X

بحث في التراث الأرثوذكسي

الشيخ فيلوثيوس زرفاكوس
نقلها إلى العربية الأب أثناسيوس بركات

وُلد الشيخ فيلوثيوس المُبارك سنة ١٨٨٤ في قرية صغيرة من أعمال بيلوبونيز، وأُعطي إسم قَسطنطين في المعمودية المقدّسة. أَظهر، منذ الطفولة، محبة مميزة نحو الله حيث كان يهرع راكضاً إلى الكنيسة عند أول جرس. تطوّر استمتاعه بمطالعة قصص القديسين إلى رغبة شديدة في الحياة الرهبانية. لقد رأى الناس بوضوح في هذا الشاب حماساً كامناً، فراحوا، منذ البدء، يثنونه عن سلوك هذا الطريق. لقد كتب الشيخ (فيلوثاوس) في سيرته الذاتية: “عندما ذهبت إلى السرير ونمت، رأيت عمالقة مخيفين ذوي وجوه بشعة مروعة يتجهون نحوي. لقد أخافوني وهم يصرّون بأسنانهم حاملين السكاكين وشاهرين السيوف والحراب. واحد منهم، بالأخص، يبدو أنه قائدهم، قال بغضب: {تخلّص بسرعة مما يجول في خاطرك وإلا سوف نُصفّيك، مقطّعين إيّاك إرباً}. ثم نخسوا جسدي بسيوفهم وسهامهم.”
قاوم قسطنطين الهجوم متوسلاً معونة والدة الإله الفائقة القداسة، لكن الحادثة أضعفت عزمه. راح يتوجّه إلى الإهتمامات الدنيوية مستسلماً للمسرّات والرغبات العالمية. الشكر لله على أن له صديقاً كان يشاركه اهتمامه بالموسيقى ويُنشد معه تراتيل دينية. وفي زيارته له أحد الأيام، كان من حسن حظّ قسطنطين أنّه شاهد لديه كتاب حسن التجليد عنوانه: “جواهر الفردوس”. كان يحوي بين نصوصه مُختارات من سير قدّيسين وعظة للقديس باسيليوس الكبير “حول مراقبة الذات”. شعر قسطنطين وكأنه يملك بين يديه كنزاً سماوياً. دون أي يقول أكثر من كلمة “وداعاً” لصديقه، أخذ قسطنطين الكتاب إلى بيته واستغرق في قراءته. لقد أثّرت فيه عظة القديس باسيليوس بقوّة: “لقد أصابني الخوف والرعدة من التأمّل في ساعة الموت التي لا تعرف وقتها مما جعلني أُفكّر في نفسي، ترى ماذا سيحدُث إذا مُتّ في هذه اللحظة، هذه الساعة أو هذا اليوم. إلى أين ستذهب روحي. لم أَقُم بشيء حَسَن من أجل خلاص نفسي، في حين أن عقلي لا يزال مُتعلّقاً في هذا العالم الباطل. إبتداءً من تلك اللحظة تخلّيت عن الآلات الموسيقيّة، العالم وكلّ ملذّاته وجعلت عقلي وقلبي وروحي متعلّقين بمحبّة ربّنا يسوع المسيح الخلو والخيرات السماويّة.”
في ذلك الوقت صار قسطنطين معلّماً في قرية فونيكيون Phonikion حيث بقي لحوالي ثلاث سنوات (١٩٠١ – ١٩٠٤). كان له تأثير في تنشئة تلاميذه، مُغذّياً أرواحهم كما عقولهم. فقد كان يأخذهم إلى الكنيسة حيث يعلّمهم الوقوف بخشوع وانتباه في حضور الرب. وعندما كان أحدهم يُسيء التصرّف في المنزل أو في طريقه إلى المدرسة، كان يَعترف بذلك أمام زملائه التلاميذ ومعلّمه. كان الشيخ ناجحاً جدّاً في دمغ نفوس تلاميذه بالإيمان وخوف الله ممّا جعلهم يتحوّلون -وقد كانوا قبلاً “أسوأ من الوحوش”: مُجدّفين، عقوقين، غير مُطيعين لأهلهم، غير نظاميين في المدرسة – فأصبحوا كالنعجة الوديعة”. كان من الواضح، حتى في ذلك الحين، أنّه يمتلك موهبة الأبوّة الروحيّة.
