X

بحث في التراث الأرثوذكسي

الشهيد داود الحلبي1

( 28 تموز 1660م )

هكذا ارتسمت صورة داود الحلبي لما دنت ساعة شهادته بدمه للمسيح: رجلاً رومياً أرثوذكسيا، متزوجا2، ذا أربعة أولاد وأم عجوز تعهّدها، غنياً، عامل خراج سابقاً أميناً شهد الناس لاستقامته، حاد الطبع، ثابتاً في قناعته، يقول الحق متى احتدت روحه فيه كائناً ما كان الثمن. لا يحابي الوجوه ولا يأبه لوعيد. وقد كان له من العمر لما قطع الأتراك رأسه خمسون سنة.

فإذ أخذ مكانه في الجباية رجل ظالم حسود أثيم اسمه يوسف، ضاق هذا الأخير بداود ذرعاً لما كان القوم يعيبون عليه سيرته وسوء معاملته لهم وادين لداود ذكراً طيّباً على استقامة في السيرة وحسن في الشميلة دون خلفه. فلما بلغ يوسف من الغيظ أبلغه واشتدت به أفكار السوء، عزم في سرّه على التخلّص من غريمه. فحاك له في نفسه حيلة نكراء من بطون الأبالسة دهاء.

كان يوسف عالماً بكون سلفه حاد الطبع، سريع الغضب، فأوفد اليه وكيله الجوّال برفقة شاهدين اثنين من المسلمين. فما أن التقوه حتى بادره الوكيل بالقول ان عليه ضريبة لم يسدّدها هي ضريبة الطرابيش. لبس الطربوش، يومذاك، كان يخضع للضريبة، والطرابيش على ألوان، وليس مأذوناً للمسيحيين أن يلبسوا منها الا ما تلوّن بالأزرق المخطّط بالأبيض. فاعترض داود مؤكداً أنه سبق له أن سدّد ما عليه. وإذ كان همّ المتحرّشين به إثارته وإخراجه عن طوره، أساؤوا معاملته وضربوه بالقضبان فصعد الدم الى رأسه واغتاظ حتى ذهب الغيظ بصوابه فأمسك طربوشه وطرحه أرضاً وصاح: “ماذا ! أيكون حالي أسوأ من حال الأتراك، ولأني مسيحي تستحلّون اهانتي وتسيؤون اليّ على نحو ما تفعلون؟!” ولكن، تمثّل الوكيل ورفيقاه تهدئة الرجل وتعميمه وانصرفوا وعاد داود الى داره.

فلما بلغ الدار طالعته أنظار أهل بيته في دهشة واستغراب. ماذا على رأسك؟! كان على رأس داود لا طربوشه المعتاد، الأزرق المقلّم، بل طربوش آخر، أخضر اللون محظر لبسه على غير الأتراك المسلمين. وإذ أخذ داود يضرب أخماساً بأسداس لا يدري أفي اليقظة كان أم في المنام، فيما أهل بيته يستسترون الله عاقبة، أخذت أصوات الطبول والمزامير تتردّد في البعيد ثم تعلو وتشتدّ وكأنها تدنو من الدار. ماذا هنالك؟ مرسلون من القاضي أتوا، بهرج ومرج، يهنئون داود على انتقاله الى الإسلام ويكتتبونه ويعدّونه للختان. ألبسوه طربوشاً إسلامياً، على غفلة منه، وأشهدوا عليه اثنين أمام القاضي فحسبه على الإسلام! وإذ فطن الرجل الى الحفرة التي سعى المحتالون الى إيقاعه فيها، هتف: “معاذ الله أن أتترّك، فأنا مسيحي وعلى دين المسيح أموت”. ثم تناول الطربوش التركي وداسه بقدميه والتفت الى المقبلين اليه وقال: “عودوا الى معلّمكم وقولوا له إني لا أستفظع شريعة أكثر مما أستفظع شريعته… والطربوش الذي وضعوه على رأسي، على غفلة مني، قد جعلته تحت قدميّ ودسته على مرأى منكم لتعلموا التصاقي بيسوع المسيح”. فوثب عليه الناس وهم  يقذفونه بالصيحات والشتائم وتطايرت أيديهم وأرجلهم عليه لبطاً ولكماً. ثم قيّدوه في يديه وجرّروه الى “المتسلّم”، ونائب الباشا، فاستجوبه ثم أحاله الى القاضي، فتودّد اليه القاضي وأسبغ عليه من المواعيد أحلاها فلم يلق منه غير الخيبة، فردّه الى “المتسلّم” فلم يشأ أن يلقيه في سجن العاديين بل جعله في السرايا مكبّلاً بالسلاسل والحديد، في مقصورة من مقصورات المحكومين بالإعدام.

