوفاء والصنوج الرنانة؟ أي تبجيل هذا الذي يقدّمه الشعراء لميت لم يعرفوه يوماً، ويقولون فيه كلاماً مستعدون لقوله كل يوم وفي كل ميت، شرط أن يدفع ذووه؟ لماذا لا يقدّم الشعراء هذا التبجيل للفقراء؟ أهو الخوف من الموت الذي يدفعنا إلى مثل هذه الأمور أو حب الظهور والفخفخة والتباري والتباهي؟

الأجوبة موجودة في الإنجيل وعند آبائنا القديسين. عندما سكبت المرأة الطيب على رجلي المسيح، تساءل تلاميذه: أليس الأجدى أن يُباع هذا الطيب ويُوَزَّع ثمنه على الفقراء؟ وهنا يصحّ السؤال: المال الذي يُدفَع للعازفين والندّابين، وهو في العادة ليس يسيراً، أليس الأجدى أن يُعطى للفقراء والمحتاجين، وهم كثر؟ يؤدّبنا القديس أمبروسيوس أسقف ميلان في كلامه: “يرهب التافهون من الموت وكأنّه كلّه شرور. الحمقى يخشون الموت، إمّا لأنهم يظنون أنّه يعني الإبادة، أو لأنّهم مرعوبون بروايات عنه… مراتب الأبالسة، منحدرات الظلام العالية، وغيرها”. إن الثياب السوداء غير ملائمة ومعيبة للجنازات والذكرانيات الأرثوذكسية، وكأننا ندخل غرفة زفاف مرتدين ثياباً سوداء كئيبة. نحن “نحتفل” بالجنازات والذكرانيات؟ لذا من الوتجب أن نلبس ثياب الإكليل من البياض والذهب ونرمي جانباً الندب ونحمل الرجاء، كما يعلمنا القديس يوحنا الذهبي الفم: ” لا مكان للدموع حيث تكون المعجزات وحيث يُحتَفل بهذا السر. اسمعوا لي، أنا أرجوكم… يُحتَفَل بسر عظيم عندما يرقد أحد ما. إذا كنا نجلس معاً وأرسل الإمبراطور في دعوتنا إلى قصره، أيكون من الصواب أن ننوح ونندب؟ ألا تعرفون أيّ سرّ يجري الآن، وكم هو رائع ومستحق للترنيم والمديح؟ إنّه سر عظيم من أسرار حكمة الله. النفس تتقدّم مسرعة إلى ربها، وأنتم تندبون؟ إذ كما أن الشمس تشرق ساطعة بهية، كذلك النفس بعد أن تترك الجسد بضمير نقي، تلمع بالبهجة… تترك النفس الجسد برفقة الملائكة، فكّروا في كيف ينبغي أن تكون! في أي دهشة، وأي روعة، وأي ابتهاج! فلماذا تندبون؟ هذا هو سبب الصلوات والمزامير والتمجيد لله: حتى لا تندبوا ولا تنوحوا بل بالأحرى لتشكروا الله الذي أخذ الراقد…”

إذاً فليسعَ الكلّ إلى الكفّ عن الممارسات الوثنية في الجنانيز والذكرانيات. إنها مسؤولية الكهنة أولاً، ومعهم مجالس الرعايا، إذا استثنينا أهل الفقيد على افتراض أنهم ينشغلون بفقدهم لحبيبهم. ما من وظيفة لهذه الممارسات سوى أنها تلهي عقول المؤمنين والمعزّين وتحوّل اهتمامهم عن إنجيل المسيح. إنّها ضد الأرثوذكسية بالكليّة ومخالفة لإنجيل المسيح. في جنازاتنا وذكرانياتنا فلنمزج حزننا بالابتهاج، وإذا عجزنا عن الابتهاج، فأقلّه فلنتعزّى بكلمات الذي وعدنا بأنّه “لا الحياة ولا الموت… تستطيع أن تفصلنا عن محبة الله التي في يسوع المسيح ربنا.”

الوعظ من الباب الملوكي، ينبغي أن يتخطّى التقليديات كمثل فلان أنجب وعلّم وبنى. ينبغي أن يكون الوعظ تعليماً وإلا تحوّل الواعظ إلى ندّاب إضافي. على الراعي أن يعلّم الشعب معنى الموت الأرثوذكسي الذي تعلّمنا إياه الكنيسة، ليس فقط عن الجنة والنار، بل عن رحمة المسيح، ولا عن الندب والنوح بل عن الرجاء بعد الموت. على مجلس الرعية ألا يكتفي بعدّ بدلات الأكاليل ولا أن يكون دوره محصوراً في تأمين مستلزمات الجناز وغيرها. أما أهل الفقيد فعليهم أن يضعوا جانباً كل ما هو غير أرثوذكسي وليفرحوا صارخين مع القديس غرغوريوس اللاهوتي: “أنا أؤمن بكلمات الحكماء، لأن كل نفس مرهفة ومحبة لله، عندما ترحل من هنا، تتقدّم مبتهجة للقاء ربّها… وتدخل فرح السعادة المهيأ لها.”

admin:
Related Post