لقد تعرّضت رغبته المُتجدّدة بالحياة الرهبانيّة إلى اختباراتٍ قاسية. ظهرت له الشياطين تكراراً في أحلامه ويقظته، تُهدّده، تُفزعه وتعتدي عليه جسدياً وعقلياً. فمن جهة كان عليه خوض معركة ضد الخوف والجُبن، ومن جهة أخرى ضد الرغبات الجسدية وتصوّرات الملذّات العالميّة. خلال إحدى المواجهات، حاول الشرير تحريضه على الانتحار. كما حاول أهله، بكلّ جهدهم، رغم كونهم أتقياء، أن يثبطوا من عزيمته للمضي في الطريق الذي اختاره. فقد صرّح أباه بأنّه فيما لو غادرهم قسطنطين فإنّه سوف يُهلِك نفسه، يُغرقها: “لماذا هناك القليل من الأطباء، المُحامين، الضباط والمعلّمين الذين يُصبحون رهباناً؟ ألا يعرفون ما هي مصلحتهم؟”. كان قسطنطين يُحبّ ويحترم أهله، فقد كان يعتني بهم ويعطيهم راتبه. كان من الصعب تحمّل مواجهتهم، لكنّه شدّد على نفسه بكلمات الإنجيل: “من أحبَّ أباً أو أماً أكثر مني، فلا يستحقُّني” (متى ١٠:٣٧). لقد ناقش والده بالمنطق: “إذا ما طلبني ملك أرضي إلى قصره لأكون إلى جانبه مانحاً إيّاي مرتبةً عظيمة، فماذا ستفعل حينها؟ أَظن أنّك ستكون مسروراً جداً مُعتبراً ذلك شرفاً عظيماً. فيجب أن تكون أكثر فرحاً، الآن، لأنّ الملك السماوي، يسوع المسيح، يُناديني لأكون بجانبه”.
ترك قسطنطين منزل أهله في إحدى الليالي حائراً من أين يَبدأ طريقه والى أين يذهب. غادر بدون معطف أو حذاء حاملاً فقط الإنجيل متوجّهاً إلى دير اللافرا المقدّس باحثاً عن أب روحي. كانت رحلته شاقّة بسبب سيره على الرمال الحامية والأشواك مما سبّب له تقرّحات في أخمص قدميه، وقد كان أن يقضى عليه من العطش والإرهاق. لكن هذه الثبات شدّد من تصميمه، وقد كانت مكافأته أنّ يتوجَّه إلى الأب الجليل إفسابيوس ماتوبولوس في باترا.
قام الأب إفسابيوس بنصحه: “عدْ إلى البيت، إلى أهلك في الوقت الحالي، وعندما تُنهي خدمتك العسكريّة {مُعطياً ما لقيصر لقيصر}، سيكون بمقدورك أن تذهب لخدمة الملك السماوي”.
بعد سنتين تقريباً وقعت القرعة على قسطنطين للانضمام إلى الجيش وتمَّ تثبيته في أثينا. سَمح له برنامج الخدمة أن يُشارك في الخدم الكنسيّة، وحضر بشكل مُتكرّر صلوات الأب إفسابيوس وقام بالترتيل عدّة مرّات في صلوات الغروب التي كان يُقيمها الأب (القديس) نقولا بلاناس. إلاّ أنّ الشرير استمرّ بتعقّبه. فكونه رقيباً بُعث في دوريّة إلى جزء قذر سيء السمعة من المدينة يتردّد إليه السكارى وبنات الهوى. “من أجل أن يبقيني بعيداً عن الإنحراف، فإن الإله الصالح والمحبّ البشر جعلني أشمّ رائحة نتانة وأشعر بمقت واشمئزاز تجاه بنات الهوى حين كنت أدخل بيوت فسقهم. هذه الرائحة النتنة استمرّت في أنفي لبعض الوقت”. وهكذا تمّ صونه من الوقوع ضحيّة الإغراء.
عند انتهاء خدمته العسكريّة، كشف قسطنطين للقديس نكتاريوس، الذي كان حينها مدير إكليريكية روزاريو في أثينا، عن رغبته بأن يُصبح راهباً في الجبل المقدّس. لكنّ القديس نصحه، بدلاً من ذلك، بالذهاب إلى دير لونغوفاردا Longovarda في باروس Paros. لكنّه بالرغم من ذلك أعطاه بركته عندما رأى تصميمه على الذهاب إلى الجبل المقدس، ذلك الجبل الذي لا يستطيع الفتى المُتحمّس والطموح أن يُقاوم الشهرة التي كان يتمتّع بها.