أقام داود في السجن شهرين كاملين سعى غرماؤه خلالها الى كسر مقاومته بشتى الطرق فلم يفلحوا. هدّدوه مرّات بما سيؤول اليه حاله وحال أهل بيته. جدّدوا وعودهم لهم بالخير العميم اذا أذعن. أفلقوا رجليه بالقضبان مرّات. ألزموا والدته وزوجته بالوقوف أمامه والبكاء عليه والطلب اليه أن يرضخ ولو في الظاهر ويبقى على مسيحيته في السرّ فلم يستجب لندائهم ولا أخذ بالتماسهم وإن آلمه الحال أشدّ الإيلام، واضطربت نفسه واهتزّ كيانه. لكن الرب الإله شدّده فثبت على الإيمان قويماً.

أخيراً استحضره الباشا وقال له: “ألا اعلم، يا كلب، اني ما زلت بعد رئيفاً بك. أستحلفك بالله العليّ العظيم أن تعترف بشريعة النبي العظيم فإن فعلت أكرمتك ومنحتك كل ما تحتاج اليه لتسعد أنت وأهل بيتك، وإن لم تفعل أزهقت روحك وجعلت الحياة على ابنك أسوأ من الممات”. فأجاب داود انه لم يسبق له أن قبل بدين محمّد ولا نيّة له في قبوله الآن بل هو باق على دين المسيح وهو مستعد لأن يموت من أجله. فعصب الجلاّد عينيه ورفع السيف فوق رأسه، وهوى به عليه، فأصاب كتفه الأيمن، عن قصد، ليرهبه. كلمة واحدة كان بإمكانها أن ترفع السيف عنه فلم يتلفظ بها. ثبت على الأمانة للمسيح! وهوى السيّاف بالسيف ثانية عليه فأصاب كتفه الأيسر فقطع بعضه. وارتفع صوت داود: لست أقبل بغير المسيح ديناً! فهوى السيف ثالثة فقطع رأسه وتمّت شهادته. حدث ذلك في الثامن والعشرين من شهر تموز من السنة الميلادية ألف وستمائة وستين.

في اليوم التالي، التاسع والعشرين من تموز، رأس الخدمة البطريرك مكاريوس ابن الزعيم (1647 – 1672م) بحضور البطريرك السرياني والبطريرك الأرمني وخمسة أساقفة آخرين وأعداد من الكهنة وجموع حاشدة من أهل حلب. كانت الخدمة خدمة الشهيد. وقد واراه الثرى أربعة من الأساقفة، من الروم الأرثوذكس.

ــــــــــــــــــــ

الحواشي

ـــــــــــ

(1)      هذه السيرة استمددناها مما وضعه عنه ايلي ضنّاوي بين أيدينا مشكوراً من أخبار وتقارير الإرساليات الأجنبية وقنصل فرنسا في حلب François Picquet (1652-1662م) في ذلك الحين. أنظر في هذا الشأن:

+  Goyau, Georges, “Le rôle religieux du consul François Picquet dans Alep (I652 – I662)” dans Revue d’Histoire des Missions, Tome XI, I934 P. I6I – I98

+  “L’âge d’or des Missions Latines en Orient (XVIIe – XVIIIe siècles)” dans L’Unité de l’Eglise, 8I (I936) P. 784 – 789.

+  Goyau, Georges, “Un précurseur: François Picquet…”, t.2 Institut Français de Damas, Paris I942, P. I03 – II4.

+  “Briève Relation de la Mission d’Alep en I662”, Archives Nationales, Paris, L. 932 n. 4, P. 450 – 460.

(2)      ولد داود وترعرع وعاش رومياً أرثوذكسياً. ولكن، ذكرت المصادر الأجنبية أن أحد المرسلين الكرمليين، الأب Bruno de St – Yves ، وهو رئيس الكرمليين الحفاة في حلب، تمكّن بهمة القنصل Picquet من الدخول الى الزنزانة التي كان داود محتجزاً فيها واقتنصه الى الكنيسة اللاتينية. كما ذكرت المصادر عينها أن القنصل الفرنسي اشترى جسده بالذهب بعدما جرى قطع رأسه. ولما ووري الثرى كتب على قبره باللاتينية ما ترجمته: “هذا هو داود الذي عاش قبلاً مفصولاً عن الرأس. وهو ملتصق الآن بالرأس بثقة ولو جرى قطع رأسه . فإن موته حياة بعدما كان عائشاً في حال من الموت؛ لأن الحياة من الرأس الأوحد تنساب كما يعلّم الإيمان الأوحد”. وقد ذكر أن وهبة (الله)، ابن الشهيد، انضم الى الكرمليين، فيما بعد، واتخذ اسم David de Saint – Charles ، تيمناً بأبيه، ودرس في روما ومات قاصداً رسولياً وأسقفاً على إزمير.

