X

بحث في التراث الأرثوذكسي

الزواج الصالح – 1

كيف يقوّض الشعور بالأحقّية الزواج

الأب جورج موريللي

نقلها إلى العربية الأب أنطوان ملكي

الزواج المسيحي هو دعوة سامية. حسبما يعلّم الرسول بولس، إنّه تكرار للعلاقة بين المسيح والكنيسة حيث المسيح هو العريس والكنيسة العروس. العرسان مدعوون إلى محبة عروساتهم والاعتناء بهنّ بالتزام خالٍ من الأنانية: “أَيُّهَا الرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضًا الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا” (أفسس 25:5).

الحبّ علائقي، وأيقونة المحبة النقيّة الطاهرة هي العلاقة بين الأقانيم الثلاثة (الآب والابن والروح القدس). نحن نلتقط لمحات من طبيعة هذه المحبة لأنها تفيض على الجنس البشري، خاصة في تضحية المسيح بنفسه على الصليب. يصف الرسول بولس هذه المحبة على أنها إخلاء للذات، خاصةً عندما تخلّى المسيح عن امتيازات الألوهة ليتّخذ الطبيعة البشرية لكي يخلّص الجنس البشري. المحبة كانت أمراً لا ريب فيه، نقية وكاملة إلى درجة أنّها أدّت إلى موته من أجلنا.

في الزواج المسيحي، تسعى المحبة الأصيلة الحقيقية إلى إعادة إنتاج التضحية التي كشف عنها المسيح لنا عندما صار إنساناً وسكن بيننا، والتي ما زالت ظاهرة اليوم في إخلاص المسيح لكنيسته. تعمل المحبة التي تضحي بنفسها وفق الوصية العظيمة بأن نحب أخانا أكثر من ذواتنا وبذلك نحبّ الله ونكرّمه. هذا النوع من المحبة بين الرجل والمرأة، حتّى وإن لم يكن ممارَساً ومحققاً دائماً بشكل كامل، يشكّل ما يسمّيه القديس يوحنا الذهبي الفم “الكنيسة الصغيرة” وبهذا يؤمّن صحّة العائلة ورسوخها لتربية الأولاد (الذهبي الفم، العظة العشرون).

هذه الدروس تؤكّدها خدمة الإكليل الأرثوذكسي، حيث يُستَدعى الروح القدس: “ضمّهما باتّفاق العزم وكلّلهما ليصيرا جسداً واحدًا وامنحهما ثمرة البطن وحسن التوليد”. ما من طلاقٍ بين الهدف الروحي للزواج والدعوة الأبوية. المحبة، المفهومة بشكل صحيح، موجّهة دائماً نحو الآخر، أولاً إلى الزوجة ومن ثمّ إلى الأولاد.

مشاكل الزواج: الشعور بالأحقّية

يسعى الشرير بلا كلل إلى تشويه محبة المسيح. الزواج والعائلة، بسبب تعقيد العلاقة الاجتماعية وبداهتها، هي حقل خصب لهذا التشويه. قد نظنّ أن إمكانية التشويه الروحي مبالَغ فيها، لكن حدوثها ممكن حتّى بين المسيح وكنيسته. ذكّر الرسول بولس كنيسة الكورنثيين: “إني خطبتكم لرجل واحد لأقدِّم عذراء عفيفة للمسيح. ولكنّي أخاف أنّه كما خدعَت الحيَّةُ حوّاءَ بمكرها، هكذا تُفسَد أذهانُكم عن البساطة التي في المسيح” (2كورنثوس: 2-3). إذا كان ممكناً أن تفسِد الكنيسة شركتَها مع المسيح، كم بالحَري هذا ممكن بين بعضنا البعض.

أحد مصادر الإفساد الخبيثة هو الشعور بالأحقّية. هذا يكون عندما يتولّد لدى أحد الزوجين أو الأهل شعور بأنه يستحق المحبة والرِفقة والسعادة والصدق والطاعة، إلخ… الشعور بالأحقّية يعمل يداً بيد مع التوقّعات، أي عندما لا يحسّ أحد أفراد العائلة أن الآخرين كانوا على مستوى المُتَوَقَّع منهم عند حدوث أمر ما، فيتولّد لديه الشعور بالغضب والتعرّض للاستغلال (أي بأنّه مُستَغَلّ).

منذ البداية، ينبغي الإشارة إلى أن بعض الأحداث تحقّق توقّعات مرجوة وغالباً ما تكون جسنة. تقع المشكلة عندما تتحوّل الأحداث إلى امتحان لنجاح التوقعات أو فشلها. بالتعابير الطبيّة، تتحوّل الخيارات المَرجوّة (الأفضليات) إلى توقّعات مطلوبة، حيث الفشل في تحقيق الأفضليات يؤدّي إلى مشاعر (عادةً الغضب) تُفسِد القدرة على تحقيق الأهداف المرجوَّة. غالبًا ما يكون حلّ هذا التضارب في تغيير الأهداف. بالحقيقة، الحاجة الفعلية هي إلى تحوّل في الإدراك بالعودة عن التوقّعات المطلوبة إلى الأهداف المرجوّة.