في أيار سنة ١٩٠٧، استقلّ قسطنطين باخرة إلى تسالونيكي حيث من المُفترض أن يكمل طريقه إلى الجبل المقدّس. كان مسروراً بالتوقّف (في تسالونيكي) ما يمنحه فرصة للسجود لبقايا القدّيس العظيم في الشهداء ديمتريوس، الذي كان يجلّه منذ الطفولة. لكن عندما قام بتحضيراته لإكمال رحلته، حرمه الأتراك من ذلك – إذ كانوا يخلون المدينة في ذلك الوقت – وأوقفوه لظنّهم أنّه جاسوس. فتمّ اقتياده إلى البرج الأبيض السيء السمعة، إلاّ إنّ الباشا أسرع بنفسه وأصدر أمره بإخلاء سبيله وبأن يستقلّ باخرة يونانيّة كانت على وشك الإبحار إلى اليونان. لاحقاً، علم قسطنطين، المذهول من تدخل الباشا، بأن القدّيس ديمتريوس ظهر للباشا في ذلك الصباح وأمره بالذهاب سريعاً إلى الشارع الفلاني وإطلاق سراح شاب كان قد أُوقف وأُدين ظلماً، وبإرساله على الباخرة ميكالي التي ستعود به إلى اليونان.
نزل قسطنطين من الباخرة في فولوس حيث قابل أُناساً طيّبين حاولوا مساعدته على تأمين إذن بالدخول إلى الجبل المقدّس، إلاّ أنّه أدرك أنّها ليست إرادة الله وذلك بعد أن قامت العراقيل عند كلّ محاولة. كتب لاحقاً: “لقد تعلّمت درساً قيّماً، يجب أن أكون مُطيعاً بالكليّة لأبي الروحي، بدون معارضة، وأن أختشى، لا عن مشيئتي بل مشيئة أبي الروحي كما فعل الربّ يسوع المسيح عندما أتى إلى العالم لا ليُتمّم مشيئته بل مشيئة الآب الذي أرسله”.
بعد بضعة أيّام، أبحر إلى مرفأ سبيروس في جزيرة باروس، ومن هناك شقّ طريقه سيراً على الأقدام إلى دير لونغوفاردا. لقد تحقّق، أخيراً، توقه إلى دير يمكث فيه: “عندما شاهدتُ النظام، التقوى، الطاعة، المحبّة، التعاطف والإنسجام بين الإخوة، شعرتُ بفرخ عارم حتى أنّني ظننت نفسي في الفردوس”. تمَّ قبوله كمبتدئ، وبعد سبعة أشهر، في كانون الأول سنة ١٩٠٧، أُعطي الإسكيم الصغير وسُمي فيلوثيوس “مُحبّ الله”.
في سنة ١٩١٠، أخذ الأب فيلوثيوس، وقد أصبح شماساً، البركة لتحقيق حلم صباه وذهب إلى الجبل المقدّس حيث أراد في الماضي ان يُصبح راهباً. لقد كتب بحماس إلى صديق حول هذا الحجّ، واصفاً الفرح والرهبة اللذين اختبرهما عندما أصبح في “بستان العذراء” وتمكنه من تكريم الكنوز الروحيّة العديدة: بقايا القدّيسين والأيقونات العجائبيّة في الأديرة المتعدّدة والأساقيط (جمع إسقيط) التي زارها. لقد ذكر بحزن، في سيرته الشخصيّة: “لقد وجدتُ، فقط، قليلاً من الأشخاص القدّيسين يُعدّون على الأصابع. لم أرَ أيّا من أصحاب المواهب أو صانعي العجائب كما كان يوجد في السابق”.
في رحلة عودته، عرج إلى تسالونيكي من أجل السجود لبقايا القدّيس ديمتريوس. ومرّة أخرى تمَّ اعتقاله من قبل الأتراك شكّاً منهم بأنّه جاسوس. فوُضِعَ في زنزانة يحوطها ثلاث طبقات من الشريط الشائك، فوجد فيها شاباً محتجزاً مثله. لم يطُل مكوثه هناك حتى حصلت فوضى كبيرة على المرفأ جعلت الحرّاس يهرعوا إلى هناك. فقد اشتعلت النيران في خزان وقود إحدى بواخر الركاب. قام الشاب، سريعاً، بإخراج قاطعة أسلاك (كماشة) من جيبه وقطع بعض الاسلاك، ثمَّ قاد الأب فيلوثيوس خارج السجن إلى باخرة يونانيّة راسية خارج المرفأ. بعد أن قام بترتيب أغراضه، التفت الأب فيلوثيوس ليشكر الشاب لكن هذا الأخير كان قد توارى. لم يعرف من كان إلاّ بعد سنوات: كان يُقيم الذبيحة الإلهيّة في كنيسة القدّيس ديمتريوس فنظر إلى أعلى ورأى أن أيقونة القدّيس تشبه كثيراً الشاب مُحرّره.