من المفيد أن نذكر شيئاً عن المرسلين الأجانب ومناخهم الذهني في حلب يومذاك. هؤلاء كانوا من الكرمليين والكبّوشيين واليسوعيين. استقروا، في المدينة، في العشرينات والثلاثينات من القرن السابع عشر. وقد جاؤوا الى البلاد السورية مشبعين بالفكرة البابوية أن من ليس من إيمان بابا رومية وخاضعاً له وفي شركة معه فهو خارج عن الكنيسة. على هذا رمى المرسلون، بكل قصد حسن، الى استعادة من أسموهم “الانفصاليين والهراطقة” معتبرين أنفسهم “ملزمين بتوفير العناية لهم لإعادتهم الى حضن الكنيسة ووضعهم، من جديد، على درب الخلاص”. الانفصاليون، في نظرهم، كانوا الروم، الذين أسموهم “اليونانيون”. أما الهراطقة فكانوا السريان والأرمن والكلدان. قبل وصول القنصل Picquet كان عمل المرسلين محدوداً ومحفوفاً بالمضايقات والمخاطر، كما كان أكثره في الخفاء. فلما جاء Picquet الى حلب، قنصلاً، وفّر لهم الغطاء الأمني والدعم المالي والسياسي حتى بدا عمله في خدمة الإرساليات الأجنبية أبرز بكثير من عمله القنصلي. كل هذا أمّن للإرساليات امتيازات شجعتهم على الخروج من تواريهم وبدّدت مخاوفهم فأضحوا مقدامين جسورين يتحركون بثقة وحريّة دون سائر المسيحيين المحلّيين. في إطار المناخ الجديد، بات همّ المرسلين الإفادة من كل الفرص المتاحة لاختراق الكنائس المحلية. هنا لا بد من الإقرار بأن الغاية، بالنسبة لهؤلاء المرسلين، كانت تبرّر الوسيلة. فقد سعوا، عبر Picquet ومعه، الى كسب الدعاية لأنفسهم، بكل الطرق الممكنة. ولعله من الصعب التفريق بين ما كان لـ Picquet وما كان لهؤلاء المرسلين لأنهم كانوا جميعهم يعملون يداً واحدة وفكراً واحداً. ولا شك أن Picquet كان رجل علاقات عامة من الطراز الرفيع، عرف كيف يستميل الباشا وغيره من الموظفين الأتراك بالهدايا والمال، كما عرف كيف يتقرّب من البطاركة والأساقفة من خلال الموائد والخدمات والمساعدات، وكيف يعكس عن نفسه صورة الرجل الشعبي، من خلال بذل الأموال لإطعام الجياع وفضّ المشاكل.  ولا شك، قبل ذلك كله، أنه كان يعرف جيداً كيف يجيّر كل هذه الخدمات لصالح الإرساليات. من جهة أخرى لم يكن Picquet والمرسلون ليتورّعوا عن التآمر واستغلال النفوذ السياسي لتمرير مخطّطاتهم وضرب السلطات الكنسية المحلية. من ذلك مثلاً اختيار وتنصيب اندراوس Akidzian السرياني المنشق رئيس أساقفة على السريان في حلب، بعد وضع اليد عليه من قبل البطريرك الماروني في دير قنوبين (!) ثم استصدار فرمان من السلطان التركي في اسطنبول يأمر باعتراف الملّة السريانية، في حلب، به تحت طائلة الموت شنقاً. إثر ذلك فرّ البطريرك السرياني من حلب ودخل الكهنة السريان في صراع مع رئيس الأساقفة المزعوم. وقد استمر الصراع الى أن اضطر   Akidzian  الى الخروج من حلب. ولكن حدث، بعد مدة، أن جريمة حصلت في حي السريان ففرض الأتراك على أهل الحي أن يدفعوا مبلغاً من المال عقاباً لهم. وإذ تحيّر القوم في أمرهم ولم يدروا كيف يتدبّرون تدخّل Picquet مستفيداً من الفرصة ودفع المال عنهم، فجاؤوه شاكرين ممتنين فجعل ثمن خدمته لهم أن يخرج الكهنة الذين قاوموا Akidzian للبحث عنه وإعادته رئيس أساقفة أصيلا على حلب (!).

في هذا المناخ الاقتناصي الانتهازي المنحرف تحدثت مصادر الإرساليات، بإكبار(!)، عن انضمام داود الشهيد، الرومي الأرثوذكسي المرتع، الى الكنيسة اللاتينية. ولم ينس اللاحقون أن يلفتوا الى أثر ذلك على الكهنة والناس الذين صاروا يقبلون على المرسلين بغيرة وحماس لم يعهده المرسلون، من قبل، في حلب.

)عن القديسون المنسيّون في التراث الأنطاكي للأرشمندريت توما بيطار(

admin:
Related Post