بعض الأمثلة قد تساعد في فهم الشعور بالأحقّية. إحدى الأمّهات تحسّ بأنّها تستحق محبة واحترام ابنتها: “فأنّا أمّها”. أحد الآباء يحسّ بأنّ على ابنه أن يستمع إلى نصائحه ويعمل بها: “أنا الأب؛ عليه أن يعمل بما أقول”. الأمر نفسه ينطبق على الزوج والزوجة: “أنا زوجته؛ عليه أن…” أو “أنا رجلها؛ عليها أن…” عندما لا يكون أحد أفراد العائلة على مستوى توقّعاتنا، قد نحسّ بأنّ من حقّنا أن نغضب. بالمقابل، قد نحسّ التفاهة (أننا تافهون) لأنّ توقعاتنا لم تتحقق، وتكون ردّة فعلنا الغضب، الإحباط،… في كلا الحالين، مَن تلتهمه هذه الأحاسيس يفشل في تحقيق النتائج التي يرجوها.

المفتاح هنا لفهم الشعور بالأحقّية هو في النظر إلى عبارة “الحقّ” في إطار الكلمة الأوسع. عندما نتوقَّع أمرًا ما استنادًا إلى امتيازنا (مثلاً: أب، أم، زوج، زوجة…) يكون تصرّفنا من منظار الأحقيّة. الحلّ هو في إدراك أنّ الامتياز لا يضمن أيّ سلوك محدد. الترياق للتوقعات المتطلّبة هو في تنمية الأفضليّات المتعلّقة بأعضاء عائلتنا على أساس المحبة، أي أن نفضّل ما هو صالح وملائم للشريك والوَلَد، أي أن نفضّل إكرام الأولاد لوالدَيهم بدل أن نطلبه، أو أن نعطي الأولوية للمحبة والاحترام المتبادَلين بين الزوجين. بدل أن نحوّل توقعاتنا إلى مفاهيم بلغة الأحقّية، يمكننا أن نضعها في إطار الدعوة للآخرين التي قد يقبلونها ليساعدوا ذواتهم.

لم يستعمل ربّنا أحقيّته ليفرض أيَّ أمر على أيٍّ كان. بالمقابل، اعترف بأنّ الطاعة والاحترام يُعطَيا بحرية. بالطريقة عينها، الاعتراف بأنّ كلّ الناس يمنحون الطاعة والتعاون بحريّة يرفع التوقّعات فوق معركة الميول، لأن التوقّع المتطلّب يتناقص. غالبًا ما يستنفر الناس عندما يحسّون بأنّهم مكرَهون على سلوكٍ ما، إذ يشعرون بالحاجة إلى إنقاذ ماء الوجه وحماية الهوية الذاتيّة. كيف يمكن للأزواج والأهل أن يتخلّوا عن التوقّعات المتطلّبة فيما في الوقت عينه يسبّبون ما يرجونه من السلوك بين افراد العائلة؟ أولاً، عندما يبتعد الأزواج والأهل عن الغضب والإحباط يزيد احتمال أن يكونوا أكثر فعالية في إحداث الأفضليّات التي يرجونها. ثانيًا، الطريقة الأكثر فعالية في تحقيق الأهداف العائلية الملائمة هي في إعلان الرغبات بشكل واضح مع النتائج في حال عدم تحققها. بالرغم من أن يسوع لم يستعمل أحقيّته ليفرِض بعض السلوكيات، إلا إنّه كان واضحًا في إعلان عواقب الاهتمام أو عدم الاهتمام بكلمته.

كمثال لفهم تطبيق هذا الأمر، لنأخذ ولدًا يكلّم والده بطريقة غير محتَرَمة. في إطار التوقّعات المتطلّبة، يمكن للوالد أن يجيب على قلّة الاحترام بأساليب عاطفيّة، ربّما بالغضب أو حتّى بالتقريع لأن أحقّيته كأبٍ لم تُحتَرَم. المقاربة البنّاءة الموزونة هي في وضع الأحقّية جانبًا مع ما ينتج عنها من توقّعات متطلّبة، والتعبير عن المشكلة بعبارات التوقّعات المرجوة. يمكن للأب أن يقول: “نحن لا نكلّم بعضنا بعضًا بهذه الطريقة، أنت أُخبِرت سابقًا أنّك في حال استعمالك لتعابير غير لائقة، لن يُسمَح لك بحضور التلفاز اليوم، لذا الليلة سوف تكون بلا تلفاز، وحاولْ مجددًا غدًا”. العواقب، لا الانفجارات العاطفية التي تنتج عن الأحقّيات الخائبة، تؤدّي إلى التغيّر المرجو في السلوك وتشديد حياة العائلة.

الزواج وموهبة العائلة الأرثوذكسيين هما في أن يكون الإنسان زوجًا أو أباً على مثال المسيح. الشعور بالأحقّية هو عمل الشرير الماكر وهو يهدد الوحدة الضرورية لتحقيق أهداف هذه الدعوة الإلهية، وقد يدمّرها. لذا على الإنسان أن يوجّه ويعلّم وقبل كلّ شيء أن يحبّ امرأته وعائلته بفهم ورحمة وصفح، كما يحب المسيح كنيسته.

admin:
Related Post