بدلاً من العودة إلى لونغوفاردا، استغلّ الأب فيلوثيوس الفرصة ليزور اباه الروحي، القدّيس نكتاريوس الذي صار حينها يعيش في ديره الرهباني في آيينا. وجد رئيس الكهنة مُرتدياً جبّة رَثّة وهو يحفر بالمعول في الباحة. ظنّاً منه بأنّه أحد العمّال، طلب الأب فيلوثيوس من القدّيس نكتاريوس أن يذهب إلى المطران لإبلاغه بأنّ إبنا روحيّاً له، شماساً، ينتظر خارجاً ليراه. لم يكشف القدّيس عن هويّته مباشرة بل قاد الزائر إلى غرفة الإستقبال: “إنتظر هنا وسأذهب لأطلب منه المجيء”. بعد عدّة دقائق عاد: “لقد صُدمت وتفاجأت” يتذكّر الأب فيلوثيوس: “لقد وجدتُ أن الرجل الذي ظننته عاملاً… وخاطبته بخشونة وبطريقة الأمر، كان المطران نفسه! حتى أنّي لم آخذ بعين الإعتبار أنّها كانت ساعة الإستراحة بعد الظهر، إذ ينام الجميع…! لقد ركعت والدموع في عينيّ متوسّلاً إليه أن يسامحني على تكبّري وسوء تصرّفي”.
قام، حينها، الأب فيلوثيوس بالتوسّل إلى القدّيس ليعلّمه كيف يتغلّب على الكبرياء الممقوتة من الله، وهكذا بدأ القدّيس نكتاريوس بالشرح مفسّراً كيف أنّه، وحسب الآباء القدّيسين، كلّ خطيئة تُغلب بفضيلتها المقابلة: “…يتمّ التغلّب على الحسد بالمحبّة، الكبرياء بالتواضع، البخل بالفقر، الجشع وقساوة القلب بالإحسان والتعطّف، التراخي بالاجتهاد، الشراهة والاستعباد للبطن بالصوم والإمساك، الكلام الباطل بالصمت، الانتقاد والنميمة بلوم النفس والصلاة…”. لقد شدّد القديس على أنّنا لا نقوم بهذا بفضل جهدنا الشخصي وقوّتنا. يجب أن نتوسّل إلى الله ليقوم بذلك.
غادر الأب فيلوثيوس أباه الروحي، وهو مملوء بالغنى الروحي والعزم، إلى لونغوفادا في أيلول سنة ١٩١٠. في ٢٢ نيسان سنة ١٩١٢، يوم أحد السامريّة، رُسم الأب فيلوثيوس كاهناً على يد الميتروبوليت جبرائيل الذي من تريفيليا من أعمال أولمبيا. لقد وصف تلك المناسبة في رسالة بعثها إلى أبيه الروحي الجزيل الوقار في دير كاراكاللو: “عندما شارف التكريس على أن يبدأ، وقف المطران في الباب الملوكي مُتحسّساً خطورة مهمّته، وبدأ يتكلّم عن الكهنوت. كان متأثّراً ولم يقُل إلاّ بضع كلمات بليغة مفعمة بالمعاني. عندما انتهى، طلب من جماعة المُصلّين بصوت خفيف: {ليسجد كلّ واحد من الحاضرين وليُناشد الربّ بإيمان أن يُرسل الروح القدس على الذي سوف يُسام ليكون نافعاً ومُفيداً لنفسه ولإخوته وللمجتمع”. سرعان ما ركع الجميع – الرجال، النساء والأطفال – وصلّوا بانسحاق. العديد من أصدقائي وإخوتي الروحيين المُنحدرين من عائلات نبيلة ومعروفة، الذين قد عرفتهم عندما خدمت في أثينا كضابط صغير، والذين أُقاسمهم محبّة روحيّة قويّة، كانوا حاضرين. كانوا يرفعون الصلوات لتحلّ نعمة الروح القدس عليّ، كانت الدموع تنهمر من أعينهم وهم راكعين حتى نهاية خدمة الرسامة. شعرتُ بانسحاق كبير حتى أني عجزت عن إمساك دموعي. لقد أحسستُ بقلبي يَضرُب بشدّة، ممّا جعل الدموع في عينيّ طوال ذاك النهار.” في حالة شخص آخر ذي نضج روحي اقلّ، فإنّ مثل هذا الشعور المجيد ممكن أن يؤدّي إلى عُجب روحي وكبرياء، خاصّةً إذا ما كان الشخص لا يزال فتياً. إلاّ أنّ الأب فيلوثيوس كانت محروساً بحساسيّة حادّة تجاه إقترافه الخطيئة. في الرسالة نفسها يقول: “حتى وبعد تلقّي نِعَمٍ عديدة من الأب فإنني انا، الخاطئ غير المستحقّ، لا أزال أعيش في التواني وأتمرّغ كالخنزير في الخطيئة، غير مُدرك كيف يجب أن أتصرّف تجاه الله وتجاه إخوتي وقد تسربلتُ بدرجة من الكهنوت السامية. إنني أخاف ان أُدان كما حصل للخادم الشرير الذي خبّأ وزنته. إنني أتضرّع مُلتمساً إلى حضرتك من قدسك أن تذكرني في صلواتك أنا الفاسد الدنس الخاطئ، وكذلك عندما تُقدّم الذبيحة غير الدمويّة حتى أنال الرحمة من لدن الرب”.
في السنة اللاحقة رُقّيَ الأب فيلوثيوس إلى رتبة أرشمندريت. فباشر بالوعظ وتقبّل اعترافات الناس في القرى والبلدات في باروس وجزر الجوار. وبمرور السنوات حملته رحلاته الرعائيّة والتبشيريّة إلى أبعد من ذلك حتى أصبح المعرّف الأول في كلّ اليونان.
رلقد كان الطلب قوياً على شيخنا للوعظ أنّى ذهب. سنة ١٩٢٤، قام بحجّ طويل إلى الأراضي المقدّسة ومصر، وقام بوصف تلك الرحلة بالتفصيل في كتابه “الحجّ العظيم العجيب إلى فلسطين وسيناء” الذي أُصدر بعد سنة. وفي الكتاب محفوظة الخدمة التي سُئل ان يُقيمها في الجلجلة يوم الجمعة العظيمة. من الممكن أن نحكم على موهبته كواعظ من خلال ردّة فعل مُستمعيه التي ذكرها بدون تكلّف في رسالة بعثها من أورشليم إلى أبيه الروحي الشيخ إيروثيوس: “لقد كانوا يُصغون إلى كلماتي المتواضعة بانتباه وتوبة كبيرين. لقد بلغ الجمع، وأنا معهم، درجة من التأثّر بحيث أننا ذرفنا الدموع. لقد قال الآباء المُقيمون في الجلجلة بأنّه لم يعُظ أيّ من اللاهوتيين الذي زاروا المكان بمثل هذا التأثير والاستنارة”.
كانت الانطباعات التي سجّلها في رسائله المتعدّدة تتأرجح بين الارتفاع الروحي الذي اختبره في حضوره الخِدم في الأمكنة المقدّسة المُختلفة وبين القلق الحادّ، أو حتى الشعور بالخطر، ممّا لمسه في الحياة الروحيّة الكئيبة في تلك الأماكن نفسها: “آه، كم رأيتُ وتمتّعتُ بالجلالة غير العادية والرائعة. كلّ شبر من هذه الأرض مقدّس وتاريخي… يبدو لي أنني في الفردوس نفسه، وكما لو أنني أُعاين المسيح نفسه. …هنا حيث لديهم الكثير من الأسباب، الرموز والحوادث العجائبيّة، من المفترض أن يكونوا قدّيسين، إلاّ أن الشيطان يعمل هنا بشكل مضاعف… لسوء الحظ فإنّ كهنة أورشليم، مع بعض الاستثناءات، يدفعون المسيحيين إلى الهلاك. لقد ذهبت إلى الصخرة حيث اختبأ موسى ورأى مجد الله. لقد هزّني الإنخطاف في تلك اللحظة وانهمرت الدموع من عينيَّ: لقد أحسست بعذوبة وفرح روحي لم أشعر بهما من قبل… المسيحيون، في تلك الأمكنة، بحاجة ماسّة إلى كلمة الله. ينام شعبنا نوم عدم الإكتراث والتواني، بينما يقوم اللاتين والبروتستانت بالاقتناص والدعاية القويّة… لقد عاينتُ المناسك وأماكن الأساقيط التي أقام فيها الآباء النسّاك القدّيسون، فكانوا يعيشون في المغاور وثقوب الأرض يعاينون الحرمان والبلى وغيرها… لقد ذرفتُ الدموع السخية وأنا أقول: “أين الآباء الكليّو القداسة الذين أقاموا مرّة في هذه الصحراء والكهوف والثقوب، وهم الآن يرتعون في الفردوس؟ لقد أحبّ هؤلاء الموقّرون الطريق الضيّق والمُحزن. لا ينبغي أن نتردّد عن فعل ذلك بسبب الراحة المؤقّتة هاهنا لأنّنا سوف نُحرَم من الراحة الأبديّة. لذا، دعونا نُجبر أنفسنا على فعل ذلك”…
في سنة ١٩٣٠ رقد الشيخ إيروثيوس وبرغبة منه خلفه الأب فيلوثيوس في رئاسة لونغوفاردا. كان قد ذاع صيته كقديس. ويصفه تاريخ الدير على انّه “غني بكلّ فضيلة، موسوم بالتواضع الشديد، وذو علم واسع، ومُستحقّ المديح على كلّ الأحوال. فقد تجلّت بوضوح كلّ الفضائل التي تزيّنه: تقوى صادقة أصيلة، إيمان وثقة بالله لا يتزعزعان، ضبط للنفس، حبّ للعمل، حماسة للتسليمات الحيّة، تفانٍ في أعمال الدير، طاقة مميزة في الاعتراف والوعظ بكلمة الله، وفوق كلّ ذلك التواضع”.
بالرغم من واجباته الجديدة المترتّبة عليه بسبب رئاسته للدير، استمرّ الشيخ فيلوثيوس بالوعظ واستقبال المُعترفين مُحافظاً على رباط مع أولاده الروحيين.
علاوة على ذلك تحققت للشيخ رغبة طالما تمنّاها عندما صار باستطاعته سنة ١٩٣٤ أن يحجّ إلى القسطنطينيّة. هناك أيضاً سُرَّت نفسه بالكنوز الروحيّة في المدن. أثار إعجابه بشكل خاص الفخامة الرائعة لكنيسة الحكمة المقدسة. لكنّه، في نفس الوقت، كان حزيناً لأنّ الكاتدرائيّة كانت بيد الأتراك. “واأسفاه أيّها المسيحيّون” قالها بنوح، “كيف حرّكت خطايانا إلهنا الكثير الرحمة والجزيل التحنّن وأثارت سخطه حتى سمح بأن نُحرَم من كنيسته المقدّسة. أيّها الربّ إلهي، لقد حرمتنا من ذلك بعدل، فقد أظهرنا جحودنا نحوك أيها الإله الحقيقي”. لقد صلّى الشيخ بإلحاح لكي يُعيد اللهُ كنيسته التاريخيّة العظيمة للأرثوذكسيين في حياته فيستطيع تقديم الذبيحة غير الدمويّة. “لكن علينا نحن الأرثوذكسيين أن نمضي حياتنا بالندم والتوبة حتى نستحقّ هكذ عطيّة.” لقد انتهت هذه الرحلة لتكون الأخيرة للشيخ خارج بلاده.
لقد تقلّصت تحرّكات الشيخ بعض الشيء بسبب الحرب، لكن، في خلال ذلك الوقت، كان الدير مثل خليّة النحل في نشاطه. لقد جلب الإحتلالان الإلماني والإيطالي ضيقاً شديداً على سكان باروس الذين ابتلع عددهم بسبب تدفّق اللاجئين من البر اليوناني. وبسبب رحمة الله كان لدير لونغوفاردا محصولاً وافراً غير اعتيادي مكّنه من أن يتماشى مع كرم الدير، إذ كان يتمّ إطعام المئات يوميّاً. لاحقاً، تمّ إحصاء ١٥٠٠ من سكان باروس كانوا سيموتون من الجوع.
يقدّم أحد الحوادث التي جرت في ذلك الوقت برهاناً ملفتاً عن محبّة الشيخ الإنجيليّة. فقد قام بعض الجنود البريطانيين بمباغتة الألمان في باروس في إحدى الليالي، فقتلوا إثنين وأسروا البعض الآخر. فقام الإلمان، ظنّاً منهم بأنّ أهل باروس متواطنون، بإصدار أمر بإعدام ١٢٥ شاباً اختيروا بطريقة عشوائيّة باعتبار أنّ هذا الإجراء سيكون رادعاً لأيّ عمل من هذا النوع في المستقبل. بعد صلاة حارّة إلى السيّدة (بانتاناسا Pantanassa)، قام الشيخ فيلوثيوس بدعوة المفوّض الإلماني غرافونبارايبارغ إلى الدير. فكان الضابط متأثّراً بشدّة من الزيارة حتى أنّه اندفع متسرّعاً وسأل الشيخ أيّة خدمة يطلبها. بعد ان وطّد العرض بوعد من الضابط، طلب الشيخ بجسارة أن تتوقّف الإعدامات الموشكة الحدوث. عندما احتجّ الألماني بأنّ هذا الأمر ليس من صلاحياته، أصرّ الشيخ فيلوثيوس بأنّه، في هذه الحالة، يجب ان يُحصى مع الشباب المُزمَع إعدامهم، مُضيفاً: “سأعتبر هذه الخدمة المهمّة”. فقام غرافونبارايبارغ بإصدار أمره بالعفو عن الشباب.
إبتداءً من هذه النقطة، فإنّ سيرة الشيخ لم تَعدُ أكثر من تعداد المدن والبلدات حيث “استمع إلى الاعترافات ووعظ بكلمة الله”. في الوقت نفسه استمرّ بالإشراف على دير لونغوفاردا ورهبنتّين أخريين أُضيفتا إلى مسؤوليّته. لم يكن ذلك، قطعاً، حدود إنجازاته. ففي ملحق موجز لسيرته الذاتيّة كتب باقتضاب: “لقد اتبعت المسيح خلال حياتي القصيرة على هذه الأرض، فمنحني أن أكون جديراً ببناء ١٢ كنيسة، ديرَين، ثلاث مدافن، مدرستين… إلخ. وبعث إليَّ بالمال بواسطة مسيجيين مُحبّين للربّ فقُمتُ بتوزيعه على إخوته الفقراء الأرامل واليتامى”.
إضافة لذلك، فقد قام بكتابة عدد من الكتيّبات مُجاهداً بكلّ معنى الكلمة لاستنهاض همّة اليونانيين ليتخلّصوا من اللامبالاة الروحيّة ومُلهماً إيّاهم بالنماذج الإنجيليّة. وكتب، أيضاً، آلاف الرسائل النُصحيّة لأبناء روحيين من كلّ أصقاع العالم: أوروبا، أفريقيا، أميركا وأوستراليا.
يُحار المرء عندما يجد الشيخ ثابتاً لا ينهار من التعب، علماً بأنّه ينام قليلاً ولا يأكل حتّى الشبع. بالواقع إنّه يكتب: “أُقرّ بأنني في أحيانٍ كثيرة بعد سماعي الإعترافات طوال النهار وفي الليل… أكون مُنهكاً جدّأً حتى أنني أنام في السرير كالميّت وأنا أُفكّر بأنني لن أنهض بعد ذلك بل سوف أموت أو أمرض… لعدّة أيّام… على أيّ حال فإنني عندما أستيقظ في الصباح أشعُر بأنّني شُفيت وفي صحّة جيّدة. هذا ما يجعلني أتعجّب وأتساءَل أحياناً كثيرة، فأُدرِك ضعفي كما أُدرك نعمة الله (التي بدونها لا تستطيع أن نفعل شيئاً)، فأقول {لستُ أنا من يُجاهد بل بالأحرى نعمة الله التي تقوّيني}… سأكون مجنوناً لو أنّي تجرّأتُ على الإفتخار.”
في النهاية، فإنّ جسده، بالطبع، قد أُنهك تماماً. في شباط سنة ١٩٨٠ وقبل الصوم الكبير، كان الشيخ في دير سيّدة الآسية (مايرتيديوتيسا نسبة لشجرة الآس) و هو واحد من الرهبنتين التي أسسهما في باروس، استبّد به المرض. خلال الأشهر الثلاثة التي كان فيها ضريح الفراش استمر بالارشاد وإلهام الاخوات بما كان عليه كما بما كان يقوله. وفي وصف هذا الفصل الاخير من حياته الارضية كتبت الاخوات بشكل مؤثر كيف كان الشيخ يتلقى المناولة الإلهية: “بالرغم من أنه كان منهكاً جسدياً فقد كان يستعد قبل ساعات… وعندما كان يظهر الكاهن على باب قلايته كان يرفع يديه الضعيفتين و يصرخ من كل قلبه: {مرحبا بك يا الهي. مرحبا بك}. فيشترك بالمناولة الإلهية بقدر كبير من الخشية والشوق والندم كما لو أنها المناولة الأولى بحياته… فكان يتغير بكل معنى الكلمة… لمرتين كانت هيئته لامعة حتى أننا لم نجسر على النظر اليه. كان مملوءاً من النور الإلهي. بعد ذلك، كان يقول وهو رافع يديه: {خذني يا إلهي، خذني}. …كم أحبّ الله بصدق وبالكلية.”
في الثامن من ايار سنة ١٩٨٠ وبعد سبعين سنة من العمل المتواصل في كرمة المسيح، دخل الشيخ فيلوثيوس في الراحة المغبوطة التي هي جزاء المستقيمين. أجرى مراسم الدفن، وبحسب رغبة الشيخ، الأرشمنديت ذيونيسيوس (كالامبوكاس) الذي في دير سيمونوس بترا في جبل أثوس. دفن جسده هناك في المدفن في مكان كان قد اختاره قرب الكنيسة المكرّمة على اسم مرشده الروحي القديس نكتاريوس من آيينا. لاحقا، كتب الاب ذيونيسيوس نفسه في معرض مدحه للشيخ المبارك: “أيها الاب الكلي قدسه الدائم الذكر فيلوثيوس… لقد بقيت من طفولتك وحتى نهاية حياتك إبناً دائماً للربّ… وفي الوقت نفسه كنتَ راهباً متقشّفاً في دير لونغوفاردا، كنتَ ضابطاً نفسك، ناسكاً بالسر رسولاً وأباً روحيّاً لآلاف النفوس… إنّ طهارة جسدك ونفسك وروحك وعقلك لباهرة… بتواضعك اللامتناهي كنتَ تجذُب الملائكة الذين كانوا يأتون لمعونتك… لقد اكتسبتَ إلفة القدّيسين. لقد ارتبطت بهم حميعاً بمحبّتك لهم واحتفالك بتذكارهم في كلّ خدمة كنسيّة وفي صلواتك الشخصيّة… وصرتَ صديقاً لكلّ إنسان، لكلّ طبقة، لكلّ الأعمار، للنساء والرجال. لقد ربحتَ قلوباً لا تُحصى وجذبتها نحو الله.”
فليعطِنا الله أن نكون من بين الذين جُذبوا إلى قُرب الله عن طريق هذا المثال الشيخ فيلوثيوس المُبارَك.

عجيبة

لقد قال ربّنا بأنّ أتباعه سوف يقومون بعجائب كما فعل هو نفسه. من المؤكّد أنّ حياة الشيخ فيلوثيوس الُمبارك تُعطي برهاناً جليّاً على انتمائه إلى رسل المسيح الحقيقيين. هذا ما تؤكّده النعمة الغزيرة التي كانت له كصانع العجائب، في حياته ومماته. لقد ذاعت شهرته كأبّ إعتراف وتضاعفت بسبب استنارته وامتلاكه موهبة الرؤية: هناك العديد من الأمثلة عن قيامه بتذكير الناس بخطايا مُحدّدة كانوا قد نسوها أو أخفوها خلال الإعتراف. هناك حالات موثوقة لأزواج ذوي عُقر، فكانت النساء تحمل عاجلاً بعد طلبها شفاعة الشيخ. آخرون أخبروا عن شفاءات من تضخّم الغدّة الدرقيّة والغنغرينا وآلام الرأس الحادّة والأسنان. لقد سُجّلت حالة شفاء لافتة من قبل إفسطاثيا وأندراوس الذين من أثينا:
ولد ابنهما جورج في آذار سنة ١٩٦٣، كان يبدو طفلاً طبيعياً وبصحّة جيّدة، لكن بمرور الأسابيع توقّف عن الأكل. فشخَّص أحد أطبّاء الأطفال مرضه بأنّه تضخم الأوردة وكشفت فحوصات الدم إصابته بفقر الدم في حالة تتطلّب إعطاءه دماً بشكل مستمرّ. فكان التكهّن بمصير الطفل مروعاً. بعد بضعة أيّام من إدخاله إلى المستشفى، أشارت خالته بأن يذهبوا لرؤية الشيخ فيلوثيوس الذي كان قد وصل لتّوه إلى أثينا آتياً من باروس. فعلوا ذلك، ولكثرة تضرّع الأم بالدموع، رافقهم الشيخ إلى المستشفى.
كان التنفّس الضعيف للطفل هو العلامة الوحيدة المنظورة لبقائه على قيد الحياة. صلّى الشيخ ورسم إشارة الصليب على الطفل. ثمَّ وضع أيقونة والدة الإله على الوسادة. “ماذا يجب أن أفعل؟” سألت الأمّ المُضطربة. “هل أُبقيه ليموت هنا أم آخذهُ إلى البيت؟” “لا” أجاب الشيخ، “سوف يُسلّمكِ إيّاه الأطبّاء خلال يومّين أو ثلاثة. على أيّ حال، بعد سنة اجلبيه إليّ في باروس”. فصُعق كلّ من كان مُتحلّقاً حول المهد. “ماذا تقول يا أبتِِ؟” سألت ممرضة. “إنّ الطفل يُشارف على النهاية. من المُختمل أن يعجز الأطباء حتى عن نقل الدم إليه”. أجاب الشيخ: “إنكِ تفتكرين بأمر، والعذراء تفكّر بأمر آخر”.
في تلك الليلة ارتفعت حرارة الطفل وصار يتنفّس بصعوبة. عند الصباح هبطت الحمّى، وعندما قامت الممرّضة بأخذ وزنه أصابتها الحيرة إذ اكتشفت إنّ وزنه زاد حوالى سبعين غراماً: لم يكن الطفل قد تناول شيئاً منذ يومين”. كانت تلك عجيبة. في اليوم الثالث خرج الطفل من المستشفى. كان مكتوباً على أوراق الخروج: أنيميا (فقر الدم). أخذت الأم طفلها إلى الشيخ ثيوفيلوس لشكره على وساطته العجائبيّة. نادى الشيخُ الطفل: “الله هو الذي أنقذ موسى”.

* * *

المقال االسابق

المقال التالي

admin:
Related Post